بنات أحلامي .. العلاقة الجدلية بين الواقع وعالم الأحلام

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طلعت رضوان            

في المجموعة القصصية "بنات أحلامي" للأديبة عزة رشاد الصادرة عن مؤسسة الأخبار "كتاب اليوم _  أكتوبر 2013" تسيطر الأحلام "أحلام اليقظة والأحلام أثناء النوم" على أغلب شخصيات المجموعة، ولعلها من المرات القليلة "وأهمها أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ" التي يتم فيها التعبير عن عالم الأحلام في الأدب، ذلك العالم الذي وقف علماء الطب النفسي أمامه في حالة عجز عن تفسيره نظرًا لما يحويه من كل ما هو غرائبي، رغم المحاولات الجادة التي قام بها "سيجموند فرويد" ومدرسته من بعده لدرجة أن فرويد كان يتولى تحليل أحلامه الشخصية كما كتب في كتابه الشهير "تفسير الأحلام" ففي تفسيره لحلم أحد المرضى عن السقوط من على السرير والشعور بالماء حوله كتب أنه في حالة انزلاق الغطاء أثناء النوم "قد نرى أننا نتجول عرايا أو نقع في الماء، وإن نمنا على السرير بعرضه وتجاوزت قدمانا حده حلمنا بالوقوف على شفا جرفٍ مروع أو بالسقوط من مرتفع شديد الانحدار" وفي حلم لمريض آخر قال أنه "رأى "مجموعة من الرجال هجموا عليه وطرحوه أرضًا ثم دقوا وتدًا في الأرض بين إصبع قدمه الكبير والذي يليه وعندما استيقظ رأى قشة التصقت بين إصبعيه هذين" كما أن عالم الأحلام غير عالم الواقع من حيث القدرات الإنسانية ففي الحلم يرى الإنسان أنه يطير بأجنحة مثل العصافير أو يقود طائرة وهو لم يتعلم لا قيادة الطائرات ولا حتى قيادة السيارات.. إلخ.

 

فإذا كانت الأحلام مفعمة بكل ما هو غرائبي، فإن عزة رشاد وظّفت هذا العالم ومزجته مع الواقع الحقيقي لأبطال قصصها وجدلت العالمين بضفيرة واحدة.

وكما في معظم مجموعاتها السابقة، فإنها تحرص على ربط البداية بالنهاية بمعنى أن تكون النهاية كاشفة لما سبق من غموض، كما أنها وضعت مفاتيح فك شفرات ذلك الغموض، ومن هنا تأتي متعة القراءة لأنه غموض فني متفتح مثل الوردة التي لا تقول شيئًا بعينه ولكن لها لون محدد ورائحة مميزة، وليس من نوع الغموض المغلق الذي يقتل القصة لأنه لا يقول شيئًا ويلجأ إليه البعض.

في قصة “لو أنكِ وردة” حلمت الفتاة وردة أنها سرقت خزينة أبيها، وتبدو دهشتها عندما تبوح لنفسها بأن والدها وفّر لها عيشة أقرب إلى الجنة، فلماذا تسرقه في الحلم؟ وهو الذي اختار اسمها ويظل يقول لها “إنتي وردتي”، في هذا الصباح قالت وردة لنفسها: أنا لست وردة. ربما أنتمي لورد النيل. هو يطفو فوق سطح المياه وأنا أطفو فوق سطح الحياة وأسرق أبي في الحلم. وهنا تكون بداية علاقة الجدل بين الواقع وعالم الأحلام وبداية الغموض الفني، ولكن هذا الغموض يبدأ في الوضوح بلغة فنية بليغة إذ أن الأب يحذر ابنته من الشاب الذي تحبه ويتهمه بأنه يطمع في أمواله، بينما وردة لا ترى ذلك، ثم يأتي المفتاح في حل الشفرات، إذ تتذكر وردة أن أمها كانت ترغب في الانفصال عن أبيها وذلك قبيل موتها، فلماذا؟ عرفت من الدادة أنها كانت تخاف منه فمرضت الأم “اليائسة إلى حد الاستسلام لمرض يتغذى على التعاسة” وانتهى أمرها “بدفن حزنها بين طبقات غبار غرفتها الموصدة” ثم يأتي المفتاح الثالث في فك شفرات الغموض: وائل صديق وردة تعترضه سيارة في محاولة لقتله، وعندما يصف لون وماركة السيارة لوردة تتذكر “بعد عدة صفحات” أنها نفس السيارة التي يقودها مدير أعمال والدها. وضعت الكاتبة مفتاحًا آخر عندما جعلتْ وردة تسمع رسالة مسجلة على تليفون أبيها من مدير مكتبه يطمئنه بنجاح العملية “دون الإشارة إلى التفاصيل”، ثم يأتي المفتاح الرابع الذي ربط بين الحلم والواقع عندما تذكّرت وردة أن الحقيبة التي رأتها في الحلم هي ذات الحقيبة التي رأتها في طفولتها مع اختلاف وحيد هو لون لون الحقيبة، وتكون المفاجأة الخامسة عندما تحفر عند شجرة فتجد تلك الحقيبة وتتذكر أنها حقيبة أمها وتجد بداخلها بعض المال، عندئٍذ يخرق صوت الأب أذن وردة “كأنه آتٍ من حلم بعيد” وتتساءل: هل ينوي سحقها كما سحق أمها؟ ولأن المبدعة مع تعدد الرؤى فإن وردة ترى والدها هكذا “ألمح وراء غضبه حبًا وضعفًا”.

