رواية “فاكهة للغربان” لأحمد زين.. نعي للفكر الثوري وتشخيص لوجع النكوص والخيبات العربية

فاكهة للغربان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. إبراهيم الحجري

يواصل الروائي اليمني أحمد زين مشروعه الروائي المتأني بإصداره عملا جديدا موسوما بـ(فاكهة للغربان)، صادر عن (دار المتوسط/ إيطاليا/ 2019م)، بعدما سبق له أن راكم عددا من المنجزات الروائية التي يحرص أن يجعل بينها مسافة زمنية، مانحا نفسه فسحة لتأمل الحصيلة، والإنصات إلى وقع العمل في المشهد الثقافي، وفي الوقت نفسه؛ إعطائه وقته الكافي لينضج، ويتفاعل مع السياقات المحيطة به، خاصّة أنه من الرّوائيين الذين يكتبون بوعي؛ أطروحاتهم الفكرية والفلسفية والأدبية سردا مغلّفا بالحكاية والمونولوغ والحوار والتخيّل، وهذا يحتاج وقتا مضاعفا للموازنة بين ثقل المادة النقدية والفكرية، ولطافة المحكيّ الجماليّ الذي يشكّل عصب العمل، وطعمه اللّذيذ، وهي على التوالي: “تصحيح وضع” (2004)، “قهوة أميركية” (2007)، “حرب تحت الجلد” (2010)، “ستيمر بوينت” (2015).

تنصرف كل هاته الأعمال الروائية إلى مقاربة الأوضاع العربية المعاصرة، مشخّصة الأخلال المؤدية إلى النكسات المتلاحقة، والخيبات المتراكمة التي حصدها العرب عقب انصراف الاحتلال شكليا، وفشل الحركات التّحررية الوطنية وفعاليات المجتمع المدنيّ بشتى أطيافها في بلورة مشروع يتحدّى العوائق الداخلية والخارجية، ويؤسّس دولة حديثة قوية تترجم الأحلام الثورية التي تشبّعت بها الأجيال التي عايشت الاستعمار، والتي جاءت بعده، بأسلوب سردي عميق يستهدف تصوير الانفعالات والمشاعر المصاحبة للوقائع التاريخية المشؤومة، والاندحارات المتتالية التي أوصلت الخيارات الشعبية المكافحة إلى الباب المسدود، والمآسي السياسية التي قضت على الطموحات، وأحرقت آخر الأحلام، تاركة ما تبقى من حطام إنسان عربي منهك ما عاد قادرا على الحلم حتّى.

       لا تخرج رواية “فاكهة للغربان” عن هذا المنحى الأطروحي، لكن انطلاقا من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وبحس جمالي مختلف، دون أن تخرج عن نطاق المشروع العام للسرد الذي يروم تفكيك البنيات الفكرية والاستراتيجية والسياسية المساهمة في تفاقم الوضع العربي، وتراكب الخسارات والفجائع والمحن والنكسات على جميع المستويات في الوقت الذي ترتقي فيه بلدان الجوار بشكل صاروخي لا يجارى ولا يصد. وكأن الكتابة السردية تجيء هنا، معادلة لنعي مرحلة سياسية كبرت خلالها أحلام الثوار، وتأسست فيها طموحات وردية، سرعان ما كشف الزمن سرابيتها، وعرت الوقائع اللاحقة أوهامها، وزيف ما عُلّق عليها من آمال.

ولأن السياقات المؤدية إلى تلاشي هاته الأحلام مركبة، ومتداخلة، وبنيوية، فإن الرواية غاصت في دواخل الشخوص، وتوغّلت في نفسيات الثوار والمحسوبين على قواعد الحركة الشيوعية في العالم العربي الذين جمعتهم الظروف السياسية والملاحقات الأمنية في عدن، قبلة المدّ الشّيوعي العربيّ، وقلعته الحمراء الحصينة، قبل أن تحاصرها أسراب الغربان الجائعة التي أتت على الأخضر واليابس، والتهمت الأفكار والأحلام والتّطلعات، ولم تترك سوى حطام عصيّ على العدّ، وخراب ذهلت لروعه الفصول قبل الأفراد. كأنّ الكتابة السردية مأتم درامي يشيع جثمان آخر الطوباويات العربية الحالمة بمجتمعات حداثية متنورة؛ تنفض غبار التخلف والحصار والنكوص الذي عمرّ كثيرا في سمائها؛ حاجبا عنها رؤية شمس غد أفضل.

