تغريدة أثير صفا..صرخة في وجه العالم القبيح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ندخل عالم "أثير صفا" الروائي على ضوء ذلك المصباح الذي تعلقه على الباب، ليضيء لنا الطريق الذي سنكتشفه رويدا، رويداً. ذلك الضوء الذي يتضح من خلاله الوجود؛ لتظهر حدوده وأشياءه، مسالكه الوعرة والممهدة التي قد تقودنا في الطريق الصحيح للوصول إلى رؤية ما، وقد تُدخلنا في خضم المتاهة لنظل عالقين في اللا مكان واللا زمان- لنتحمل مع الكاتبة عبء تلك الذكريات حول كل الأشياء التي رأتها وعاشتها/ رأيناها وعشناها. "تغريدة" هي الرواية الأولى للكاتبة الفلسطينية "أثير صفا"، وقد صدرت هذا العام 2014م، عن دار ميريت للنشر، ومُرشَّحة أيضاً لجائزة بوكر العالمية للرواية العربية. 

أولا : عتبات النص:

تحمل الرواية عنوان: تغريدة، والتغريدة أو الأغرودة:َ تطلق على غناء الطائر أو الإنسان، أي رفع صوته بالغناء ليُطرَّبَ به؛ أي يسعد به الناس. أما الآن ، في عصر التدفق المعلوماتي وثورة الاتصالات فقد اكتسبت التغريدة Tweet معنى الدفقة المعلوماتية أو الجملة القصيرة المكثفة التي تستطيع في كلمات قليلة أن تجسد المعنى كاملاً والحالة النفسية في آنٍ واحد.

  نستطيع من خلال الرواية أن نلمح المفارقة في دلالة العنوان ( تغريدة)  ومعناها المعجميّ الذي يدل على الطرب والبهجة لتضعنا الكاتبة أمام تغريدة من نوع آخر، تحمل مدلول الصرخة في وجه هذا العالم القبيح، ويؤكد العمل النحتي الذي يشغل الغلاف تلك الصرخة، ويؤكد أيضاً صراع الإنسان مع ذاته ومع واقعه الذي يكبّله، محاولة الانعتاق والتحرر، محاولة فهم وجود الإنسان وماهيته. كما يؤكد الجزء الأخير تلك الصرخة بعنوانه الصريح ” تغريدتها صرخة”. إذاً، لا نستطيع أن نأخذ العنوان بمعناه الظاهريّ ولا بد لنا أن نتمهل ونتأمل ونقرأ قراءة مُخلصة لنصل إلى ما نريد.

ثانيا اللغة:  

” ليست هي الدمعة التي تترقرق وإنما اليدان- فالدمع الذي يستحيل أن ينزل على ظهره، يستحيل أن ينزل على خده- تصبحان بحجم مهَفَّة- كفَّان دقَّهُما الحدَّادُ بغِلّ، مطروقتان كحذوة الجواد، مشروختان من عند الأطراف كورق موز، تحتدان من عند الزوايا كما لو سبق أن صُنع منهما قاربٌ ساحبٌ في نهر آخيل الطويل، الذي يستطيل، ولا يكف يستطيل، يداهُ الآن جناحان دقيقان، يقاس سمكهما بالإنش، فاملأ فمك ورأسك بالهواء، كما ملأتهما من قبل بالهراء، وانفخ عليهما، بكل قوتك، على كلتا يديك، ملء شدقيك، املأ، ملء شدقيك انفخ، علك يا ولدي تطيب، علك يا ولدي تطير”(*)

    ذلك هو المقطع الأول من الرواية، وقد آثرتُ أن أصدِّر به كلماتي لنقف معاً على حدود لغة طازجة، تتعدد مستوياتها ما بين:

لغة شعرية مكثفة يشيع فيها المجاز، وتظهر في الأغلب الأعم من جسد النص

لغة التخاطب العادية.

لغة شوارع، إن جاز لنا التعبير، أو لغة مستنبطة من أقوال دارجة معروفة ومألوفة لدى رجل الشارع.

