ساري موسى
عَشِق الجمال بجمع روحه، ونَفَر من كلِّ ما هو أقلّ منه في تجسّده الكامل، فكان طبيعياً في حالته هذه أن يبتعد عن العالم الواقعي، وينطلق من عزلته ليخوض نزهات متفاوتة الأعماق في عوالم الرسم، والموسيقى، والأدب، والسينما، وحتّى النّحت.
كان يقول إنّه يستحيل أن يرتبط بأنثى ما لم تكن آية من آيات الحُسن والرقّة والجمال، مع أنّه هو نفسه لم يكن على شيء يُذكر من المحاسن الظاهريّة، ولا كان غنيّاً، ولم يحقّق نجاحاً عمليّاً يلفت الأنظار إليه، ولم يُسعفه ذلك الشيء الذي ظلَّ غريباً عنه ومجهولاً بالنسبة له طيلة أربعين سنة من عمره، الذي يسمّونه الحظّ، وقد بدأ يعتبره شيئاً سطحياً بدوره، مثل الأغلبية الساحقة من الناس الذين يهتمّون بالأمور السابقة فقط، ويُقيّمون الإنسان على أساسها.
لفت نظر عدد من مثيلاته في المواصفات الخارجيّة، القريبات من عمره أو حتى الأصغر منه سنّاً، لكنّهنَّ كلّهنَّ لم يمتلكن مجتمعات عُشر ما كان يطمح لإيجاده، عُشرٌ تطمره سريعاً التسعة الأعشار الأخرى، مع التأكيد أن معايير تقييمه الصّارمة لا تخضع فقط للاعتبارات البرّانيّة القشريّة، دون تجاهل دور هذه الاعتبارات وأهميتها المحدودة. معاييره الأساسيّة داخليّة، عميقة، ويمكن أن يقال عنها رومانسيّة، لا تصلح للزمن الحالي، ولا، بطبيعة الحال، للزمن القادم، إن لم ينتهِ العالم قريباً مختنقاً بالقبح المتراكم فيه كالنفايات، كما كان يقول.
إلّا أنّه وجد نفسه منذ سنوات، ودون إرادةٍ منه، ينخرط في نوعٍ خاصٍّ من العلاقات التي لم يرغب بها، لكنّها كانت ضروريّة لإقامة التوازن في حياته غير المستقرة.
في البداية، كان حين يقرأ رواية ويُعجب ببطلتها أو بإحدى شخصيّاتها يقوم برسمها، ويعزف بخشوعٍ عاشقٍ وهيامه تحت لوحتها المُعلّقة، ثم أقلع عن ذلك فيما بعد لأنّ رسمه لم يكن متقناً إلى الحدّ الكافي لتجسيد كامل الجمال الموصوف، إضافة إلى بعض كسله الفطري، وبعض التعب الناجم عن التقدّم الصعب في حياةٍ ثقيلة، ووجد نفسه يعشق بطلات الأفلام الأجنبيّة التي أدمن مشاهدتها.
كان، بعدما يغرق في حُبِّ إحداهنَّ، يملأ حيطان غرفة الجلوس بصورها الكثيرة، المأخوذة من مراحل متعددة من عمر قصة الفيلم، ويروح يُصعّد تنهّداتٍ عميقةً من صدر حارّ فيما يُعيد مشاهدة الفيلم مراتٍ متتالية، تجعل التعب ينال من الممثلين داخله دون أن ينال منه، فيعطيهم استراحاتٍ يستلّ خلالها غيتاره، ويبدأ يعزف لمحبوبته المُطلّة من عالمها عبر نوافذ صورها ألحاناً رقيقة، تبدو خلالها أوتار الآلة مشدودة إلى أوتار القلب، تلك الآلة الإيقاعيّة عادة، التي يمكنها أن تتحوّل في أيّة لحظةٍ لتصير نوعاً آخر من الآلات، بما فيها آلة قتلٍ، ولا يتوقّف عن عزفه قبل أن يرتخي الشريط اللاصق رديء الصُّنع الذي يثبّت إحدى الصور، فيروح يعشق التي فيها أكثر إلى حدٍّ يعجز العزف عن التعبير عنه، لأنّه يجدها ازدادت فتنةً بتأثير الخجل، الذي أوحى به إخفاض الوجه وميلان الرأس في الصورة المتهدّلة.
وتأكيداً على معاييره الداخلية في الاختيار، فقد وقع في غرام آلي هاميلتون في The notebook، وبعدها بسنوات أحبَّ بيج في The vow، دون أن يكون لرايتشل ماك آدامز، التي لم يتعرّف عليها، علاقة بالأمر في كلتا الحالتين.
بهذه الطريقة حقّق مقداراً مقبولاً من التوازن بين جمالهنَّ الخيالي الذي حاول تجسديه في حياته من جهة، وبين بشاعة الواقع الذي يطوّقه ويسجنه في مركزه، وبشاعة الحقيقة المتمثّلة في عدم حقيقيّة وجودهنَّ وقسوتها من جهة ثانية.
إلى أن تعب أخيراً، وقرر الاستسلام للخيال، والتوقّف عن ممانعة أسر الصورة له، والخضوع لإغراء جاذبيتها.
ذات صباح، تلا ضجّة قويّة وقصيرة الأمد حدثت عند الفجر، عثر عليه جيرانه ميتاً على نحوٍ غريب. كان رأسه عالقاً داخل تلفزيونه الضخم، بعد أن اخترق شاشته. وهناك، داخل الجهاز، كان دمه ما يزال يقطر، وأمكن تمييز رائحة احتراق طفيفة مع بعض آثاره على الشعر المهمل والرأس المُدمّى.
على ورقةٍ، وضعها فوق الطاولة وثبّتها بجهاز التحكّم، كتب:
((سأقفز عبر النّافذة التي ظللتُ أعاين من خلالها العالم الذي أحببتُ، والذي فيه عشتُ. أطفئوا التلفزيون ورائي بالجهاز الذي تركته فوق هذه الورقة، ولا يخطرَ ببالِ أحدٍ منكم أن يفكّر باللحاق بي)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب سوري