  1. بين الميثولوجيا والتاريخ المعاصر:

نهل المتن الروائي مادته التخييلية من ثلاثة منابع؛ هي: التاريخ المعاصر، الميثولوجيا الرمزية، وتجارب الذات، كلها تنصهر في عالم محبوك، وتتفاعل مشكلة كيمياء النص، ونكهته المتفردة دون أن نستشعر غلبة أيّ مكون على الآخر، وكأن المادة المركبة عُجنت بيد ساحرة، وقُدّمت على طبق سرديّ متناغم الأبعاد والدلالات والخصّيصات النوعية.

يتحدد البعد الميثولوجي للنص الروائي الذي بين أيدينا، في استلهام المحكيّ الروائي مقولة “الغراب” بإحالاتها الرمزية الغنية التي يصعب حصرها وسردها كلها، واستنباتها ضمن العالم الروائي بمدلولات خاصة يمنحها إياها المتن بشكل مضمر ورمزيّ، لا يمكن الوصول إليها إلا باستحضار المكون الأسطوريّ الموحى به ضمنيا، مع ربطه بالسياق النصّي الذي وردت ضمنه.

ولعل تصدير هاته المقولة الميثية في عتبة العنوان (الغربان)، والحرص على ترديدها وتكرارها في مقاطع عديدة داخل المحكيّ بشتى صيغها الاشتقاقية والإيتيمولوجية (غراب، غربان، غرابان، الغراب…)، التي تزيد على العشرين، عن وعي مسبق، دليل على مركزيتها في تشييد الأطروحة النصية، وخلفياتها التأويلية التي قد تتفاوت من قارئ إلى آخر. إذ إن تبئيرها بوصفها عنوانا، يمنحها الأحقية في أن تصير نصا مستقلا موازيا يرفد دعامات معناه من التوارد الحشوي للمقولة ذاتها ضمن عوالم المحكي مهما اختلفت مواقعها ومحدداتها ومشيراتها اللغوية والرمزية. يقول الراوي: “نظر صلاح حوله وتذكرَّ نومه السَّيئ البارحة، لم يدرِ ماذا دها الغربان، لتنعق طوال الليل. كان النعيق حادَّاً وقبيحاً كَمَنْ يندب ميتاً أو يُنذر بشرٍّ. طار النوم من عينَيْه، فبقي لأكر من ساعة في فراشه، ثمَّ نهض وتجوَّل في المنزل، من دون فائدة”[1].

شكّل الغراب في مختلف الثقافات الإنسانية على مرّ التاريخ، طائرا شؤم غير مرغوب فيه، يُتطيّر منه، مثله مثل البوم، للونه الأسود الحالك، وما له من دلالات رمزية في المتخيل البشري، وصوته المزعج (النّعيق)، وفضلاته الكريهة الرّائحة، وسمعته السيئة بين كل أنواع الطّيور الأخرى، وارتباطه بالأخبار السيّئة، ودلالته على الموت والرحيل والفراق، وغيرها من الأمور المزعجة. غير أنّ المحكيّ الروائيّ أورد المقولة مشبعة بكل هاته الحمولات مع تطعيمها برمزية جديدة؛ من خلال وصلها بأجواء الحزن القاتمة المخيّمة على عوالم الرّواية.

استنادا إلى هذه المعطيات السابقة، فالمتن يستثمر البعد الميثولوجي لمقولة “الغراب” لتعزيز رمزية المحكي، وإمعانه في ترسيخ مظاهر النكوص، والإخفاق، والخسارات المتتالية، في اتّصال مع باقي العناصر المؤثثة للمتخيل، مثل الهزيمة، والحرب، والخيانة، والاغتراب، والتمزق، والحنين، وغيرها من الدلالات التي تذكي الشّعور بالمأساة، والغبن، والتشتت. حالة النوستالجيا هاته يجب أن تفهم في سياق الحاضر والعلاقة معه، فهي مؤشر على وجود علاقة مرتبكة بين الذات وإدراكها للعالم والواقع من حولها، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات ضمن لحظة تاريخية معينة، وحينما يكون الواقع غير مدرك أو مستوعب تماما من قبل الذات تصبح غير قادرة على تعريف هويتها أو تسكين نفسها في موضع آمن داخل هذا العالم، فتلجأ إلى العيش في الماضي بوصفه نوعا من المراوغة والالتفاف على الواقع المرفوض، ويظل الحنين مصاحبا لها إلى ما يشعرها بالأمان والاستقرار[2]. يقول الراوي واصفا حالة تهيج الذكرى لدى الشخصيات إبان حدوث ما يذكرهم بالأوطان الأصلية: “عندها تناهى إلى، حتَّى البعيدين عن طاولتهم، صوت عبَّاس، وهو يتهدَّج طَرَبَا ً”يا طير الرايح لبلادي، أخذ عيوني تشوف بلادي”، ثمَّ أخذ الجميع يُردِّد وراءه، بينما راحت سناء، وقد بلغ تأثُّرها حدوده القصوى، تتمايل بجسدها، حتَّى عثرت على نفسها غير قادرة على مقاومة النظر إلى نضال ورفاقه”[3].