   تبدو الجُمل قلقة، متوتّرة، ذات إيقاعٍ أقرب إلى الشعرية، “يغلب عليها المجاز، وقد يبدو عليها الخلل في التركيب أحيانا، إذ قد نجد تركيب الجملة في حالة من الفوضى، فقد ينقص الجزء الأول منها، وقد ينقص الجزء الأخير”، تحتوي بعض الجمل على فجوات وعلى القارئ أن يستكملها فعلى سبيل المثال :” في المصحة أول شيء فعلوه أن خبأوا الأقلام( حرصا على حياتي!)، قالوا سنضعه (في) لو حاولت (أن) تحصل (على)”. كما تتكرر بعض المقاطع في الجملة الواحدة، ونلمح ذلك في أجزاء متفرقة من الرواية .. على سبيل المثال : ” نقشٌ لسنابل قمح تمتد على طول الحائط، خضراء على خلفية رمادية، خضراء على خلفية رمادية ../ كانت أشبه على سبيل المجاز بالحب في زمن الكوليرا، بالحب في زمن الكوليرا../  ويفقس البيض في موسمٍ تالٍ، يشبهُ هذا إلى حد بعيد، إلى حد بعيد../  حيث ينمو الفن وسط العفن، وردةً في المزبلة، وردة في المزبلة.. / وتعشقين دانيال مستلقياً في وكر الأسوُد تتسمح به، تتسمح به.. إلخ.

    تقترب اللغة، في هذه الرواية، من لغة القصيدة، “خاصة أنها تعبر عن عوالم داخلية، في أغلب الأحيان، لا تستطيع اللغة العادية أن تنتج مدلولاتها، وتوثبها من زمن لآخر، كما لا تستطيع تجسيد الحالة” النفسية للبطل الفنان وشخصيته المأزومة إلا عبر لغة مكثفة غنية بإيحاءاتها، شفافة في دلالاتها. ولنقرأ مثلاً: “ومع ذلك ظلت جذوة في صَدر يهوذا صغيرة صغيرة، لم تنتبه إليها الحكومة أو فلنقُل استهانت بها، كما يُستهان بعقب السجائر الذاوي. ولكن، جاء علام، كحقول القمح اليابسة جاء، يمتدّ بامتداد البصر وأكثر، بامتداد التاريخ الموغل في القِدَم، على امتداد آخيل والوديان المقدسةِ كلها، بامتداد الألِف الممدودة في الآه، في الله، في الفراغ، ذهبيا كسنابل القمح في الشمس، فيه الخير كله، فيه النبت الذي يحملُ ملايين البذور المشبَّعة بالنور، فيه المساحة التي تسمح بالنمو! وإذا بالجذوة تلاقي ضالتها، ما يشبع طموحها، أرضًا خصبة جاهزة للاحتراق والحصاد والتبرعم مرة تلو المرة تلو المرة، وإذا بالنيران تتقد، وتجد لنفسها تعبيرا عن نفسها. لعل عقب السيجارة نفسه احترق، ويهوذا نفسه لم يبق له أثر حسي، ولكنه فِعليًا توحَّد مع الذات الكبرى وانصهر فيها، مع جهنَّم، مع الكون الذي يحب، مع علام.(*)

   هكذا يتضح لنا أن “شيوعَ المجاز والتكثيف الشعريّ في اللغة أمرٌ يتناسب مع لغة الأعماق، فبفضل الكثافة الشعرية تستطيع اللغة أن تمتلك إمكانات إيحائية متعددة، تساعد على اقترابها من اضطراب الأعماق من أجل محاولة تقديم بعض غوامضه. إن الاستعانة باللغة الشعرية والرمز والتصوير يعين الروائي على التعبير عما لا يمكن التعبير عنه في منطقة الوعي بطريقة مباشرة، بل يتحتم التعبير عنه بطريقة انطباعية رمزية مكثفة”.(1)  يبدو ذلك جلياً من الأسطر الأولى في الرواية حيث نلمح ذلك التصوير الرائع لليدين:)  دقَّهما الحداد/ مطروقتان/ مشروختان كورق موز/ تحتدان كقارب/ يداه جناحان.. إلخ) لنلمح عن كثب ذلك التشبّع بأزلية الخلق في الكون، حيث يقع عبء ذلك العمل على اليدين. هي فكرةُ الخلقِ ذاتها التي يتحملها “علام” الشخصية المحورية والفنان الذي جاء “إلى المدينة تائهاً كالحيةِ المقطوعِ رأسَها. يتخبط، لا يعرفُ قريباً ولا بعيداً ولا حتى اسماً لشارع”(*) بعد رحلة بحث ومعاناة وعزلة واستهجان من المجتمع المحيط به، كأنّه نبيّ هذا العصر الذي يؤمن بدين العلم.

