“الانمساخ” لكافكا: المغترب ليس هو ذلك الشخص الذي نظن

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
ترجمة: محسين الواطحي كتبت رواية "الانمساخ" سنة 1912 ونشرت سنة 1915. وهي تعتبر من بين الأعمال المتكاملة لفرانس كافكا. دراما الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي لم تستثن عائلة سامسا المحتجزة في أحشاء المال الذي بات يلقي بظلاله على كل شيء. بالاعتماد على السخرية لغة القانون والعلم استطاع كاتب "المحاكمة" رسم حدود قصة عجائبية استطاعت أن تعري حقيقة القرن العشرين.

ليس علينا أن ننخدع، فقد أخد فرانس كافكا على محمل الجد وعد فلاسفة الأنوار وأخضعه للاختبار. لكن وبالعودة إلى العالم الذي نشأ فيه الكاتب، نكتشف سريعا أن الإنسانية لم تنجح في تحقيق الأماني المقدسة للعالم المعاصر. الإنسان الجديد يجمع بين كل الأوصاف الممكنة ماعدا كونه إنسانا حرا. فهو على الرغم من كل ما يملكه، نجده قد نسي أن يوجد. لقد استعبدته التقنية والصناعة على حد سواء:  الإنسان الكافكاوي، المجرد والذي لا يملك ما يميزه سيكولوجيا، هو إنسان منشغل على الدوام بالمهام المسنودة إليه. بطل القصة لا يفكر في أن يثور على هذا الوضع، نيته الطيبة وسذاجته تتعارضان مع عالم بات قاسيا، قاسيا جدا.

ذات صباح، وقع التحول.

يقطن غريغور سامسا في بلدة براغ، في مسكن بأحد المباني بحي شارلوط. إنه ابن فليستان فلوبرتان، صاحب الذوق السوقي  والذي لا يهتم سوى بالجانب المادي من الحياة. لقد فقد الأب سامسا جزءا مهما من ثروته في السنين القليلة الماضية. اضطر الابن بعد ذلك إلى الاشتغال عند أحد دائنيه. منذ ذلك الوقت، أصبح غريغور مسافرا متجولا  يتاجر في الأقمشة، وحرص على إنجاز عمله بكل جد، لكن بدون استمتاع. بفضل وظيفته استطاع تأمين المسكن الذي يقطنه والداه وشقيقته غريت.

عند استيقاظه في أحد الأيام،  وجد البائع غريغور نفسه في هيئة خنفساء سوداء، ببطن محدب وقد عريض نسبيا بستة أرجل وقرني استشعار. <<حين أفاق غريغور سامسا، ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة. كان مستلقيا على ظهره الصلب الذي بدا وكأنه مصفح بالحديد، وحين رفع رأسه بعض الشيء استطاع أن يرى بطنه الأسمر الشبيه بالقبة مقسما إلى فلقات قاسية مقوسة، كان من المتعذر على اللحاف، أو يكاد، أن يظل في مكانه فوقها، فهو على وشك أن ينزلق انزلاقا كاملا. أما أرجله المتعددة، التي كانت هزيلة إلى حد يثير الرثاء، قياسا إلى سائر بدنه، فقد راحت تتماوج في عجز أمام ناظرية.>

أولى سطور رواية “الانمساخ” تفاجئنا. لكن يبقى العنصر المحير فيها أبعد ما يكون عما نظن: إن تحول غريغور سامسا إلى حشرة ليس بالشيء الغريب  بالنسبة إلى القارئ. إننا نفهم سريعا معناه المجازي. فالتحول هنا ليس إلا تعبيرا فرديا عن النهوض في وجه مجتمع ما، ورفض حياة ليس لها أي معنى.

ستبدأ إذا حياة جديدة بالنسبة لغريغور سامسا: تحول إلى حشرة  ومع ذلك  سيحافظ  على وعيه الإنساني. استطاعت الشخصية البطلة التأقلم مع الوضع  الجديد دون أن تنزعج منه كثيرا، لكن سرعان ما سيشعل هذا التحول الشكوك حول محيطها. سيكشف انمساخ غريغور سامسا حقيقة أشخاص يصعب إرضاؤهم، سيقودهم جشعهم إلى نكران إنسانية ابنهم.

الآخرون ضد الأنا.

وسط سريره، يفكر غريغور سامسا في مختلف القطارات التي فوتها، في مشغله الذي سيكون بدون شك على علم بغيابه. وقد تحول إلى حشرة، استعصى عليه احتواء جسمه فاضطر إلى  المناورة بجسده للنزول من على السرير. هو يفكر، لكن جسم الحشرة هو من يستجيب. باتت الحركة شاقة عليه. تطرق عائلته باب غرفته المغلقة بالمفاتيح. في حالة يسودها القلق، يتناوب الأبوان والأخت على المجيء أمام غرفته للاستقصاء عن أخباره. وبصوت يفقد شيئا فشيئا كل تشابه مع صوت أدمي، يحاول غريغور طمأنتهم.