يحضر متخيل التاريخ المعاصر بقوة، من خلال معالجة مرحلة حاسمة في حياة الفكر البشريّ، والمجتمعات العربية، وهي مرحلة القومية واليسار الاشتراكي، والحلم بأفكار الثورة، وتشييد نظام ديمقراطي يرتكز على قيم الشيوعية والديمقراطية، والوحدة، والرخاء، والحرية، والنماء الشامل؛ انسجاما مع الحركة الشيوعية العالمية التي تأصلت في الاتحاد السوفياتي قبل أن تزحف على شرق أوروبا وآسيا والعالم بأسره.

تتبع الرواية خيوط الحضور اليساري العربي، من خلال بعض رموزه وشخصياته اللائذة بعدن بعض التضييق التي لاقته في بلدانها الأصلية، وهربا من بطش الحكام وجبروتهم، وجحيم المطاردات البوليسية، غير أنه بمجرد سقوط النظام الاشتراكي في المعسكر الشرقي؛ وخاصة في مهده الأصلي وتعويضه بنظام رأسمالي (البروسترايكا) التي مزّقت الاتّحاد السّوفياتي سابقا إلى مجموعة من الفيدراليات، هبت رياح اليأس في صفوف المتشبّعين بأفكار هذا التيار بكل مناطق المعمور؛ ومنها عدن التي ضمت نخبة من اليساريّين العرب والأجانب، جاعلين منها قبلة شيوعية في اليمن السعيد. غير أن المحكي لا يسترجع حكاية التاريخ الاشتراكي العربي؛ بل يستعيد روحها، ويرسم فراشات الأحلام التي حلقت في سماء عدن الكوسموبوليتية، ناشرة سحب الأمل والترقّب؛ قبل أن تحرقها فضلات الغربان الآثمة التي غارت على “أرض ميعاد الاشتراكية العربية”. يقول السارد في هذا الصدد: “لم ننحر نحن الديكة أُضحيَّة لشهر يناير، فيهبنا سنة سعيدة، ويُجنِّبنا الحسد والأذى طوال العام، إنما آلاف الرفاق ذهبوا قرابين لكَ، يا يناير، وافترست جثامينهم الكلاب والغربان التي اعتادت التَّغذِّي على الزواحف، كيف سيكون طعم الرفاق في أفواه الغربان وبن مخالبها، مقارنة مع تلك الزواحف الصغرة؟ مثل الفاكهة؟ ربَّما”.[4]

       أما متخيل الذات الذي يشكل إسمنت النسيج النصّي، فهو يتوزع عبر المفاصل والمقاطع، ويُقحم في الحكايات وملفوظ الشخصيات؛ باعتباره تجارب شخصية معيشة، أو مسموعة عن آخرين أو مقروءة. وبما أنه متخيل شخصي يدخل في نطاق معرفة الذات بالعالم، ومدى تفاعلها مع وقائعه وفضاءاته، وأناسه، ويرتبط أساسا، بالانخراط في مجتمع متحوّل، والقدرة على مساجلته، ورصد مظاهره، ورسم تشكيلاته المتنوعة، وتفاصيله الدقيقة التي لن تتأتى إلا لروائيّ متشبع بخصوصية المكان (عدن)، ويوميه المعيشي، وطقوس الحياة في قاعه وأوساطه الاجتماعية المتفاوتة، ومعرفة خصوصيات عمارته وثقافة مجتمعه العريقة.

تجسدت كل هاته المقومات التكوينية في شخصية الكاتب، بوصفه يَمنيا يعرف شعاب عدن ودروبها وجغرافيتها، وصادق أهلها وناسها والطارئين عليها، والأكثر من ذلك، فهو ابن الجيل المُمَثل نصيا. الجيل الذي عاش النكسة، بعد أن شيّد جبالا من الأوهام على الفكر اليساري، وضحى بالغالي والنفيس من أجل تحقيق هاته الأحلام، وأرسى عليها عليها طموحات كبرى، قبل أن يستفيق، في لحظة، على تحوّلها إلى كوابيس وعواصف وركاما من الخراب الاقتصادي والسياسي والفكري والاجتماعي.