ثالثا بنية السرد :

تسير الرواية على نسق مختلف سواء من ناحية ترتيب الفصول- إذا كان ثمة فصول في الرواية- أو طريقة السرد القلقة حيث يتم السرد بعدة مستويات وقفزات من الحوار الداخلي المباشر إلى التداعيات الذهنية إلى الوصف؛ “فتعبر الشخصية عن واقعها وعن أحاسيسها وآمالها؛ خالطة الحاضر بالماضي بالمستقبل، مازجة الحلم بالحقيقة، واليأس بالأمل، فتجسد أعماق النفس بكل اضطرابها وآلامها.. والحياة الذهنية لها بكل تداعياتها”.(2)  تتداخل مع النص الروائي مقتطفات من نصوص أدبية شعرية وسردية، وفتوحات صوفية ومقتطفات علمية بحتة ولوحات فنية، حيث نلمح الارتباط الواضح بين تلك النصوص المُزَاحة وبين النص الروائي وحالة شخصياته؛ إذ هو لا يأخذ من تلك  النصوص السابقة بل يأخذ ويعطي في آنٍ واحدٍ وبالتالي فإن النص الروائي قد يمنح النصوص القديمة تفسيرات جديدة ويظهرها بحُلّة جديدة کانت خافية أو لم يکن من الممکن رؤيتها لو لا التناص.

الرواية ليست مقسمة إلى فصول بالمعنى المتعارف عليه في الروايات التقليدية، بل تسير الرواية بنسق “شذرات”، تطول وتقصر حسب حاجة السرد، فتتراوح ما بين عدة صفحات، إلى عدة أسطر، حتى نجد بعض الشذرات تتكون من جملة واحدة قصيرة لا تتعدى كلماتها أصابع اليد الواحدة مثل:” لماذا لم تكوني يوماً زهرةً مسالمة؟”.. تأخذ تلك الشذرات شكل سلسلة من الحلقات التي تتداخل أو تتحد لتصنع معا كتلة من حدث واحد يتوالد منه حدث آخر، ويفضي إلى حدث يليه، وهكذا.. سلسة من الحلقات تدعو للتأمل العميق في جسد النص ومحاولة القبض على ذلك الخيط الحريريّ الذي يربط تلك النصوص المُستدعاة بالنص الأصلي، الذي يبدو مشوشاً وفوضوياً في شكله الظاهري أحياناً، لكن في الحقيقة- وكما يقول كاتب الأوراجواي ماريو بينديتّي- واصفاً تيار الرواية الجديدة: “ليس ثمة ذرة من الفوضى لا تعتمد على تنظيم ملليمتري”.

ذلك النص الذي خرجت به الكاتبة عن نسق الروايات الكلاسيكية فقدمت إلينا نمطا مغايراً تماماً، وفارقاً، وما بعد حداثي. لقد مزجت الكاتبة بين كل التيارات السابقة، الكلاسيكية منها والحديثة، لتخرج لنا منتجاً جديدا يليق بألفية جديدة.  تغريدة، تُعد ميلاداً جديداً لكتابة عربية جديدة، تكشف أزمة الوجود والتكون والخلق، وتتكئ على معرفة موسوعية كبيرة، واتساع أفق واضح، وكاتبتها تنتمي لواقع متقلب.. فلسطين هي أرض اللحظة الراهنة بكل تقلباتها، بأحداثها الدامية غير المحتملة وأبطالها الذين يولدون في الداخل ويقتلون غدراً وخيانة دون أن ينتبه إليهم أحد. أو كما يقول الأستاذ صبري حافظ في مقالة له عن الرواية: ” : “هذه رواية جديدة ومدهشة معًا، بكل ما تحمله كلمتا الإدهاش والجدة من معانٍ. رواية تكشف عن كتابة جديدة لقرن جديد. فهي أكثر الروايات التي قرأتها تبشيرًا بكتابة جديدة ومغايرة يمكن أن أسمّيها برواية القرن الحادي والعشرين. تستشرف أفق الرواية العربية الجديدة، وحساسية القرن الجديد معًا. رواية أتنبأ لها بأن تصبح علامة مهمة على طريق الرواية العربية“.

