فئران أمي حصّة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمل إدريس هارون

مبتدأ

تبدأ الرواية على مشهد معدني كما يقول التعبير الفرنسي ، نصطدم بالتراب والدم والحر والعرق والأرض التي تبدو قاسية وعلى الراوي الذي يستفيق مما يبدو أنها حادثة ، غير واضح متى ولا أين ، ضائع هو ونحن معه ، الدخول يبدو بطيئاً .... ثم رويداً رويداً ندلف إلى الطريق الذي يأخذنا إلى قلب الراوية وإلى عصبها عبر ممرات الطفولة وإنسانية وربما شمولية أبطالها ، نرتبط بها نظن أننا بمأمن عن ألمها وألم أبطالها ، نضحك على أمي حصة وعلى ردوها الساخرة اللاذعة ثم نبكي بعدها كثيرا كثيرا ونكتشف أننا نقرأنا بشكل ما ، تقبض علينا الرواية في خفة ولا تعتقنا إلا صرعى الخوف والطاعون والموت الذي لا يستدعى أي معنى سوى العبث والفوضى ويترك الأحياء موتى على قيد حياة ليست كالحياة ... ونحن معهم ... فالموت بلا معنى ، فوضى للأحياء .

 

الذاكرة – البطل

البطل في هذه الرواية المخادعة القاسية الساخرة هي الذاكرة (مكاناً وزماناً)، الذاكرة ككائن ضخم يبتلع الحاضر والمستقبل ، الذاكرة تبدو هي فقط من يتمتع بالقوة والحياة والمنطقية والجمال ، الذاكرة التي تتمتع بالديناميكية لأفراد يعيشون فعلاً ، لهم ذوات و لهم بيوت ، لهم هياكل مرئية ومحسوسة وسليمة  ، لهم ذكريات داخل الذاكرة ، لهم اقوال وألسنة وهيئة انسانية ، ذاكرة ببناء وكينونة ، أمامها الحاضر (التاريخ والمتخيل الأفظع القادم) يبدو  كفواصل متوقفة ، الأشخاص مبتورون حباً او كراهية او فقداً أو حنيناً أو خوفاً .. الحاضر ما هو إلا فواصل من ذاكرة.

ذاكرة بطيئة متمهلة في البداية تؤسس للمشهد ، ساخرة ممتعة  وحيوية في المنتصف ، ثم لاهثة ، قاسية تضرب في مقتل ، حتى النهاية تتواتر وتوترنا في زخم مفجع ، موجع ، ثم تنتهي وقد أصبحت ذاكرتنا جميعا أصبحنا مثل بطلها ال “ملعون ” بالذاكرة ، أصبحنا متورطين بقدوم الطاعون …

الطائفية- المنقذ لشعور بالتدني وتأزم المكون الإنساني

الملفت في الحضور المستمر لرغبة الأبطال في تقسيم البشر إلى رافضة ونواصب هي استدعاء التفكير في أمر إعتدنا عليه دون التوقف بالدهشة الحقة أمامه: لماذا يحتاج المرء للشعور بالتمييز والسيطرة على صوت الله ليصبح هو الممثل الوحيد له والباقي يخرجون ؟؟؟ لماذا هذا الحضور الذي يصيب المستقبل (الرواية تنتهي 2020 في استشراف عجيب لما سنصبح عليه) بالطاعون ، ويصبح مروجوه  الفئران التي ستحمل لنا الطاعون؟؟؟ لماذا يشعر أي إنسان بالاحتياج المُلح لاحتقار من يختلف عنه : سواء كان اختلافاً طائفياً أو إختلاف هوية أو ما إلى ذلك؟ هل لأننا نشعر بالخواء والدونية والجهل وشعور عميق بالنقص لا يتحلى بأي تواضع للإعتراف أننا أفسدنا حياتنا وحياة أجيال ستأتي ؟؟؟ ولكنه خواء مرعب ودونية مدمرة تتغذي كالعقبان على الدماء وشطر الإجساد لإسكات هذه الأصوات الداخلية التي تهمس لنا بأننا مخوخون بلا أي محتوى يستحق ،و أننا لااكتمال أو إزدهار لنا سوى في مملكة الكراهية والدماء والفرقة لأننا نشعر بالدونية ولا نمتلك قدرأ من الإنسانية يسمح لنا بتقبل الغريب- المختلف ، تتضخم الذات لتصبح سرطاناً يمثل عبئاً في خطره على الانسان وأصبح يمثل خطراً على الأوطان. يتحلل مكوننا الإنساني الأصلي وتختفي دوائر الهوية لنصبح فقط صوت الله ، المطلق الحق ، اليوتوبيا المنشودة ، اليقين الثابت ، وكلها تعكس تخلخلاً عميقاً في الإدراك للأشياء وللحياة وحتى للذات..