 لقد ساهمت هاته المعرفة بعوالم الأفضية المستلهمة مرجعيا، في رفد مادة النص، ورتق مفاصله، ومنحه خصوصية الإيهام بالواقعية، وإعلاء مكون الوصف داخل المحكي الذي يكاد يهيمن على كل المكونات الروائية الأخرى، على اعتبار أنه أكثر لزوماً (للنص) من “السرد”، لأنه يسهل علينا أن نصف دون أن نحكى من أن نحكى دون أن نصف، ولأن الأمر يرجع، دون شك، إلى أنّ الأشياء يمكنها أن توجد دون حركة، ولكن الحركة لا توجد دون أشياء”[5].

  1. مدينة كوسموبوليتية:

يمنح الروائي مدينةَ عدن في “فاكهة للغربان” بعدا كوسموبوليتيا، ليحررها من عزلتها الجغرافية من جهة، ويضفي على الحركة السياسية، موضوع الرواية، بعدا عربيا ودوليا من جهة ثانية، ويجعل من تعدد الأطياف والجنسيات والمجموعات الطارئة عليها؛ الشرعية الرمزية، حيث شكلت المدينة ملاذا أثيرا لليساريين المُطاردين في أوطانهم لأسباب سيّاسية، أو لانتماءاتهم الشّيوعية، سواء كانوا عربا أو أوروبيين، على غرار مدن عربية أخرى كانت في وقت من الأوقات، محجا للأقليات الأجنبية غير المرغوب فيها، الشيء الذي أعطاها بعدا دوليا مفتوحا على التنوع والاختلاف مثل طنجة والقاهرة والإسكندرية وبيروت.

جسد هؤلاء الطارئون على عدن؛ إضافة متميزة للعمل السياسي والنضاليّ في الحزب الوطني اليساري، وضخوا دماء جديدة في شرايين العمل الثوري، من خلال المساهمة المتميزة بأفكارهم وتجاربهم ورؤاهم في حفز المناضلين وتحميس القواعد على التكتل حول الإطار الاشتراكي، وزرع الأمل والأحلام الوردية أمام الساكنة، بجد وإخلاص وتفان؛ كما لو كانوا في بلدانهم الأصلية التي هجروها بفعل المضايقات المتكررة من قبل السلطة القائمة المعادية للمد الاشتراكي. وبالرغم من أنهم كانوا يستشعرون، بين الفينة والأخرى، وبشكل مضاعف وقاس، خناجر الاغتراب تطعن قلوبهم الدامية، وتنكأ جروحهم المتعفنة؛ بفعل بعض السلوكيات المعزولة التي تصدر عن بعض المواطنين، يقول السارد على لسان شخصية سناء: “في كل بلد أقمْنا فيه يعمدون إلى تذكيرنا أننا غرباء، أن سوريا للسوريين، لبنان للبنانيِّين، والأردن للأردنيين. كأننا لا نعرف ذلك، كأنَّا هذه المعرفة لا تُشعِل النيران في أجسادنا ليل نهار”[6].

لم يستسلم هؤلاء الطارئون أبدا، ولم يفرطوا في شعاع النور الذي تمثله هاته الحركة في عدن، وظلوا يكافحون من أجله، ويحيطونه بالرعاية اللازمة، والحضور الوازن بالروح والجسد إلى آخر رمق، حتى أنهم ماتوا بانطفائه، وخمدت أرواحهم بتلاشي ذاك الأمل. يقول الراوي؛ واصفا انطفاء الطموحات في أعين المناضلين: “”تصمت لبُرهَة، ثمَّ سيسمعها تقول: مرَّة قال لي: لا أدري لماذا يعتريني شعور أن أحلامنا تواضعت، بعد أن كنَّا حالمين كباراً.  وأتذكَّر أن وجهه تحوَّل يومها إلى علامة استفهام هائلة. قبل أن يواصل قائلا: في تلك الأوقات، بعد رحيل آخر جندي بريطاني، لم نكن نمي فوق الأرض، نبتت لنا أجنحة، وطرْنا، ابتعدْنا عن الأرض، وصرْنا نُحلِّق عالياً. حلمْنا بثورة مستمرَّة لتحرير الجوار كله، ورأيْنا بعن خيالنا بلداناً جديدة، تنهض على أنقاض بلاد، عَرفت طويلاً الذُّلَّ وعبادة الطاغية. صنعت لنا مخيِّلاتنا جنات، الجميع فيها متساوٍ. فجأة، وكأنَّا أجنحتنا كانت من شمع، إذا بها تذوب في حرارة عدن وجوِّها الجحيمي، فتساقطْنا مرتطمين بالأرض التي لم نَخَلْها صلبةً فقط، بل كانت أكثر صلابة حتَّى من صخور ردفان”[7].

