في وداع النفس

زغرودة تليق بجنازة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

تظل القصة القصيرة هي النوع الأدبي الأكثر إلغازاً من الأنواع الأدبية المتعارف عليها ضمنا في سياق الإبداع، والقصة القصيرة أو الأقصوصة في كثير من الكتابات ما هي إلا ذكر الفعل ورد الفعل في حفنة كلمات تترك الحيرة للمتلقي أكثر من تحقيق متعة القراءة وربما يكون هذا سر جمالها أو بالمعنى المباشر “صعوبتها في سهولتها”، من ذلك مجموعة “زغرودة تليق بجنازة” للكاتب أحمد الشريف الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أكثر من مائة أقصوصة تضمها المجموعة، مساحة كتابة كل منها لا يزيد عن صفحة ضم فيها الكاتب جميع الحالات النفسية التي تعانيها البشر، استخدم فيها أيضاً صنوف الراوي المختلفة تنويعا وتعبيرا يليق بكل قصة. سيجد المتلقي نفسه أمام الراوي المتوجس في قصة ” فضيحة” الذي تراكمت عليه الوقائع حتى فاضت به إلى قرار أن يعكر صفو وحياة الجميع ذلك الراوي الذاتي الذى يبسط معلومة مفادها أنه يختلف عن العمة التي كانت تهوى التجريس أو عن أبيه الذى ظل مكبوتا حتى آثر الانتحار على البوح بعد أن فاض عليه وأزّمه الكتمان، وهنا يظهر الإسقاط Projection حيث الحيلة الدفاعية التي يستخدمها الفرد للدفاع عن نفسه والإحساس بالأمان.

وفى قصة الزيارة يظهر تأثر الكاتب بتكنيك الصورة مستخدما الراوي العليم لوصف مشهدٍ للأم الكليلة التي تستحضر صورة ابنها الشهيد: “غادرت المصطبة وكان صندوقها الطيني نائما أمامها لم يستفق بعد، محتفظا داخله ببعض النقود القليلة وصورة لشاب في ملابس عسكرية وفي يده بندقية تُشعره بالثقة في نفسه بينما شاربه الكث لم يمنع ابتسامته.  

ويتجلى الإلهام Inspiration في قصة “الحب جميل” مع ما يظهر في العنوان من تعريف كلمة الحب وتنكير كلمة جميل وهي بلاغة العنوان، حيث يصف الراوي الذاتي تلقي خطيبته لخبر إصابته بمرض السرطان ومن ثم إفلات يديها عند السلام عليه فيظهر الراوي مؤكدا لها أنه مرض غير مُعدٍ: “رجفتها بدأت من شفتيها وانتقلت إلى عنقها، وواصلت الزحف تجاه بقية الجسد وأظافرها تنقر المائدة وحذاؤها يدق الأرض بشكلٍ مزعج”… “عندما رن تليفونها بنغمة “الحب جميل لليلى مراد” كتمت الصوت. فالإلهام هنا هو الخاطر الذي أتي للخطيبة من اللاشعور بمعنى الرفض للاستمرار مع ذلك المريض بمرض عُضال وأفكار الإلهام السلبي تورد على الشخصية دون تفكير مُسبق، فبمجرد أن علمت بمرض خطيبها اتخذت في اللاوعي قرار تركه دون تفكير مُسبق.

ولأن الكاتب أحمد الشريف أبى إلا أن تكون معظم قصص مجموعة “زغرودة تليق بجنازة” متضمنة للاتجاه النفسي في الكتابة سواء أكان الراوي عليماً يحكي من خارج الحدث أو ذاتياً يحكى نفسه وما فيها ومن حولها بشكل علائقي مبهم في كثير من القصص فإن اضطرابات الفردية Personality disorders هو المصطلح الأقرب لكتابة  معظم القصص، يظهر ذلك في قصة “أمومة” حيث الراوي الشاهد الذي يصف جدته الأم الصلبة التي تلقن ولدها المريض الشهادتين قبل رحيله: “كانت جدتي العجوز تضم أبي الشاب الذي مرت تسعة أشهر على مرضه – أنين وجعه يعلو كل صوت، وجسده تحوّل إلى شبح ناتئ العظام. هي تلقنه الشهادة وهو يردد خلفها بصوته الواهن، وعيناه الزائغتان ويداه الضعيفتان تحاولان أن تحيطا كتفيها المهتزتين من البكاء” وبرغم قتامة الصورة وتجسدها حيّة؛ إلا أن جماليات لغة الوصف طغت على تلك القتامة.

