الباطيو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.محمد شداد الحراق

شقتنا الصغيرة المتواضعة المتواجدة في (الباطيو) كانت تختزل لي عالم البؤس بكل مرادفاته. تزرع في أعماقي الإحساس بالدونية، وتحرك في خلاياي إرادة التمرد والسؤال والمقارنة. تمنحني تأشيرة الدخول إلى مستودع الأحلام والسباحة في عوالم فنطازية متعالية يحسبها البائس جنة دانية، وإذا هي أقرب إلى بؤسه من حبل الغسيل.

غرفتان صغيرتان بصلاحيات متعددة؛ النوم والأكل واستقبال الضيوف واللعب والمطالعة وأشياء أخرى.تعلمنا في أحضان هذا البيت قانون حياة البسطاء. النعمة تزور يوما وتغيب أياما. السعادة حلم مؤجل. الابتسامة حركة عصيّة تصارع خلايا الوجه وتجهدها قبل أن تتحرر من قبضة القهر. الإشباع إحساس معتقل إلى أجل غير مسمى.انتظار الفرج سُبحة مليونية. الحمد والشكر والقناعة مُسَكنات يومية.

  وبجوارنا تقطن نسخ آدمية كثيرة، لا تختلف عنا إلا في الأسماء والملامح والجينات، أما الآلام والأحلام فواحدة.. نتقاسم حبات الملح والبصل وشيئا من توابل الحياة. تسافر رائحة البصل والثوم لتستقر في كل الأنوف. تحوّلها الحاجة الملحّة إلى أحلى النكهات وأجمل النسمات. تضوّع الفضاء. تتسرب إلى كل الزوايا. تدغدغ حواسنا. تثير شهيتنا. تسيل لعابنا. نستسلم لغريزة الجوع المتوحش. تضعف قوانا أمام سطوته وجبروته. نتحلق حول المائدة الخشبية المترنحة. العيون جاحظة. الأفئدة متجهة نحو المركز حيث تتراقص قطع البصل المحلى بالتوابل. الأيادي مغلولة تنتظر صفارة الانطلاق. نتسابق في حلبة اقتناص الفرص القليلة العابرة. ندغدغ أمعاءنا الدقيقة والغليظة بلقيمات معدودات. نسدّ تجاويفها الفارغة. نراودها عن نفسها المتوثبة. نستفزها ونطلب منها المزيد من الصبر.

 

 تتوسط الباطيو مساحةٌ فارغة مستطيلة الشكل. تستقبل أشعة الشمس لتوزعها بالتساوي على كل الدور. تنفتح عليها كل الأبواب، وتحرسها كل العيون. الداخل والخارج في مذكرة السيدة (خدوج) الخبيرة في معرفة الوجوه والأصوات والحاملة لسجل الأحداث اليومية التي يكون الباطيو مسرحا لها.. كنا نسميها (حبابي خدوج). جاسوسة من نوع خاص. نُكنّ لها كراهية بالغة. نسخر منها، وندعو عليها طول الوقت. فهي الرقيب الصارم الذي لا يتوانى عن إفشاء أسرارنا الصغيرة.

كان الباطيو خشبة حقيقية تختزل لنا الواقع بكل تفاصيله.على جدرانه أسماؤنا التي نقشناها بأصابعنا الصغيرة. وبجانبها رموز وحروف موحية، تضمر ذكريات بداية الانفلات من قبضة البراءة، وتوثق للحظات طيش كنا نحن الصغار أبطالها. وكانت (حبابي خدوج) ذلك الشبح الذي يرافقنا. يقتفي آثارنا. كانت مهمتها رصد الحركات والنظرات والإيماءات. تعلم تفاصيل ما يجول بأذهان الصغار. تراقب بجدية مفرطة شيطنتهم وطيشهم. ولذلك لم تكن تخرج من الباطيو. تجلس وسط الساحة وعينها الحادة تلتهم الجميع…

نتقرب منها أحيانا. نقضي بعض أغراضها لعلها تغض الطرف عنا. ولكنها لا تنحاز للسلم ولا تعرف المهادنة أبدا. تؤدي عملها بإخلاص تام وكأنها في مهمة استخباراتية خطيرة. وبعد محاولات كثيرة قررنا معاقبتها والانتقام منها. أغلقنا باب شقتها بقطع الخشب.. ألقينا عليها دلوا من الماء البارد.. أدخلنا ضفدعة ليلا إلى غرفتها…وفي كل مرة كانت تنتفض بطريقة جنونية. تصيبها هستيريا عظيمة. يتحرك خزان الشر في أعماقها، فتبدأ شوطا طويلا من الزعيق والنعيق والسب والشتم..:

  • يا ولاد الحرام.. يا ولاد الكلاب..الله يمسخكم..

