صورة المدينة في الشعر العربي الحديث.. قراءة في شعر حسن فتح الباب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. جمال فودة

   إن المكان في بنية النص الشعري يجسد بناء فنياً موازياً / مناقضاً لحركة الواقع الذي يعايشه الشاعر من خلال تفاعل الداخل مع الخارج في لحظة كشف تنبئ عن طبيعة العلاقة بينهما مجسدة دلالياً / نفسياً في ثنايا التجربة الشعرية.

وقد ظهرت معاناة الشاعر (حسن فتح الباب) لمظاهر الحياة في المدينة نتيجة اصطدامه بقسوتها وتعقدها، وانعدام الروابط الإنسانية والاجتماعية بين أهلها، وتلاشي القيم والمبادئ، ومن ثم كان إحساسه بالوحدة والغربة والضياع في ظل واقعها الزائف وماديتها السائدة التي قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ تبلدت المشاعر وفسدت الأذواق، ذلك أن:

البلبل الصداح في الجنوب

يموت في الهجير ظامئاً

لكن في مدائن الشمال

يقال للغراب عندليب

ويطرب السمار بالنعيب (1)

   إن الإنسان في المدينة غير الإنسان الذي يعيشه / يتمناه الشاعر، إذا انفصمت العلاقات وتمزق النسيج الإنساني، وما عاد الإنسان إنساناً، تحول الناس إلى أشياء فالعلاقات بينهم تتقطع وتتمزق، يحول بعضهم البعض إلى أشياء، يسلبونهم ذاتهم ويفقدونهم أنفسهم، وأحياناً يضعون ذاتاً أخرى تحل محل ذاتهم الأصلية؛ لهذا يزداد إحساس الشاعر بالأسى والحسرة حين يرى الناس في حلبة الصراع قد تجردوا من إنسانيتهم ولم يعودوا:

إلا قطيعاً من ذئاب

يقتلون بعضهم

ليضمنوا طعامهم

في عالم شرعته الصراع (2) 

   وطبيعة الحياة في المدينة تساعد على الوقوع في الرذيلة، حيث أمشاج مختلفة من البشر، لذا تحفل المدينة بكثير من مظاهر الانحلال والتردي الأخلاقي، من ذلك ما يحدث من مخالطة الرجال للنساء خاصة في مراقص المدينة التي تموج بالفساد:

واشتعلت مراقص المساء

كأنما الأعين في أبهائها سقاه

وضجة الأقدام، ضحكة الشفاه

وميض نار تلفح الخدود

والليل منجم المنعمين والنهار للعناه (3)

   وفي زحام المدينة تصبح الرؤية هلامية حيث تختلط الحقائق، ويمتد الفراغ النفسي الذي يحاصر الشاعر في كل مكان، ويتفاقم الإحساس بالوحدة والضياع والغربة، وتلك هي مأساة الإنسان المعاصر، الإنسان الذي يحيا وحيداً برغم أنه يعاني من شدة الزحام، فالناس تلاصقت أجساداً وتباعدت أرواحاً.

ويتنامى الإحساس بالغربة والوحدة مع فقد الأحباب والأصحاب، فتضيق المدينة على الشاعر بما رحبت، وتبدو رغم زحامها خاوية على عروشها، فيصير الملاء خلاءً:

 

وتختفي ملامح الصحاب

ويرسل الموال صيحة العناه

إذا التقت كف الغريب بالغريب

وأجدبت بحبها الحياه (4)

 

   وللمدينة وجهها المادي الذي يكشف عن روحها وجوهرها، إذ تحكمت المادة في مصائر البشر وانتشرت بينهم لغة البيع والشراء، ولم يعد هناك مكان للمبادئ العليا والقيم الإنسانية، فمثل هذه الكلمات أصبحت شيئاً عتيقاً ينتمي إلى الماضي، لذا يمثل الفقر أبرز المشاكل الاجتماعية من حيث التأثير في الجوانب الحياتية، إذ إنه يعد البيئة الخصبة التي ترتع فيها أمراض المجتمع النفسية ومشاكله الاقتصادية التي تكبح جماح تطوره، وتحول دون ترابطه وتماسك أفراده.

ومن ثم لا يألو الإنسان في المدينة جهداً في سبيل الحصول على المال، فالغاية عنده تبرر الوسيلة؛ إنه لا يتورع عن بيع مبادئه من أجل المادة، بل لا يجد حرجاً في بيع أعضائه لمن يدفع أكثر:

في محتشد

يضم حوانيت بيع الدمى

بقايا بشر

قلوب … شرايين … أوردة من دم جمدت

بأوعية صففت زينة للسراة العناه

متاعاً لمن يبتغى ما فقد

فألف لكي تُستعاد الكلى

وألفان للمقلتين

وضعفان للقلب والرئتين

بدائل جاهزة للطلب (5)

 

   هكذا يسود التشيؤ – بصفة خاصة – في المجتمع التجاري، إذا ما أصبحت للمادة اليد العليا، إذ نرى كيف أن المال عامل أساسي في تمزيق الروح، وكيف أن الذات التي يحيل المجتمع وجودها إلى مجرد حقيقة مادية لابد أن تجد نفسها في خاتمة المطاف مجرد شيء.