رابعا: البطل الفنان؛ نبيّ هذا العصر 

سوف نلحظ خلال سير الرواية علامات وإحالات تدعونا للتأمل العميق في شخصية علام.. علام نبيّ هذا العصر الذي “يسعى للتحرر، لأن يكون له جناحان”(*)؛ يُواجَه- مثل كل نبيّ- ويُحاصَر ويُقهَر ويُتهَم بالجنون: “يُجمعون على أن الجن ركبه يوم ركب عقله… قال إنه ذاهبٌ ليرى أين تنتهي الدنيا. قال يريدُ أن يقف هناك على الطرف، طرفها، ويلامس الله، يده على الأقل”(*). وُلد “علام” عام 1977 م وهو العام ذاته الذي توفى فيه عمه، بعد زيارة الرئيس المصري للقدس ووضع يده في يد رئيس الوزراء الإسرائيلي.. لم يتحمل علام الأكبر تلك الصدمة فمات إثرها.. تقول الرواية : ” توفى عمه عام 1977م العام الحزين الذي ولد فيه هو”(*).  فإذا ما ربطنا بين وفاة عمه وعام الحزن ترتد ذاكرتنا مباشرة  إلى العام الذي سُمي “عام الحزن”؛ ذلك العام الذي توفي فيه عم النبي. إسقاطات كثيرة تؤكد على أنه نبي هذا العصر منها إصراره على خلق عالم مثالي في حين يرقيه أهله : “ناوليني يا تحية المبخرة، ناوليني حفنة أخرى من العنبر، فلأخيك لا يشقّ إلا حشا الحوت، ولتتقيأ ما بجوفك من سواد، كتلةً من سواد، لو أجتثُها بيدي كما يُجتث الورم”(*). ذلك هو الشق المجازيّ للصدر؛ لاستخراج تلك العلقة السوداء. حيث يتم إسقاطها على حديث أنس بن مالك، عن حادثة شق صدر النبي محمد وهو لا يزال طفلا يلعب مع الغلمان لاستخراج تلك الكتلة السوداء ذاتها.

إن نقطة تحول علام، وذروة معرفته وإيمانه بالوجود تأتي في أثر اكتشافه لغرفة عمه. ها هو يعتزل الناس في ذلك الغار العصريّ، ويُلهم، ويُوحى إليه بلا وحي مجنّح، إنما هو وحي الكُتب وإلهامها؛ جبال من الكتب تتكوم في تلك الحجرة المنعزلة. فيقرأ ويعرف- وما كان بقارئ- واقع مجتمعه المحبط، فيخلق – من صُنع يديه- واقعاً آخر، مثالياً وخيالياً..”لقد أصبح الواقع ملتبساً وظنياً. لم يعد ما هو موجود خارج الوعي، بل كذلك انطباعه في الوعي واللا وعي. أصبح أحداثا منعكسة في مرآة خيالات وأحلام وكوابيس وشكوك وهلاوس الكاتب”(3) تجاه واقع مجتمعه والمجتمعات المحيطة به، تركز على مناطق قوته ومناطق ضعفه وتنزع الأقنعة عن الوجوه المخادعة.

    فرّ علام إلى المدينة بمعارفه وفنّه، بعد أن كذبه أهله واعتقدوا في جنونه، هو يوقن بأن” الإنسان لن يصل إلى جوهر الأشياء، وأن الخلق، في النهاية، عملية يجب أن نبدأها كل مرة بأنفسنا أولا، ثم يُكملها الذين سيأتون بعدنا. هنا فقط يأخذ اختراع العالم معناه الحقيقي- اختراع دائم لا يتعلق بالفنانين وحدهم وإنما بكل الناس”(4) .. علام الذي اتهم بالجنون والسفاهة والمجون مرةً بسبب فنه ومرة بسبب أشعاره التي كان يكتبها بعد أن هجر النحت، آمن به صديقه جمال منذ أن رآه للمرة الأولى وتبعه في حركاته وسكناته واعتنق أفكاره وصدّقه حين كذبه الناس وكذبه النظام السلطوي القاهر الذي أراحه- بطريقته- من العناء، فكبرت أسطورته وتضخمت وتفرعت أغصانها، ” كان علام الفكرة في زمن ماتت فيه الفكرة. كان الفطرة في زمن ماتت فيه الفطرة. وقد لا يكون هو الآخر شخصية حقيقية، كان أكثر من شخصية، أكثر من حقيقة، كان الحقيقةَ خالصة”(*)  