ينسجم هذا الاختيار مع روح العمل، المتمثل في رصد شعور الشيوعيين والاشتراكيين العرب، من خلال عينة “عدن”، والمفارقة البيّنة بين ما ضحوا به وحلموا به من تغيير، وكيفية تبخر الطموحات والرهانات التي أثثت مشهدهم الحزبيّ والنضاليّ عقودا من الزمن، حيث تكاد لا تخلو دولة من هاته التمثيلية، حتى تلك التي غلبت فيها الرأسمالية، أو سيطر فيها الراديكال، أو أشكال الحكم الأخرى، فقد حرص الروائي على استحضار نماذج من دول عربية نشط فيها اليسار بشكل أكبر، وراكم فيها تجارب عديدة من قبيل العراق، لبنان، الجزائر، سوريا، فلسطين، الأردن، على اعتبار أن الرواية تتقصد جمع هذا الشتات العربي، وكأنها، بذلك، تؤكد على أن أسباب النكوص والفشل واحدة، سواء كانت داخلية منبثقة من فكر التنظيم وسلوكيات مناضليه، أو خارجية لها ارتباطات بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، والفكرين الاشتراكي والرأسمالي، والمضايقات التي تفرضها القوى المناوئة للديمقراطية والحرية والتعددية.

  1. شخصيّات مهزومة وجيل يعيش على الذكريات:

تأسس المحكي في الرواية على جدل مخاتل بين طرفين يهيمنان على العالم السردي؛ ويتبادلان عمليتيْ الشد والجذب في استثارة الحديث، واستخلاص المعطيات، وهما “نورا” صاحبة أسرار الحركة، وزوجة المناضل اليساري المختفي “جياب”، التي تتأهب لسرد حكايتها الخاصة المتقاطعة مع حكايات الحزب والقائد جياب، لكنها تتلذذ في تقطير معطياتها على المقاس، بشكل يثير ريبة محاورها “صلاح” المناضل اليساري الذي كان يعمل تحت رئاسة زوجها جياب. وتحت غطاء محاوراتهما، تشكلت شجرة السرد في عالم (فاكهة للغربان”، وبكثير من الاقتصاد والتوجس والحيطة.

نالت كلا الشّخصيتين حظها من الخراب الذي لحق الحركة الثورية، وتفتُّت مشروعها التنويري الديمقراطي، فنورا المتحدرة من أسرة أرستقراطية تمت مصادرة ممتلكات أبيها من قبل الحزب اليساري بعد الاستقلال، بإيعاز من عشيقها المختفي “جياب” بتهمة تعاون والدها مع المستعمر الإنجليزي، لينتهي بها الأمر راقصة تقدّم وصلات فلكلورية تراثية في الغرفة الوطنية؛ إبان المناسبات والمحتفلات الكبرى، قبل أن ترتبط بقصة عشق مع جياب. غير أنها لم تسلم من سم الأحقاد المتراكمة ضد “جياب”، فنالت حظها من العقاب، بعد أن رماها ملثمون أثناء خروجها من الروك موتيل، بمادة حارقة تسببت لها في شلل وعاهة مستدامتين، فما تبقى لها غير ذكرياتها ومآسيها المضاعفة، وبقايا أحزان متوارثة.

 أما المناضل الثوري البدوي “صلاح” الذي استطاع تسلق مناصب مهمة في الحزب بسبب جديته وانضباطه وانخراطه العفوي في أطروحات الحركة، من خلال دفاعه المستميت عن ملفه الذي نصّب نفسه مرافعا عنه طوال مشواره السياسي، فنال ثقة القواعد الحزبية، ورأى فيه رؤساؤه جذوة متقدة قلّ نظيرها كفيلة بالارتقاء بالعمل الثوري، قبل أن يجهز الاختلاف بين الرفاق، وانقسام الحزب إلى فئتين، وضياع ريح الوحدة الصفية للحركة التي كان يؤمن بها حدّ التماهي، واشتباك الجبهة القومية وجبهة التحرير في صراع مرير أودى بالتجربة السياسية، وآذن بانتهائها المحزن والقاسي، فانسحب مخذولا، مكسور الظهر، لا يعرف ما يقدّم ولا ما يؤخّر. رأت فيه “نورا” شخصية مميزة لمساعدتها على كتابة مذكراتها ونتفا من حياة عشيقها المختفي، لمكانته في الحزب، وقربه من الأسرة، فقبل، على مضض، مدفوعا برغبة داخلية قوية في التّعرف على شخصية رئيسه السابق “جياب” عن قرب، ليؤدي ثمن هذا القبول من خلال المضايقات التي تعرض لها في حياته الشخصية والاجتماعية.