ومن صور الاضطرابات الفردية في قصة “حلم” يقول الراوي الذاتي: “كنت عاريا ومع ذلك لم اشعر بالخجل، وقد تلفت حولي بحثا عن آخرين فلم أجد البيوت مهجورة والأبواب والشبابيك تصفعها الرياح.. شعرت بالملل فدرت حول الصخرة، وبالبرد فمارست بعض التمارين وبالوحدة فرسمت قطة على الأرض وبرغبتي في المغادرة فأعطيت ظهري للصخرة الصغيرة وعدت في الشارع الطويل غير الممهد والريح لا تزال تصفع كل شيء”.

يظهر وضوح الصورة في حقيقتها فالراوي الذاتي يسرد حالة ضمن إلغاز التساؤل هل بالفعل ذلك حلم أم حقيقة، فالقصة تبدو حلماً لكن بلاغة وصف الصورة كأن الراوي الذاتي انطلق عاريا في الفيافي ربما هرباً من شيء أو معاناته من خلل نفسي ما، تظهر أيضا ضمن سياق القصص متناهية الصغير ما يُعرف بالفردية الوسواسية   Obsessive.P حيث الراوي الذاتي الذى لا يدرك وجود هاجس ما يتنامي بداخله وهو ما يظهر جليا في قصة “عفريت” حيث يقول: “انتصب شعر رأسي عندما مررت بجوار النخلتين المتشابكتين فعرفت أن عفريت سلاموني لا يزال مستيقظاً وأنه لن يجعلني أمر بسلام وكنت أمام خيارين لا ثالث لهما؛ أن أقرأ سورة الإخلاص فأحراقه أو أن أعيّره بأن يذهب لينتقم ممن قتله.. تمنيت أن يظهر بصورته الحقيقية فقلت بصوت متردد دون أن أدير وجهي ناحيته “أرني نفسك”. ويظهر إخفاق الراوي ووسواسه الذي يفضى به إلى العدم؛ حيث الظلام وصراع القط القميء مقطوع الذيل الذي يحاول الهرب بعيداً وتتبعه ثلاث قطط صغيرة شعرها منتصب من الخوف ليترك الكاتب للمتلقي حيرة السؤال، هل بالفعل هناك شبح يخيف الإنسان والحيوان أم أن أثر السكون والظلام هما من أوجسا تلك الكائنات خِيفَة.

حالات إنسانية كثيرة تربو عن مائة أقصوصة ماتعة ضمتها دفتي مجموعة “زغرودة تليق بجنازة” اجتهد المبدع أحمد ابراهيم الشريف في أن تفوق كل قصة أختها إبداعاً وإلغازاً سيجد القارئ نفسه أمام منظومة كتابة نفسية جامعة للريف والحَضر، للتقنيات السردية المتباينة في استخدام الراوي لتقنية القص الملائم للكتابة فيها، سيجد القارئ أيضا -حسب معظم كتابات القصة القصيرة – أن المكان مفقود في النصوص فمن الصعب تحديد المكان في كل قصة وكذلك تزمين تلك النصوص على أنها سالفة أم آنية وهو ما يزيد من جماليات الإلغاز فيها منذ التورية والتضاد القارين في عنوان المجموعة نفسها؛ حيث الفرح في الزغرودة يتنافى مع حُرمة الجنازة؛ لكن يبدو أنه في أزمان التهويم التى نعيشها جميعا بات كل شيء عادي في سلوك فردي مضاد للمجتمع البائس المخفق في بناء علاقات حميمة بين افراده حيث لا يخلو أحد فيه من هاجس ما.

 

مقالات من نفس القسم