“ستيفن هوكنج” في رأيي هو إثبات عملي أن المخ هو أهم عضو حيوي إن استخدمناه، لكن أبناء قومنا لهم رأي آخر، أن أهم شيء هو الإيمان أو الدين. وكيف مارست وأثبت هذا الدين.
ذلك أهم من كل شيء، من إنجازاتك الشخصية وما أفدت به البشرية وما ستخلفه للبشرية بعدك!
تعلم أني لا أنساق وراء هري السوشيال ميديا، لا وقت لدي أو طاقة لعبث هؤلاء الأغنياء، هؤلاء الذين يملكون وفرة من الوقت، بينما الفقيرة لله ترتجي من الكون معجزة، أن يهبني الرب ضعف الوقت فيفيض ولو بعض منه.
لكن الوقت هو المصدر الوحيد الذي تساوى نصيبنا كبشر منه. تشرق الشمس بميعاد وتغرب بميعاد علينا جميعا. ولا يهم أن تكون الأذكى أو الأغنى أو الأعلى مقاما، لن تحيد شمس يومك عن مسارها من أجلك.
وأركض أنا وراء الشمس، هنا بالنصف الآخر من العالم. بينما المتنعمين بغفلة اللامبالاة، ينفقون قسما من وقتهم كي يقرروا إن كان “ستيفن هوكنج” عالما عظيما أم مجرد ملحد بائس يعذبه الله بينما أكتب أنا مقالي هذا!
ويذكرني ذلك الجدل الغير مثمر بالجدل الذي أثير حول “محفوظ” لا لتطابق بين فكره مع فكر “هوكنج” ولكن لأن مثير الجدل واحد وهو بعض سكان تلك المنطقة من العالم التي لم تؤت من العلم ولو قليلا، وعلى الرغم من هذا ناطح غرورهم السحاب فكانوا ولم يزلوا يحاولون الوقوف على قدم المساواة مع الله!
وما هي أمثل طريقة لتوهم تلك المساواة سوى الحديث باسم الله والنيابة عنه والحكم على البشر بالجنة والنار وتصور آراء الله في بشر بعينهم والقسم على صحة الآراء بالله نفسه.
تعرف أن تلك ممارسات تخلق أهمية زائفة لذواتنا الفانية البائسة، لذا تجد أن السطحيون يعاودونها كثيرا.
فترى على صفحات التواصل الاجتماعي تعليقات تدور حول مصير الدكتور “مجدي يعقوب” مثلا، أو اتهام “محفوظ” بأنه قد كفر عندما كتب “أولاد حارتنا” والربط بينها وبين فوزه ب “نوبل” أو تذكير الجميع بهول إثم إلحاد “هوكنج” عند موته والتأكيد أنه يحاسب الآن شر حساب.
المثير للتهكم أن من يطلق تلك الأحكام ربما لم يقرأ ل”محفوظ”, وقد يقيمون “هوكنج” اليوم وهم لا يفقهون أساسيات علم الفيزياء ولا يعرفون شيء سوى أن الرجل قد أنكر قصة الخلق ووجود خالق وأن هذا أمر كافي كي نقر بمصيره إقرارا لا شك فيه!
ويدخلون تلك النقاشات الفارغة على حائط إلكتروني، قد يسلبه منهم مخترعه بضغطة زر.
أبتسم بلذة خبيثة لتصور الفكرة، تخيل أثر قسوة لحظة الوعي، عندما يختفي من بين أيديهم ما تناسوا أنهم لم يصنعوا ولا يملكوا فيدركون أبعاد قدراتهم الحقيقية.
لا تؤاخذ شر تصوري، ليس شرا أن أتمنى شكة دبوس ينفجر على إثرها بالون الحماقة المنتفخ بالغرور، فنخلص.
فهذا “ميت” يحاسب ميتا، وأي عبث أكبر من هذا!
والموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا جدال فيها، يأتي المؤمن بحياة بعده والمنكر لها، لكن من يجرؤ على إنكاره وهو مرئي وقاطع ومتكرر؟!