خامساً: رواية مختلفة من اجل قارئ مختلف  

لا يمكن إغفال الثقافة الموسوعية التي تتمتع بها الكاتبة والتي نستطيع أن نلمحها بسهولة في الرواية من حيث انعكاسها على طريقة سرد الأحداث ووصف المشاعر وعمق الجملة؛ وتلك الإحالات الذكية التي تتضافر مع النص الأصلي؛ لذا يتوجب على القارئ أن يتمهل ويتمعن وإلا وقع في فخ قراءة مبتسرة ومسطحة لا تؤدي إلا إلى المتعة فقط.

   أبدعت أثير صفا نوعاً من الكتابة العربية يواكب العصر، وينم عن وعي مختلف بالواقع الحالي وتناقضاته؛ حيث ازدادت فيه الثقافة والثورة المعرفية والرقمية، وعمت فيه الفوضى والوحشية والاستبداد.. “تغريدة” رواية تتجاوز ما يسمى بتيار الرواية الجديدة في بنيتها غير المألوفة وزخمها المعرفي المتنوع في وقت أصبحت فيه “المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة” بحسب ميلان كونديرا. تلجأ الكاتبة في بعض الأحيان إلى تضمين كتاباتها مفردات أو جملاً من لغات غير العربية، نلمح ذلك في وصف اللوحات التي تتضمنها الرواية وفي الاستعانة بمقولات وأجزاء من نصوص في لغاتها الأصلية، كما نلمح ذلك في عناوين بعض المقاطع مثل: Graffiti/ Gravity/ Microsoft// Fiction/ Vandalism/ fractal/ Solo يستطيع القاري المثقف أن يعرف مدلولاتها أو على الأقل يستنبط معناها من خلال النص. حتى أنها استخدمت بعض الرموز الرياضية كعناوين لبعض الفقرات مثل π أو ( باي) وهو رمز يشير إلى العلاقة بين محيط الدائرة وقطرها، كما استخدمت الرقم الذهبي أو الحرف الاغريقي varphi أو (فاي)  الذي يقال أنه تم استخدامه في بناء الأهرامات وفي إنشاء البارثينون بأثينا.     

    تغريدة، رواية مختلفة في ترتيب أحداثها، ومغزى هذا الترتيب، حيث تَستدعِي المَشاهدُ مثيلاتها في الماضي عن طريق الإسقاط أو الإحالة إلى نصوص أدبية ولوحات فنية وحقائق علمية. لذا يتوجب على القارئ أن يجتهد في اكتشاف أبواب النص للولوج إليه، وعليه أن يراجع قائمة معارفه لاكتشاف ذلك الخيط الذي يربط بين النص الروائي وتلك الإسقاطات والإحالات التي تدعمه في سبر غور النص واكتشاف أسراره، كي يصل، في الأخير، إلى حيث تريد له الرواية أن يصل.

لا تلتفت الرواية إلى الشكل الكلاسيكي للسرد، حيث الحبكة وتصاعد الأحداث، فقد انتهى السردُ الرتيب – على حد علمي- منذ زمن. انتهت الثنائيات الفجة التي يصطنعها الكاتب بين الفضيلة في مواجهة الرذيلة، الإنسان في مواجهة كوارث الطبيعة، الطيب في مواجهة الشرير إلى غير ذلك من المواجهات التي تفضح تلك الأعمال من بدايتها. هنا تتماهى الطريقة القلقة للسرد والبنية الروائية التي تبدو مهشَّمة مع شخصية “علام”- انظر دلالة الاسم- بطل الرواية وحالته النفسية وانفعاله بكل ما يحيط به من أشياء وموجودات. الفنان الذي يتوق إلى خلق عالم مثالي من وجهة نظره. “علام” شخصية نموذجية، تشير إلى “وعي كليّ بالوجود، وهو وجود يحدد الوعي عند مجموعة بشرية تخضع لبيئة متجانسة، ويعبر عن رؤية للعالم ترتبط بنوع العلاقة التي تجسد وضعه الاجتماعي، وبالتالي التاريخي”(5) وطريقة انفعاله بذلك المجتمع الذي يضج بالعنف والقهر والفقر والتخلف.