إن حياة المدينة لا تمزق أوصال المبادئ والعلاقات الإنسانية فحسب، بل إنها تقتل في الحياة نفسها صورة البراءة والطهر ممثلة في أولئك الصبية المشردين الذين يفترشون أرصفة الشوارع، ويلتحفون آفاق السماء، وينتهي بهم الأمر إلى السجون والمصحات النفسية، ليحل محلهم غيرهم:

بين الحرائق والطل، أرصفة الرعب

أقنعة الموت للصبية الشاردين

تدفئ أجسادها بعضها

على عربات الهزيع الذي قد تبقى

من الويل والليل (6)

 

   لقد أدرك الشاعر عمق الهوة بين ما يراه من حياة المدينة وما كان يحلم به            ويتمناه، الأمر الذي جعله يقف عاجزاً حيال التكيف مع واقعها وقبولها على حالتها تلك، ومن هذه المواقف كلها يتضح لنا كيف أن تجربة الحياة في المدينة قد كشفت للشاعر عن مضمونها الحقيقي، سواء بالنسبة للفرد أو للجماعة، وكيف أن الشاعر قد ترسبت في نفسه خلال هذه التجربة مشاعر الحنق والنقمة على وجهها الحضاري.

ومن هنا كانت دعوة الشاعر للثورة والتحريض على إزالة العوائق النفسية التي تحول دون لقاء الإنسان بأخيه الإنسان، في ظل مشاعر الحب والإخاء لضمان استمرار فعالية الوجود الإنساني، وإلا حق على هذه المدينة العفاء ما لم تطهر قلبها من بغضها وجنونها، ولنرحل عنها كضحايا لها، إنه يحلم باليوم الذي تطلق فيه الأبواق لحن الخلاص:

لضم الشتات .. ليلتقي الإخوة الأشفياء

لنحمي قلب المدينة من بغضها والجنون

نضيق فنعلم أنا نثور عليها

أو نفارقها بالدموع

لأنا الضحايا (7)

 

لذا فإنه يعود إليها بعد أن اغترب عنها يبثها حنينه وآلامه وأشواقه، مفضياً إليها بسره ومكنون صدره، منادياً عليها ـ متوسلاً ـ بأعلى صوته أن تعوضه عن أيام الحرمان، ترويه من نبعها الفياض، فهي جنته التي يوقد فيها شموع الأمل، ويقضى في رحابها على كل الأشجان، ويحيا في ظلها منعماً لا أنين ولا دموع ولا حنين:

مدينتي

يا راية الأجيال، يا أنشودة الحياه

يا جنتي

رمى بي المطاف بين أعين العناه

ورحلة الشباب في حماك لم تطل

وما خبا الحنين في دمى، ولم تزل

أنفاسي الحرار تستحث عودتي

فداك مدمعي العصي يا مدينتي

فداك لوعتي

لتمسحي على الجباه بالحنان

فقد مضى بطيبها الزمان

وعاش في غضونها الحرمان

مدينتي

ولم أزل أغوص في الظلال

والأرض في سخائها تخضر بالرجال

لكنهم تحت السماء يسغبون

ويظمأون حين تجدب العيون

ويرتوون من علالة الرجاء

أن يغتدوا يوماً إلى الشروق

في ظلك الأمين بين رفقة الطريق

فيوقدوا الشموس بالقلوب والعيون

ويقهروا في ساحك الشجون

ولا يعودوا للضياع والحنين (8)

 

لقد بدأ ـ إذن ـ نوع من الالتقاء بين الشاعر والمدينة باستكشاف أبعاد أخرى لرؤية ملامح الحياة فيها، تدعو إلى إمعان النظر في حقيقتها، إذ لا سبيل إلى الانفصال عنها، فليس سواها ناره وجنته، خاصة وأنه قد ارتضاها مقاماً له، فراح يناديها ويناجيها ” مدينتي” فهي موئله رغم ما تجرعه من عذابها، وتكبده في رحابها من غربة بين أهلها وتشرد على أبوابها، برغم كل العقبات التي تقف في طريق عودته إلى المدينة، فإن ثمة درباً روحياً خفياً يمتد بينه وبينها فوق كل مظاهر المادية والزيف.

 

   وهكذا يحظى المكان بأهمية خاصة في شعر” حسن فتح الباب” إذ يمثل بؤرة الدلالة ومحور التجربة الذى تدور حوله رؤى النص ، فالشاعر يريد أن يطوف بالوجود كله ماديات ومعنويات ، مشاعر وأفكاراً بحثاً عن عالمه المفقود ، لذا يستعين ـ في سبيل هذا الطواف ـ بالانطلاق من مواقع معينة يتخذ منها دفئاً لوجدانه، وسلماً يبتغى به الوصول إلى عالمه المنشود، ومن ثم كانت (المدينة) التي يجسد بها الشاعر رؤيته ويصور من خلالها تجربته هي نضح مكوناته النفسية ، إذ لم يخلقها من عدم ، بل هي رؤى أو عوالم قديمة يستحييها ويضرم في رمادها وهج جمراته الشعرية .

 

**************************************************************

1/ العصافير تنفض أغلالها /51

2/ السابق/ 141، 142

3/ الأعمال الكاملة: المجلد الأول / 124

4/ السابق / 110

5/ الخروج إلى الجنوب / 180، 181

6/ السابق/ 41، 42

7/ السابق / 371، 372

8/ الأعمال الكاملة: المجلد الأول / 111، 112

 

مقالات من نفس القسم