إفلات الأصابع، صراع المتن والهامش

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يوسف نبيل

في عالم شديد التعقيد يحوي صراعًا بين كافة مكوناته؛ بين وجوده وعدمه، واقعه وخياله، حقيقته وزيفه، مرضه وصحته، هروبه والإمساك به، يقدم لنا محمد خير روايته الجديدة: إفلات الأصابع الصادرة عن الكتب الخان.

تطرح الرواية تساؤلات متصاعدة، تبدأ من المحاولة التي سيبذلها القاريء في فهم العلاقات المختلفة بين حكايات كثيرة ومدهشة، وشخصيات عديدة، يبدأ محمد خير في نسجها من بداية الرواية، وتبدأ تتكشف قبل النهاية طبيعة تلك العلاقات حتى يجد القاريء نفسه أمام مفاجآت مذهلة تعيد إليه الشك والريبة ثانية في صحة فهمه للرواية وشخوصها وأسئلتها. 

وبسبب التعقيد الشديد في بناء هذه الفسيفساء الدقيقة، وهذا العالم الذي تتجاوز فيه كافة المتناقضات، فإن أي محاولة للتفسير قد تكون قريبة أو بعيدة عن قراءة أخرى للعمل، بقدر نجاح القاريء في فهم طبيعة تلك العلاقات المتشابكة من جهة، وبقدر الجانب الذي يجد القاريء فيه قربًا وجذبًا أكبر يغريه بمحاولة التفسير، بعد أن ينتهي من عملا ممتعًا معقدًا.

هناك خطوط عديدة في الرواية، ومنها خط رئيسي عن صحفي يدعى سيف يصاحب شخصية غريبة لرجل يُدعى بحر من المفترض أنه جاب بقاعًا عديدة من العالم وهرب من مصر وعاد إليها مجددًا ويود أن يكتشف أماكن كثيرة ذات حكايات متعددة، وقد اختار سيف الصحفي ليصحبه في هذه الرحلة، وهي رحلة قد وافقت عليها المجلة التي يعمل بها سيف كى يكتب تقريرًا عن كل تلك القصص والأماكن لصالح المجلة.

يلتقي القارئ طوال الرحلة بقصص غريبة للغاية، وتظهر شخصيات في بداية الرواية لا نفهم علاقتها ببناء العمل إلا قبل النهاية بقليل، وتتشكل الفسيفساء تدريجيًا حتى يكتمل البناء السردي بلغة غير متكلفة بالغة الرقة والشعرية،.

تدور أحداث الرواية على خلفية وطن مهزوم وأبطال مهزومين، يحاولون الفرار من كل شيء حتى بالتلاشي كاملا وسط غياهب العبث الذي يتجلى بصور متنوعة في الرواية… سواء بالعنف الجسدي المباشر كالمشهدين البديعين للتعذيب من قبل الشرطة اللذين أبدع محمد خير في سردهما، أو بحكايات تصل إلى تخوم الغرائبية بنكهة خاصة مثلما نجد في حكاية نشطاء الوقت، وحكاية هروب قرية بأكملها إلى الخارج مرة واحدة.