إن “تغريدة” أثير صفا رواية مختلفة، تبحث عن قارئ مختلف، يمتلك شغفاً مستمرًا بإعادة إنتاج النص، والمساهمة في تشكيله وربط أواصره، إذ لم تعد الرواية نصاً سردياً تقليدياً يتوجب عليه أن يخبرنا بكل شيء في وقت اختلفت فيه زاوية الرؤية للعالم , وأصبحت الرواية أكثر الأنواع الأدبية التصاقاً بوجدان القارئ الذي زادت وتعقدت أدواته المعرفية واتسعت رؤيته للكون؛ لذا لم يعد نمط الرواية التقليدي يشبع شغفه ويرضي غروره، بل كتابة ترغمه أن “يتأنى ويتفاعل ويتوحد مع النص بشكل مبالغ فيه”(*) . نحن الآن إزاء قارئ له متطلبات أخرى تحتاج إلى نمط مغاير من الكتابة. يقول فلاديمير نابوكوف”بما أن الكاتب العظيم يستخدم خياله أثناء الكتابة، من الطبيعي والعدل أن يستخدم القارئ خياله أيضًا”.

كلمة أخيرة :

تغريدة، رواية غنية بتفاصيلها، مكثفة الأحداث، شاعرية الأسلوب في معظم الأحيان.. إنها بمثابة صرخة في وجه العالم القبيح، ومصباح على طريق الرواية الجديدة؛ تقودنا من يدنا لنكتشف غاية وجودنا، لنرى الطريق، لنشعر بانفجارنا الداخلي قبل أن يحدث، لنبرأ من آلام أرواحنا الدفينة، تشوهات واقعنا، وفساد أنظمته الداخلية. ولأننا محكومون بالعيش، فالكاتبة تكتب وهي تشعر أن العالم هو مسئولية الجميع.. تستطيع في هذه الرواية أن ترى وردة بيضاء صغيرة تتفتح في قلب العالم المليء بالشرور والقبح، ذلك لأن الوردة البيضاء التي لا بد أن تنبت في نفوسنا، تنبع من هذا العالم، والشر والقبح اللذان يحيطان بها ينبعان منه أيضاً. هكذا ينقر الطائر بمنقاره في جدار أصم، ليحفر على جدران العالم القبيح صرخة أخيرة، ليخرج الإنسان، ليتطهر من ذلك العفن” أنا يهمني أن يخرج فقط، من حقه أن يخرج من تلك الشرنقة، يخرج، أن يكف عن كونه دودة، أن يتلون ويطير ويعمل على تلقيح الزهر” (*) 

تغريدة، رواية “تجمع بين أكثر من عمل فني واحد. لذلك فقد كان العمل النهائي ابتكاراً خاصاً لا يشبهه شيء، مثل مبدعه لا يشبهه أحد”(*). تسعى الكاتبة إلى خلق فلسفة جديدة في كتابة الرواية؛ فلسفة تعتم الخطوط الفاصلة بين الرواية والراوي، بين الراوي والمؤلف، بين الرواية والقارئ بل حتى بين الخيال والحقيقة، حتى إننا لنتشكك في واقعية تلك الشخصيات في وجودها من الأساس ذلك لأن الواقع الفنيّ هو الواقع الوحيد القابل للتصديق. هي رواية تتفاعل فيها كل تيارات الرواية الحديثة، تتجاوزها، وتقف متفردة خارج التصنيف.

ـــــــــــــــــــــــ

(*) اقتباسات متفرقة من الرواية.          

(1)،(2) أدباء وشعراء ومطبوعات، موقع “Startimes” على شبكة الانترنت.

(3) كارلوس فوينتس؛ موت أرتيميو كروز، المشروع القومي للترجمة – طبعة 2000م

(4) ألان روب غرييه، نحو رواية جديدة، طبعة دار المعارف المصرية.

(5) سيرة حياة ماركيز، الدار العربية للعلوم ناشرون- طبعة 2010م.

 

 

مقالات من نفس القسم