على وجه السرعة، بعثت الشركة مفوضها التجاري لمعرفة أخبار أجيرها الغائب. يكفي التغيب لبعض الوقت، حتى تأتي خلفك دورية التجارة العقلانية! إنه عالم شرس. الحداثة الرأسمالية التي يتحدث عنها ماكس فيبرهي لا ترحم. لمجرد تأخير تتحرك الآلة الجهنمية. لا يترك المشغل للمشغل فرصة التقاط أنفاسه. هذا التحرك السريع لاستجلاء أسباب غياب مستخدم ما هو من سمات عالم أقرب ما يكون إلى معسكر اعتقال. لقد أدرك غريغور سامسا كل هذا على حساب تجربته الشخصية.

في الأخير، يتضح أن هذا العالم الهادئ ظاهريا لا يقوم على أي أساس. بمجرد أن فتح غريغور باب غرفته، اكتشفت أسرته حقيقة تحوله والرعب يسيطر عليها. حاول غريغور توضيح الأمور لكن بدون جدوى. لم يجد أمامه سوى أشخاص مضطربين ومذعورين. أخلى المدير المسكن ونزل الدرج مهرولا، أما الأب فظل يحاول مستاء إبعاد الابن-الحشرة إلى داخل غرفته. منذ ذلك الحين أصبح الباب الذي يفصل بينهما حدا يستحيل عبوره، بين حشرة حافظت على إنسانيتها، ومحيط مغترب.

غياب للتفاهم واتجاه نحو العزلة.

ماذا نستشف من ساعات وتعاسة العيش اليومي لغريغور؟ هذه الحشرة- الوحش تفيض بالرقة والطيبة واللطف، في  حين تتدهور  حالتها الجسمية  ويتغير شكلها. لقد استطاع غريغور التخلص من كل أشكال الأنانية، فأصبح يهتم على الدوام بما يحتاجه الآخرون. نجده يختبئ تحت الأريكة أو يلتحف رداء حتى لا يصيب أمه بالهلع لرؤيته، أو نجده يعبر عن حسرته لسماع أسرته تتحدث عن صعوباتها المادية والتي أبانت حينها أن أباه كان يملك رأس مال صغير يضعه بحساب ما. بهذا المال كان بإمكان الأب أن يسدد ديون ابنه ويحرره من قبضة دائنه… أمر مدهش؟ ليس هناك أدنى شك.

المجتمع البورجوازي هو مجتمع ثوري على طريقته. ألم ينتقد ماركس البورجوازية كونها أغرقت ‹‹البورجوازية الصغيرة في المياه المتجمدة للحسابات الأنانية››، كونها ‹‹جعلت من الكرامة الشخصية قيمة تبادلية››؟ ألم تقم هذه البورجوازية ‹‹بتمزيق ثوب العاطفة التي كانت تغلف العلاقات الأسرية واختزلتها في علاقات مادية خالصة››؟

الأمر الغريب هو أن عائلة سامسا بدأت تعتاد بالتدريج وجود هذا الكائن البشع. وهذا لا يعكس جانبا من الطيبة، بل على العكس من ذلك فقد برهنت العائلة سامسا عن جمود عاطفي شبيه بذلك الذي نجده عند تلك الأمهات اللاتي يعشن حياة عادية بصحبة مولود تم إخفاؤه بداخل مجمدة. وحتى يتمكنوا من تلبية جميع متطلباتهم، ارتأى آل سامسا أن يبحثوا عن عمل. اشتغل الأب في أحد البنوك، الأم من جانبها كانت تحاول جاهدة القيام بأعمال الخياطة، أما غريت الصغيرة فتحصلت على وظيفة كبائعة. هي عائلة تحب الخمول، متعلقة بالراتب الصغير وبالعمل الشاق لغريغور.  وجدت من جديد حيويتها بمجرد أن غاب دور ابنها.

مع توالي  الأحداث، تتدهور حياة غريغور اليومية. لم تعد أخته تفهمه كذي قبل وبدأت معاملتها له تتغير، تتعرض الخنفساء ‹‹لوابل من قذائف حبات فاكهة التفاح›› يطلقها الأب. وقد بات جريحا وضعيفا، لم يتبق له سوى عطف أمه ‹‹الآلي››.

ثورة الطفيليات.