 ترسل قذائف نارية من فمها السليط. تتسلح بعبارات نابية وبكلمات غليظة تثير فينا المتعة لسماعها. ترتسم البسمة وآيات الفرحة على ملامحنا الذئبية. نختفي عن الأعين طول اليوم. فلا تجد لنا أثرا. نتظاهر بالبراءة.  وفي أعماقنا تعتمل نشوة الانتصار.     

  في زمن الاستعمار كان الباطيو ساحة مؤنسة تتجمع فيها النساء الإسبانيات لممارسة أعمالهن اليدوية، ولتجاذب أطراف الحديث كل مساء. لكنها تحوّلت، بعد رحيل الأجانب، إلى ملعب صغير مغلق صاخب، تتداخل فيه المشاهد الكئيبة، وتتعانق فيه صور البؤس والمعاناة مع إصرار السكان على العيش وتمسكهم بكل حبال الحياة. يتجمع فيه أبناء الباطيو لإفراغ شحناتهم المتراكمة، ولبث حمولتهم المؤلمة، ولممارسة سلوكياتهم الطفولية، قبل أن يصلوا إلى السن التي تدفعهم إلى البحث عن المتعة خارج هذا الفضاء الحميمي الآسر.

وأنا صغير، سألني أحد زملائي في المدرسة :

  • أين تسكن؟
  • هناك.. خلف تلك البناية(أجبته والكلمات تتحشرج في حلقي)

أتعثر في الإجابة كل مرة يصفعني فيها أحد بهذا السؤال البغيض. كنت دائما أتحاشى الإفصاح عن عنوان مسكننا المتواضع تجنبا للحرج ولكل ما يمكن أن يحس به طفل يافع لم يدرك قسمة الحظ بعد. كنت أحس أن السكن في ذلك الفضاء الهامشي سيجعل المحظوظين من زملائي يسخرون مني أو ينظرون إليّ نظرة إشفاق. ربما كان هذا الشعور مجرد حساسية زائدة، أو حالة من عدم الرضا عن النفس.

حاولت كثيرا التمويه على زملائي في المدرسة حتى لا يتعرفوا على محل سكناي. بحثت عن الممر السري الذي يحميني من الحرج. كنت أخاطر بنفسي.أسلك أعلى السور المجاور لبيتنا حتى أصل إلى البقعة الفارغة خلف الطريق المؤدية إلى المدرسة. وخلال العودة أودع زملائي، فأسلك نفس المسلك، حتى توهموا أنني أسكن فعلا خلف ذلك المجمع السكني البائس. أحتاط كثيرا قبل الخروج وعند الدخول خوفا من أن تلتقطني عدسات الفضوليين فيفتضح أمري. وكم كنت أحس بطوفان الحرج يجتاحني حينما تطلب منا إدارة المدرسة تدوين العنوان على وثائق التسجيل عند بداية كل سنة دراسية.

هرمنا وهرم الباطيو وشاخت أركانه وتداعت دعائمه، ولكن ما تزال أسماؤنا منقوشة صامدة، تحمل نبضات قلوب صادقة، وتوثق لحياة جميلة بسيطة، وتؤرخ لتاريخ طويل من الآلام والأحلام.غابت وجوه وحلت محلها أخرى. ولكن عبق الماضي لصيق بجدران الباطيو. واليوم أجلس مزهوا بباب الباطيو. لا أتردد في الإعلان عن انتمائي إلى هذا الوطن الجميل. أقول للجميع بفخر شديد:

  • أنا ابن هذا الباطيو

فأحس بالجدران المتصدعة والحفر الغائرة والجرذان الثائرة والشقق المتهالكة تبتسم لي. تنحني بكل حب وتكاد تعانقني وتهتف باسمي…

مقالات من نفس القسم