في قصة “ديوان المظالم” يختلط الواقع بالحلم بشكل فانتازي، ويكون المدخل للقصة حالة الظلام الحالك بعد انقطاع التيار الكهربائي، فتبدأ رحلة التخيل فترى البطلة جدتها وجدها يقتربان من صخرة، الصخرة تنفلق نصفين فيعبران من بينهما ثم يختفيان. ويبدو أن الفتاة متأثرة ب: “ألف ليلة وليلة” إذ تخيلت أن الجد عندما اقترب من الصخرة صاح: إفتح يا سمسم. بعدها ترى امرأة عجوز تطلب الطعام وتحاول أن تتذكر أين رأت هذا الوجه، ثم يظهر رجل ضخم معه بعض الأطعمة، تسـتأذنه بأن تأخذ رغيفًا للمرأة فإذا به يصدر جئيرًا مخيفًا ويكشر عن أنيابه. ثم تدخل مستشفى فتقابل فتاة تقول لها: أريد دوائي. لا تتركيني أموت. وباقي المرضى يكررون نفس الرجاء، وعندما تتوسل للممرضة إذا بها تهددها بإبرة طويلة وتضحك بهستيريا، ثم ترى رجلًا ملثمًا يحاول ذبح ناقة جدها فتضربه فيهددها بسيفه، فتودّع الناقة بنظرة أخيرة وتهرب منه ولكنه يجري وراءها، ثم ترى شابًا سجينًا يطلب مساعدتها، فتخطف المفتاح من السجّان وتعطيه للشاب فيخرج من السجن. وفي إشارة دالة عن العلاقة بين الواقع والحلم يقول الشاب أنهم سجنوه “لأنهم يكرهون من يحبون الحياة”، وفي إشارة دالة “ثانية” تعتقد الراوية أن هذا الشاب ربما كان زميل دراسة “وربما أحببته في حياتي الأولى أو في أحد أحلامي” فحكت له عن الناقة التي قتلها الرجل الملثم وعن العجوز الجائعة والفتاة المريضة. استمع الشاب لها بكل انتباه وتجاوب معها، فتبين لها أنها تحبه منذ فترة تعجز عن تحديدها، فتشعر أن الوجود كله في راحة يدها. ثم يظهر السجّان ويضربها هي والشاب. تتشابه ملامح السجان مع ملامح قاتل الناقة. تصرخ الراوية: لاتقتل حبيبي. لا تخرجه من حلمي. هذه الرحلة الفانتازية كانت حلمًا طويلًا رأته الراوية وهي في حالة غيبوبة ولمّا عادت لوعيها سمعت أمها تقول لها: “حمدلله على السلامة”. وعندما نظرت إلى الحائط رأت لوحة “لوجوه يانعة يتوسطها وجه الشاب ذي العينين اللامعتين وتحتها كلمات: الورد اللي فتّح في جناين مصر”. وبهذا تكتمل الدائرة بين الواقع وعالم الأحلام.