يعيش غريغور الآن في عالم مجرد من الإنسانية ومجرد لها كذلك. غرفته التي كانت غريت تتولى مهام تنظيفها، باتت مليئة ‹‹بكميات من الدرن›› الذي يعلو الجدران و‹‹ كرات من الغبار والأوساخ››. مع الوقت تترك غريت أخاها لمصيره. تدفع ‹‹بطرف قدمها وبسرعة فائقة  شيئا من الطعام داخل غرفة غريغور، أي شيء.›› دون أن تتأكد إن كان الطعام قد استهلك أم لا. فقط عاملة  النظافة الجديدة التي تم تشغيلها من طرف العائلة، هي وحدها من تظهر بعض العاطفة تجاه غريغور.

استقبلت العائلة منذ وقت قريب بعض النزلاء. ثلاثة رجال أشبه بالآلات سيستقرون بغرفة الوالدين. بينما كانت غريت تعزف على آلة الكمان أمام أبويها وبحضور الرجال الثلاثة، قرر غريغور اللحاق بهم. اندهش الضيوف لوجود مخلوق مشابه. هل هو أحد النزلاء الذين لم يتعرفوا عليه؟ سرعان ما ساء الوضع. تصرف الأب بعنف شديد: اضطر الضيوف إلى التراجع نحو غرفهم. لا يجب أن يرى أي كان هذا الوحش!

كان المشهد بمثابة إعلان عن نهاية غريغور. لقد جسد خيانة كاملة وقاتلة من طرف الأخت سامسا لأخيها. أثار إيقاف عرضها الموسيقي غضبها: لم تعد تستطيع إخفاء عدائها لغريغور. سقط القناع عن الأخت وبرز الوحش الذي يسكنها. ‹‹ أمام هذا الوحش، لم تعد عندي الرغبة في نطق اسم أخي، لهذا سأكتفي بنعته بهذا: علينا التخلص منه.›› ثم توجهت بالحديث إلى أبيها : ‹‹ لو كان هذا هو غريغور إذا لأدرك منذ مدة طويلة أن الكائنات البشرية لا تستطيع العيش مع مثل هذا المخلوق، ولمضى في سبيله طوعا واختيارا. وعندئذ لن يكون لنا بعد أخ ما، ولكننا سوف نكون قادرين على مواصلة الحياة وإبقاء ذكراه حية مكرمة. أما في هذه الحال، فإن هذا الحيوان يطاردنا، ويطرد مستأجرينا، راغبا فيما يبدو في أن تكون الشقة كلها له، وفي أن يدعنا ننام في الشارع›› هي إذن قمة الجحود. الإنسانة الوحيدة التي تعلق بها غريغور أكثر من أي فرد آخر من العائلة تبرز قسوتها تجاهه. وبالإضافة إلى إسقاطها لعلاقة الأخوة التي تربط بينهما، نجدها تتهمه أيضا برغبته في اخد كل ما قدمه لعائلته. هنا يصبح اغتراب آل سامسا مكتملا.

وبالرغم من كل ما حدث، فغريغور لم يفقد كل وعيه الإنساني. فبعد هذا الحادث المحزن، اكتفى بالانزواء فقط داخل غرفته. بالكاد هناك، أسرعت أخته لحبسه بالداخل. لقد تم تجاهله كأخ، والآن سيكون مضطرا للزوال كخنفساء. وحيدا في العتمة، بدأ يفقد تدريجيا الإحساس بالألم وحتى بجسمه. مع ذلك لم تغادره طيبوبته : ‹‹ يتذكر عائلته بعاطفة وحب كبيرين››… ظل يستعيد شريط الذكريات إلى أن سقطت رأسه فجأة ومن منخاريه ‹‹ لفظ أنفاسه الأخيرة››.

الآن بات باستطاعة هذه العائلة الشبيهة  بالحشرات  والمتخفية في لبوس الإنسانية أن تكمل حياتها بكل حرية. هكذا ‹‹ وفيما هم يتكئون بظهورهم، في ارتياح، على مقاعدهم، تدارسوا إمكانياتهم في المستقبل، فتبين لهم عند النظر الدقيق أن هذه الإمكانيات لم تكن سيئة بحال، ذلك أن الوظائف الثلاث، والتي لم يسبق لهم في الواقع أن استفسروا عنها من بعضهم بعضا، كانت كلها ملائمة، ولا سيما أنها تبشر بخير كثير في ما بعد.››. بكل تأكيد، أصبح العمل بالنسبة لهؤلاء الجهلة الأفق الوحيد الذي لا يمكن القفز عليه. هكذا يكون المستقبل  لطفيليات تغدت ونمت  على حساب ابنها. أما غريغور فشأنه شأن كل من يرفضون أغلال الناس المؤذية، فقد انتهى به المطاف في مزبلة التاريخ.

……………

عن شاذل نواف طاقة، محرر محتوى بمجلة لوكونطوار الفرنسية.

رابط المقال الأصلي:

 https://www.google.com/amp/s/comptoir.org/2016/09/23/la-metamorphose-de-kafka-laliene-nest-pas-celui-quon-croit/amp/

 

 

مقالات من نفس القسم