ولكن  الماضي يمسك بتلابيبنا ، الماضي الذي صنعوا صورته كوحش يبتلعنا ، وروجوه أنه اليوتوبيا التي سنصبح عليها ، إذن يجب شد الحاضر والمستقبل نحو الكمال ، نحو الفضيلة ، نحو الله ، ونسوا أننا بشر لأننا بالضبط غير كاملون وكلما أخطأنا كلما أصبحنا أكثر إنسانية  …

نساء – رجال سعود:

المرأة هي عمود الخيمة ، هي التي تعطي معنى واتساقاً للفعل ورد الفعل ، المرأة هنا قوية بكامل إرادتها وهو شيء لافت جداً ، المرأة هي التي تمتلك الرد الصحيح والفعل الصحيح في وقت الحسم ، الرجال مشوشون ، غير قادرون على الفعل ، أو على الأرجح قادرون على تحجيم الفعل أو إلغائه ، هم رسل الكراهية والحرب ، هم الفئران التي تحمل الطاعون ، هم الذين يشعرون بدونيتهم ،لأن المرأة – على الأقل – تصنع الحياة ، وهو شرف يكفيها، الرجال : عباس وصالح تسكنهم أفكار تلعب بهم ، مثل ما قال أمي حصة على إبنها صالح  أنه أسير كلمة “تجيبه وتوديه” ، المرأة تصنع الحياة وتمنحها المعنى والاتساق والجمال…

أمي حصة

 هي التراث ، هي الذاكرة ، هي الإنسان في صورته المطلقة ، الحقة ، وما يجب أن يكون عليه ، ليس لأنها تستدعي الذاكرة الحية ، المورقة ، العفية ، أو الحنين لأيام كان بها اتساق ما ، لا ، لأنها هي ميراثنا جميعاً من المحيط الى الخليج ، أو ربما من أقصى الأرض لأدناها ، هي شعاع النور ومخزن الحكايات وصانعة الرجال والنساء ، هي روعة أن تكون بشراً ، هي من تعطي للمعنى اتساقه بردودها القوية الساخرة ،المستترة تارة الحاسمة تارة اخرى ، هي خليط من جداتي لأبي وخالتي الكبيرة ، بنفس الألفاظ ، بنفس المعرفة الشفهية وربما بنفس الحكايات والأوامر والنواهي التي تنصاع لها وتدعو الأخرين للإنصياع لها، بنفس الورع ، وبنفس حب الجميع طبقاً لقواعد أقامها القلب وليس الشيخ ، بنفس تلك العلاقة المرحة مع الرب ، التي لها رائحة الطيب والمسك ، التي لها البعد الغرائبي الحنون الموصول، هي السند ، وهي – يا لسخرية القدر- الأمل .

أمي حصة هي خط قائم بذاته ، يمكنه أن ينسج رواية لحالها ، لأنها خاصة ولأنها إنسانية في نفس الوقت ، كم أضحكتني وكم أبكتني وكم رققت قلبي وكم تمنيت أن أراها طول الرواية ولو ترهلت ولو انتهت نهاية غير واقعية

فوزية

فوزية هي الوطن في صورته الأنثوية الهشة ، الذي نتذكره جميلاً والذي إنتهى به الأمر ، محبوساً ، بلا بصر ، بلا شعر طويل يصل لأسفل الظهر ، الوطن الحبيس ، الذي يقرر أمره رجل ، ويقهره رجل ، فوزية ينتهي بها الأمر مريضة ، وجهها خرائط لأوطان غير معروفة من بهاق ، يا لها من صورة ، وشاب الشعر الفاتن ، حتى أنها نست أنها كانت تبصر يوماً ما … الحب معها ولها مستحيل يكتفي باستدعاء عالم عبد القدوس المشبوب الذي يعوض المحرومين والتعساء عن الحب..

إلى أين يذهب الوطن ؟؟؟ الوطن  هو أيضاً الميراث، هو أيضاً الذاكرة ، هو أيضاً العائلة والبيت والنخلات الثلاث ومطبق السمك والمرأة ، المرأة التي تدفع الثمن مضاعفاً في كل مرة ، التي تعطي اتساقاً للحياة وبعض الجمال لمعاني الفقد والموت  …

حكاية الفئران الأربعة – إرث النار

لم تحكها أبدأ أمي حصة ، ولكننا كنا نقرأها طوال الوقت ، هي بناء الرواية نفسها التي تتخذ من أطوار النار الأربعة  مساراً لها : شرر، ثم لظى ، ثم جمر، فرماد، حتى أنها لها إسم أخر داخلى : إرث النار ، التي يتحدث عنها داخل الرواية وعن نشرها، كأنه يخبرنا أن كل ما نقرأ حقيقة وأنها ذاكرته وذاكرة الكويت، لندرك أخيراً أنها ذاكرتنا أيضاً ….

السرد

سعود بارع في السرد ، السرد المزخوم بالحزن والفقد ، الثري النابض بالسخرية ، متعة خالصة وبديعة ، ربما تعقيد الرواية يجعل لها مستويات عدة من الجمال ، السرد منها ، أنتظر قراءته في رواية أبطالها أشخاص وليس ذاكرة ، أشخاص أحياء ، بثرائهم العادي الإنساني المتجرد من ذاكرة أوطان أصبحت مثقلة ، مثقلة بخوائها وبتوقفها وبشعورها بالعظمة الكاذبة وبتغاضيها عن الطاعون وفئران النار التي تنخر أوصالها وهي تصر على أهازيج الوحدة والقوة والخلود ….

 

مقالات من نفس القسم