وفي قصة “قطوف نائية” فإن الراوية ترى الكثير من الورد، والنهر تراه من العسل فتتساءل: هل أنا في الجنة؟ فيأتيها الرد: “أنتِ في مستشفى المجانين”، لكنها تستنكر فيأتيها صوت مختلف: “بل أنتِ ميتة في قبرك. ولم يبق منك شيء حي سوى هذه المخيلة العصية على الموت. وبسببها سيحكم عليكِ ملكا الموت بالعذاب الأبدي. هيا اقتلي هذه المخيلة قبل أن يصلا”. في هذه القصة ذروة العلاقة بين الواقع وعالم الأحلام، فالبطلة ترى أن الأنسان لا يمكن أن يعيش بدون ملكة الخيال، لذلك تقول: إذا كانت مخيلتها “هي الشيء الوحيد الحي فلن أقتلها. حتى لو قادتني إلى الجحيم” ثم يحدث الجدل بين الواقع وعالم الأحلام عندما تسمع من يقول لها: “أنتِ لستِ ميتة. بل أنتِ في غيبوبة. وسيطلب أولادك من الطبيب رفع جهاز التنفس الصناعي عنكِ” لماذا قال الصوت الثالث أن أولادها سيقتلونها ليرثوها؟ هذا السؤال لم تكتبه المبدعة وإنما هو استنتاج حتمي فرضته الكتابة الواعية بمفردات الأدب، ثم يأتي التوتر الدرامي عندما تُكذّب الراوية الصوت وتقول: “ليس لديّ أولاد ولم أتزوج وليس لدي ثروة”، ولكن الصوت يضعها في توتر عقلي جديد عندما يضيف: “أنتِ في غيبوبة ولا تتذكرين شيئًأ”. ثم ينقذها صوت رابع: “أنتِ لستِ في غيبوبة. بل أنتِ مخدرة. وبينما تحلمين بأنهار العسل ومرافئ الجنة سيُجرون لكِ جراحة دقيقة”. الراوية تعتقد أن مرضها ليس خطيرًا فتكون المفاجأة عندما يقول لها الصوت أنهم سينزعون فصًا صغيرًا من دماغها. ثم تتداخل الأصوات فتسمع الصوت السابق _ الذي أمرها بقتل “المخيلة” وحذرها من ملكيّ الموت ومن مصيرها في الجحيم لو احتفظت بالمخيلة _ يتداخل بصوت يحدثها عن طبيبين سيستأصلان “مخيلتها” بمشرط جراحي. عند هذه الذروة من القصة يلتحم الواقعي بالفانتازي، فبعد أن كان الصوت “الواقعي” يتحدث عن أن الأمر “لا يعدو أكثر من انتزاع فص صغير من دماغها” لأسباب عضوية بحتة، إذا بنفس الصوت يتراجع عن كلامه ويذكر استئصال المخيلة، أي أنه تضامن مع الصوت السابق الذي استخدم نفس الكلمات.

في هذه القصة رسالة بليغة “بلغة الفن” مضمونها أن أعداء الحياة يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن أخطر عدو لهم هو “الخيال” الذي يمتلكه الإنسان، لأن الإنسان هو الوحيد في مملكة الثدييات الذي تغلب على قوانين الطبيعة عندما جعل الحديد يطير في السماء مثله مثل الطيور. وبفضل الخيال صار البشر يتواصلون في لحظات رغم القارات التي تفصلهم عن بعضهم البعض، وبالخيال وحده يتألم إنسان ما من أجل إنسان غيره لا يعرفه ولا تربطه به أية صلة. لذلك لم يكن جيمس فريزر مؤلف موسوعة “الغصن الذهبي” مبالغًا عندما كتب: “بدون لمسات الخيال المشاعري يصعب علينا أن نتعمق مشاعر الناس”. وإذا كانت عزة رشاد في هذه المجموعة البديعة استطاعت أن تجعل عالم الواقع بخشونته وقسوته وبما فيه من ظلم اجتماعي، يتحاور مع عالم الأحلام، الذي يطير بأجنحة الخيال، نحو فضاءات وطموحات يتمناها الإنسان ويعجز عن تحقيقها، لذا كان العالِم “إيريك فروم” على حق عندما كتب أنه خلال النوم “تتراجع الضرورات لتخلي مكانها لملكوت الحرية”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طلعت رضوان .. ناقد مصري  

نُشر في مجلة “المجلة”

مقالات من نفس القسم