في ظني أن أحد التيمات الرئيسية للرواية هي فكرة القهر والهزيمة… الهزيمة التي امتدت إلى كل جوانب المجتمع حتى زعزعت الأساسات كاملا، وأصبح كل شيء مشكوكًا فيه، حتى وجود الشخصيات ذاتها. إننا نكتشف في نهاية العمل أن بحر شخصية لا وجود لها وأنها من صنع مخيلة سيف، وفي الوقت ذاته تساورنا تساؤلات عديدة حول الشخضيات الأخرى ووجودها من عدمه. الخلفية السياسية وهزيمة الثورة كانت حاضرة دائمًا في هامش الرواية الذي كان يصارع المتن المكون من حكايات أخرى عديدة، ويطل علينا محمد خير بأوجه السلطة، تارة بشكل مباشر كما نجد في أقسام الشرطة، وتارة بشكل غير مباشر كما نجد في محاولات الهروب المستمرة إلى الخارج، وفي ضغط رئيس المجلة على سيف الصحفي لكتابة مقال منافق في مديح الرئيس، وتارة بشكل غرائبي، وذلك الأخير  وصل فيه محمد خير إلى مشاهد يمكنني أن أعدها بحق أنها تشكل ذروة العمل من الناحية الفنية والتصويرية. يفاجئنا مثلا الكاتب بحكاية غريبة عن الوقت حينما تكتشف الدولة توفر وقت فراغ لدى موظفيها يوميًا يصل إلى ساعتين، وعندما يضرب هذا العدد في عدد الموظفين نصل إلى أرقام مفزعة من الساعات، وهي ساعات تخشاها السلطة لأنها تعلم أنها ستتيح الفرصة للمواطنين بالتفكير، فتقرر عمل خطة سرية لإهدار الوقت كاملا، وهي ما تفسر الرحلة البيروقراطية العبثية التي تمر بها الاجراءات الحكومية في كل مكان، ويقص لنا الكاتب تلك الحكاية بإمتاع وحرفية شديدين… نفس الغرائبية التي نجدها في بيوت قرية فقيرة تقع على تخوم منطقة زلازل فتصبح البيوت بلا أسقف خوفًا من تساقط الأسقف على رؤوس أصحابها، ويوضع كل شيء في زاوية المكان، ويعتاد الناس الزلازل ويرقبون أثناء النوم تحرك الأثاث من الزاوية صوب منتصف المكان إثر قوة الزلزال، ولا ينزعجون، ويعيدون كل شيء إلى نصابه.. نحو الزاوية الضيقة التي يعيشون فيها… نحو الهامش، فقد أصبح المتن عنيفًا بما فيه الكفاية لذا قرر أبطال العمل الارتحال كاملا إلى الهامش… إنها حكاية إذن عن الهامش… حكاية عن معتقل يتم تعذيبه ويشتهي أن يصبح حشرة بلا كرامة حتى لا يتألم، وحكاية عن معتقل يأمرونه باغراق فأر صغير، ولا يتذكر الحكاية إلا وهو يقتل شخص آخر، ثم نكتشف في النهاية أن القاتل – بحر – لا وجود له… نحن إذن أمام كاتب قرَّر أن يضع القاريء من البداية وسط متاهة سردية مفزعة تحوي عالما يتداعى.. عالمًا مهزومًا لا يمكنه أن ينهض مرة أخرى فهو حتى لا يدرك إن كان حيًا أم ميتًا، وسط حكايات شديدة الغرابة مكتوبة بلغة شعرية حقًا.

إلا أن هذا التعقيد الشديد يطرح تساؤلات عديدة أمام القاريء، فهل هذا الشكل الروائي قد خدم العمل أم كان مفرطًا في الغموض؟ إنها قرارات الكاتب التي لا يمكن بالطبع التدخل فيها، وهي أمور يختلف فيها الحكم حسب الذائقة، إلا أني أظن أن الإفراط في التعقيد والتشظي أصبح سمة رئيسية لكثير من الأعمال المعاصرة، في عالم فقد كل مركز وكل حكاية رئيسية، وكل معنى، وهذا سيعيدنا دومًا إلى التساؤل ذاته حول وجوب هذا التعقيد من الناحية الفنية أم لا، وأعتقد أن التعقيد كان مفرطًا، حتى في عنوان الرواية. كما عرض الكاتب لنا صراعات عديدة، أعتقد أنه واجه صراعًا هو الآخر يتعلق بين العلاقة بين الشكل والمضمون… الشكل الذي تجلي في تقسيم الرواية إلى فصلين رئيسيين يبدأ كل جزء فيها بعنوان مستقل، ثم خاتمة الرواية بعنوان: بعد النهاية. بعض القصص مثلا التي جاءت في البداية المبكرة مثل الفصل الثالث بعنوان: “كنت فين يا علي” لن يتضح مكنونها إلا قبل النهاية بقليل… هذه الجرعة المكثفة من الغموض قد تجذب القاريء إلى إكمال العمل، وقد تسبب له إرباكًا قد يكون من الحكمة تقليله بعض الشيء… بالإضافة إلى هذا هناك تساؤلات أخرى حول الشكل مثل بعض القصص التي سيحاول القاريء فهم علاقتها بالمتن الروائي – رغم جمالها في حد ذاتها – مثل قصة المغني الذي لا يستطيع الغناء بشكل سليم غير متلعثم إلا أمام امرأة واحدة توظفه للغناء في غرفة نومها حتى يمكنها أن تنام… حتى وإن أفادت هذه القصص الصغيرة الرواية من حيث إثراء المعنى الدلالي إلا أن الرواية تتطلب قدرًا من التماسك يجعلها عملا متماسكًا حتى في تفتته، ويجعلها تستحق اسم راوية بدلا من مجموعة قصصية أو متتالية قصصية.

لا شك أننا أمام عمل روائي مميز، وروائي يمتلك أدوات قوية ولغة رائعة يمكنه أن يطرح بها عملا فارقًا من الناحية اللغوية والدلالية، ويطرح تساؤلات عديدة عن الشكل والمضمون على السواء.

مقالات من نفس القسم