باضطلاعه بمهمة كتابة مذكّرات “نورا” الموزّعة بين رغبتين متداخلتين: رغبته في استخلاص ما وراء قصة جياب، وتكوين صورة واضحة عن شخصيته الغامضة المحاطة باللبس والأقنعة والأسرار، وإصرارها على إقحام رأيها الشخصيّ في التجربة السياسية وقادتها ملفوفا ضمن تضاعيف الحكاية، تأتّى لصلاح التعرف عن خيوط ما كان له أن يدركها من قبل، وهو منخرط في العمل السياسيّ والحزبي، الشيء الذي جعله يفقد الثقة في التنظيم، وفي القادة على حدّ سواء، كما أنّ الأسرار التي كشفتها رواية “نورا” زعزع، في ذهنه، فلسفة النقاء الاشتراكي المغلفة بالأوهام والأضاليل، وحرك، في نفسه، شجن السنين التي أحرقها في الوهم، ليجني منها، في الأخير، مرارة الحنظل، وعزلة الخائبين.

لخلق دينامية عالية على مستوى التفاعل القائم بين عناصر مجتمع الرواية، أحاط الروائي بهاتين الشخصيتين (نورا، وصلاح)، شخصيات أخر، ساهم كل منها، بقسط ما، في إنارة مسارات الفاعلين الأساسيين، وتطوير الأحداث، وتأثيث الفضاء الروائي، كل حسب ما اختصّ به، ولعل أهمها: “بقطاش” المناضل اليساريّ الجزائيّ الذي يكره الأديان منذ صغره، مصرحا بذلك أمام أسرته ومجتمعه المحافظ، الشيء الذي جرّ عليه بلايا عديدة؛ أقلها تطليق زوجته منه، وتضييق الخناق على أنشطته، و”نضال” الفلسطينيّ المتعجرف الذي لا يحمل من قضيته غير الاسم، مستترا بسلوكياته المثيرة وراء هويته وشعاراته الشيوعية، و”سناء الفلسطينية” التي تعيش مأساة مُضاعفة: قضية الأرض المغتصبة، والهوية التي على المحكّ، واغترابها النفسي من جهة، واضطهادها الفظيع من قبل أخيها في الانتماء والقضية “نضال” المفروض فيه حمايتها ومساندتها في محنتها، يقول السارد على لسان صلاح مستغربا العلاقة الغامضة التي تربط بين نضال وسناء: “خطرت له مرَّة أخرى العلاقة الغريبة التي تشدُّهما معاً، نضال وسناء، وتناهى إلى باله أنها ليست بين ضحية وجلاد، وإنما بين عاشقَيْن، تشدُّهما أواصر من الصعب أن تتلاشى تحت أيِّ سبب. وبدا له هذا العشق، إذا صحَّ حدسه، غريباً وغامضاً ووحشيَّاً أيضاً، فكيف يأخذ، في إذلالها، ويقسو عليها، بل وأن يطلب من شخص غريب أن يُقبِّل قطعة من جسدها، مثلما حدث تلك الليلة، على مَرأى من الجميع؟”[8].

دون أن ننسى “عباس” المناضل اليساري العراقي الذي بات يستحضر ذكرياته البغدادية ومجده السياسي قبل أن يطوح به مقلاع المضايقات إلى عدن، ليضع تجربته بين يدي رفاقه العدنيين؛ أملا في تحقيق أحلام استعصى عليه، وعلى رفاقه العراقيين في بلدهم، تزامنا مع “انشطار الجماهير، وانطفاء محرّكها الطبقي وأفول وهج الإيديولوجيات الثورية، حيث طفت على السطح؛ أسئلة معرفية- سياسية ملحّة من قبيل: ما علاقات لغات التحليل والمفاهيم السياسية بواقع المجتمعات التي تدّعي الإحاطة بها؟ ما علاقة النظرية بالممارسة السياسية؟ ما هو الأفق السياسي الذي يمكن تخيّله بعد نعي الجماهير (الذات الحاملة للمشروع الثوري)؟ من أي موقعٍ يتكلم المثقفون (اليتامى الجدد) ولمن؟ بعدما فقدوا مهمتهم الطليعية بنقل الوعي إلى الجماهير المتأرجحة بعرفهم، بين غرقها في الغيبيات القروسطية ومهمّتها التاريخية لقيادة الثورة نحو وطن حرّ وشعب سعيد”[9]. ناهيك عن الأجانب: هيرتا، دانيا، بول، سيرجين، وغيرهم… وكلها شخصيات تؤدي دورها الثانوي في إضاءة العالم الروائي، بإبراز البعد الكوسموبوليتي لعدن، وشمولية قضية اليسار في العالم.