وإن ذكرت حقيقة الموت ينبغي علينا ذكر “الشحاذ” لأنها الرواية المناسبة جدا للموقف. حيث تلك الحقيقة هي التي زلزلت كيان “عمر” فاختفى فجأة كل شيء، على حد تعبير نجيب محفوظ.
“فهز رأسه في استهانة وقال: ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها. فسلمت بوجاهة منطقه ولكن ذهل رأسي بدوار واختفى كل شيء“
يتتبع “محفوظ” حيرة عمر وعذابه وتشتته، وكيف هان عليه كل شيء هو من بدا أنه قد ملك كل ما يتمنى أي إنسان.
فمرض على حد تعبيره وفي رحلة بحثه عن براء خسر كل ما كان يملكه.
لم يجد إجابات على أسئلته ولا اهتدى إلى نشوة تملأ الفراغ الذي خلفته لحظة الإدراك تلك التي باغتته وهو يحاور ذلك الموكل الذي كرر على سمعه ببساطة الحقيقة التي نعلمها جميعا.
ليست تلك هي الرواية الوحيدة لمحفوظ التي يستعرض فيها حيرة الإنسان الأبدية في البحث عن معنى وجوده بالحياة. لا يخلو عمل لنجيب من عبارات تعكس تساؤلات فلسفية تؤرق كل صاحب فكر.
لكن التكثيف في تلك الرواية يرجع لأن عقدتها وفكرتها تدور حول تلك الإشكالية. ولا أظن انها مصادفة أن عامين فقط يفصلان بينها وبين “أولاد حارتنا” الرواية التي كفروه بسببها إلى حد التعرض لمحاولة اغتيال.
الفعل باسم الرب والحكم على الآخر بيقين بجح، هي ممارسات توحي بأهمية وسلطة.
ترضي المتشبهين بالآلهة. المتوهمون أنهم يعرفون يقينا وأن بإمكانهم تقرير مصير إنسان.
من السهل على الجاهل أن يركن إلى وهم اليقين. أن يتحدث كإله عارف بكل شيء.
بينما العلماء والمفكرون شحاذون، يستجدون من الرب أو الطبيعة، أو العلم أو الفكر إجابات عن أسئلة لا تنتهي. وكلاهما لا يجد كل الإجابات.
لكن محفوظ يقر في “الشحاذ” بأن العالم أفضل حالا:
“لعله لو كنا من العلماء الذين ينفقون عشرين عاما من العمر في البحث عن معادلة لما عرفت التعاسة إلى نفوسنا سبيلا“
وإن كنت شخصيا أخالفه في هذا الرأي وأرى أن كل الباحثين عن إجابات، متشابهين.
تحتاج الرواية قراءة وتفكر، عرض فيها “نجيب محفوظ” ببراعته المعهودة، انهزام الإنسان الحتمي أمام الفناء ولجوئه لكل ما أمكن كي يُخلد ذكره.
وهو ما يُفهم ضمنيا من قول “عمر” شارحا سبب أزمته:
“ربما هو ما نلجأ بسببه أحيانا إلى الفن
فالفن قد يخلد ذكر مبدعه والعلم يخلد أسماء من أخلصوا له أيضا.
“الشحاذ” رواية تستحق القراءة، وأجد فيها ذروة أزمة فكرية حادة، ولا يمكن تحليلها بمنأى عن خلفية زمنها وديانة كاتبها.
تأثير التغيرات السياسية لأواخر الخمسينات واستدعاء النص القرآني واضحان.
ولا يخفى على متأمل المشابهة ما بين صراخ عمر في الخلاء
–أريد أن أرى.
وإجابته ب
-أنظر
وبين سؤال إبراهيم في النص القرآني “رب أرني أنظر إليك“
كي يطمئن قلبه.
وإن احتاج أبو الأنبياء عليه السلام الرؤية المباشرة كي يطمئن قلبه، فكيف يكون حال قلوب الباحثين!
يأتي بعد ذلك أحد الحمقى صارخا “ستيفن هوكنج سيذهب إلى النار” وكأنه قد كلم الله بعد دفن الرجل وعرف.
لا تجادله واستحلفه بالله أن يذهب حيث ذهب “ستيفن هوكنج” ليسأل ثم يعود إلينا ويخبرنا بما رأى.