باستدعائه هاته الشخصيات المتعددة الهويات والجنسيات لأداء سمفونية سياسية معقدة على حلبة يمنية “عدن” لم يكتب لها أن تستقيم لأسباب متعددة، يكون الروائي قد حقق منظوره الفكري والفني، حيث أضفت هاته الفواعل على العالم الروائي سمة الانفتاح والشمول الضروريين لإرساء صورة قضية سياسية شائكة هي، في الأصل، حركة عالمية انتشرت بوصفها فكرا نظريا قبل أن يتجلى في الممارسة السياسية التي تفاوت نجاحها بين قُطْر وأخر؛ تأثرا بالسياقات المتداخلة.

في جملة واحدة، لقد أعطت كوسموبوليتية “عدن” محكيّ النص القدرة على تدويل القضية، وإعطاء مسألة نكوص اليسار صبغة عالمية، وما عدن إلا ذاك الجزء الدّال على الكل. لقد “كانت الشيوعية إحدى ثلاث أيديولوجيات ساحرة، إلى جانب الإيديولوجيتين القومية والإسلامية، ولكن ما إن انهار المركز الشيوعي العالمي- الاتحاد السوفيتي، حتى راحت الشيوعية تتقهقر في كل أنحاء العالم، وبخاصة في أوروبا الغربية”[10]

  1. السرد والوصف:

اتسم السرد في الرواية عموما، بالبطء الشديد، بحكم أنّ المحكيّ يوقف خطه التّصاعديّ، مستسلما أمام سطوة مقوّم الوصف، انسجاما مع الأطروحة النّصية التي تستهدف تشخيص وضعية النفوس والملامح، وتعميق النظر في المظاهر، والسحنات والتعابير البرانية والجوانية، ودعمها بما يعنّ للرواة من توصيفات للفضاءات والأزمنة ومؤثثات العوالم المحيطة من معمار وديكور، مُعطيا أهمية كبرى للحوارات والمونولوغات القمينة بتعرية المشاعر والأحاسيس الكامنة في عمق الفواعل التي تضمر جروحها الطرية في دواخلها؛ مُطْبقة على الحلقة الأخيرة من الانهيار الكامل، وهي تدرك أنّ ما تبقّى منها مجرد حطام خالٍ من الحياة.

لذلك، إذا ما قارنّا حصة السرد بحصة الوصف والحوار والتأمل المستبطن في الرواية، سننتهي إلى تفوق المكون الثاني على الأول، تناغما مع متطلب الغاية الفكرية والجمالية دون أن يؤثر ذلك، على عناصر التشويق والإثارة والمتعة، لأنّ هندسة العوالم السردية راعت هذه التراتبية، وسعت إلى التغطية على التفاوت الحاصل، باستدراج المتلقي إلى عتمة المركبات السيكولوجية والاجتماعية الكامنة داخل أعماق الرّواة والشّخوص، واضعة إياه في قلب الصراع، ليصير شخصية ضمنية تستشعر ما يجيش في صدور ساكنة “عدن” من الأصليين والطارئين، وبالأخص رموز الحركة الثورية اليسارية التي حُكم عليها بالفشل والتمزق؛ ارتباطا بالأزمة العالمية لليسار المتجسدة في الماركسية اللينينية والصراع الطبقي، وهيمنة الليبرالية الجديدة مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فمنذ فشل التجارب الاشتراكية في أوروبا الشرقية، لم يتبنّ اليسار العربيّ القطيعة مع اقتصاد السوق، وإنما سعى لإصلاح تجاوزاته، وهذا ما أدخل اليسار العربي- حسب عبد الحي مودن- في أزمة هوية[11]

تفسّر هيمنة الوصف وتقلص مساحة السرد بكون المحكيّ يدور حول الحالة لا الواقعة، فبينما تتعدد السمات والهيئات والنعوت وتحولات النفسيات والمشاعر والأحاسيس، تقلّ الحركة، وتتوقّف الأحداث السّردية، ويرتفع صوت الحوار الخارجيّ والداخليّ، وإن كانت الرواية تغطي مساحة عقدين من الزّمن أكثر، إلا أنّ المتتاليات السردية تمشي في خط عمودي، علما أنها تتوقف بين الفينة والأخرى، فاسحة المجال أما الوصف والبوح والتعبير عن الدواخل السّيكولوجية للشّخصيات المهزومة التي خذلها التاريخ، ولم تكن على موعد مع الطموحات المعلقة. يقول جارن ريكاردو يقول إن “الأداتين الرئيسيتين لتقديم النص هما: الوصف والسرد، إذ يختصّ الأول بتقديم الأشياء، بينما يختصّ الثاني بتقديم الأحداث”[12].

إذا كانت الرواية ترثي مرحلة بكل ما يعتمل في الذات من أسى، وما تستضمره النفوس من خيبات، فإنها في الوقت ذاته، تعمل على تشريح العمل السياسي، وتفضح ألاعيب الممارسة السياسية العربية التي بقدر ما يحفظ سجل تاريخها مسارات شريفة نقية للبعض، فإنها تعري سلوكيات الخزي والخداع والمؤامرة والانتهازية التي تقتل الأحلام، وتمزق الصف، وتضع الحد أمام التحديات المتواصلة للعوائق والعراقيل، وتتمثل الأطروحة المركزية هنا، في كون المدخل الحقيقي لفشل الثورة، كما هو الشأن في كل المشاريع المجتمعية، غياب اليقظة، والإفراط في حسن النية، وهذا ما حصل مع تجربة اليسار: الثقة العمياء في القادة، والتعويل المبالغ فيه على الضبط الداخلي للتنظيم، واعتبار التحصينات الخارجية أولوية على التحصينات الداخلية… كما يمكن اعتبار الرواية، فضلا عن ذلك، نوعا من مراجعة التجربة عن بعد، ربما للاستفادة منها في المستقبل، خاصة بعد تجربة الربيع العربي المؤلمة التي تزامنت مع الفراغ السياسي المهول، وغياب الأطر الكفيلة بخلق البديل السياسي القادر على التحكم في المكتسبات، والإبحار بالمجتمعات نحو برّ الأمان؛ بعد مرحلة انتقالية مروعة، على اعتبار أنّ “كفاحات البشر اليوم لا تأتي ثمارها بالاستناد إلى يوتوبيا تطرح البديل المستحيل، بل بالاستناد إلى الممكنات التي يختزنها العالم الواقعي. وبالمناسبة، فإنّ جدل الممكن والواقع هو جوهر ديالكتيك ماركس[13]، المرجع الأصلي للفكر اليساريّ.

………………………….

[1] – أحمد زين: فاكهة للغربان، منشورات المتوسط، روما، إيطاليا، الطبعة الأولى، 2019م، ص. 159.

[2] – عائشة نبيل: الغرق في الذكريات.. لماذا يأسرنا الماضي وعوالمه؟، موقع الجزيرة نت، صفحة ميدان، مقال متاح التصفح، منذ تاريخ 18/ 08/ 2018م على الرابط: https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology

[3] – فاكهة للغربان، ص. 186- 187.

[4] – فاكهة للغربان، ص. 237.

[5] –  رولان بارت وآخرون، طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، المغرب، 1992، ص. 76.

[6] – فاكهة للغربان، ص. 144.

[7] – فاكهة للغربان، ص. 44.

[8] – فاكهة للغربان، ص. 198.

[9] – فادي بروديل: سيرة تشظٍّ: اليسار من نظرية التحرّر الكليّ إلى لغة سلطة، صحيفة الجمهورية، مقال متاح التصفح؛ منذ: 3 حزيران 2016م على الرابط الإلكتروني: https://www.aljumhuriya.net/ar/35101

[10] – أحمد برقاوي: الشيوعي المكسور، صحيفة حفريات الإلكترونية، مقال متاح النشر منذ: 01/10/2018 على الرابط: https://hafryat.com/ar/blog

[11] – عبد الحيّ مودن، عبد الرحمان العمراني: اليسار المغربي: الفكرة والممارسة، الدفاتر الزرقاء، مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، الرباط، المغرب، السنة: 2009م، ص. 4.

[12] – جان ريكاردو: قضايا الرواية الحديثة، ترجمة صالح الجهيم، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، سوريا، 1977، ص. 166

[13] – أحمد برقاوي: مرجع سابق الذكر.

مقالات من نفس القسم