بروج مشيدة
أحمد عبد العاطي
بكل شحذهم لحواسهم، حاولوا استيعاب أن تكون هناك جثة موضوعة في قلب السرادق، مغطاة بكفنها، وبُقعٌ حمراء داكنة تتناثر على بياضه. إنها أنفاس الحيرة تسري في الجلوس، وصوت كبير العائلة يشق السكون، يتوعد بالانتقام، إنه الدم، إنه الدم. والأب صامت.
في المساء السابق كان العشاء أيضًا، نكاتٌ تترَى وأغان وأحاديث تُلقى. واليوم...
عجبًا لليوم!
قطعًا سيتغامق الظلام بعد العشاء، والجميع في انتظار المقرئ، وأجواء العزاء تتنزل على قلوبهم بالسكينة و تبنئ –كما تفعل دائمًا- بقِصَر الدهر وانفلات العُمر. إضاءة ساطعة، ووجوه منكمشة نحو الأسفل تسترجع سيرة المقتول شابًا، وحده لاقى ما لاقى في ظلام قريب، والقاتل ينعم بحرية لا مثيل لها؛ هي ضعفين مما ينعم به بقية الناس.
لمعت عينا الأب، يحدق في ذهول بجسد ثمرته المسجّى لا حول له ولا قوة. لا يفت في عضدهم جميعًا غير أن القاتل معروف، تتصاعد أنفاسه وتهبط مستمتعًا بالحياة. والصمت لا يبدد حرقة الرغبة في الانتقام. والزناد لا يجسر على إعمال مفعوله الآن بسبب الشُرطة.
يقولون أنه تسلل –قبيل الغروب- عبر الكَرْم، ومن هناك سمعوا طلقات تسبق صراخًا ينتزع الرعب من نفوسهم، ولما ذهبوا لم يعرفوا، أهذه حُمرة الكروم أم لون شبابه؟
في مدخل حارتهم لمحوا المقرئ، يتهادى في الظلام، ولما رأوه في الضوء يتسربل بجبته الكاكي ومعممًا، لم يتركوا للتوقع فرصته؛ فقد عرفوا أن الليلة هي ليلة الجنون أو الحظ. تاركين الأمر ينحسر في نهاية مأساوية. واندهش الجمع.
القاتل يقف الآن أمامهم بشحمه ولحمه وجبته وعمامته. وتحت وقع الرذاذ الخفيف الذي بدأ يتقاطر منذرًا بخيوط مطر ثقيلة، تساقطت العيون من محاجرها سقوطًا مدويًا، دويّ كل تلك الصدور التي شهقت ولهثت وطوحتها الحيرة.
وهكذا بمنتهى الجرأة والبساطة رمى بنفسه في وسطهم، شامخًا، يختال بغطرسته، يعرف أن الصدمة تكبل تهافت البنادق وجموح الأيدي. والكبير والأب يمنيان نفسيهما بالاستيقاظ من ذلك الكابوس؛ من أين له بهذا الاطمئنان؟ وكيف هو ما هو؟
والحال الفَزِع، بالرغم من ذلك، تراجع داخل الأفئدة، ثم قامت البنادق مستقيمة، تُصوَّب نحو منصة المقرئ، أياديهم تستحرم الضغط على الزناد.. وتؤجل، واللحية التي هُذبت بعناية لم تكن لتتزحزح عن مكانها شبرًا واحدًا؛ تملأه تباشير الاطمئنان. ومع أول اعتلاء متعجل للكرسي، أخذ يقرأ ويرتل ويجوّد في مكبر الصوت بلا توقف. وهبطت الأسلحة –من لحظتها- داخل الآباط، ثم تهامس الناس بمجرد القراءة تعجبًا، وازدردوا صمت الجلال، يلوكون آيات الله خاشعين، في جلوسهم ضراعة حامل الطير، وبدا أن مفعولًا سحريًا يسيطر فتعمي الأنظار وتسمع القلوب وحدها. والقلب –أحيانًا- يتلفه الاطمئنان، ونشجوا. قطعًا هو ليس بمختل، وإلا فكيف يُطَوَّع ذلك الصوت الملائكي لمختل؟ أم أن عطب العقول لا علاقة له بالحناجر وبشاشة الوجه؟
الصوت يجلجل ويعذُب، فيه حلاوة الشهد كأول عهد بتذوقه، جنان تفتحت، ووجوه تنعمت باسترسال ذلك الشدو. والشيخ الذي واصل سحره، يقرأ في العيون ألف احتمال واحتمال.
أقلية هي التي بدأت تستنيم الوضع وتخضع للنبرة الأخاذة في رست المقرئ ونهاونده، وكثرة هيئتهم مربدة، تشطر الحيرة ليلهم والسكون المغلوب على أمره.
مضى الرُبع الأول، وكوب الماء يفرغه في الحلق مستكينًا، والبنادق ترتفع مرة أخرى، تصوَّب نحو العمامة مباشرة، أما القلة الذين أنشأوا يتبعونه بلا ريب، القلة التي اعتملت بها وشائج الخضوع للذات الإلهية، قاموا وأحاطوا منصة المقرئ مدافعين، فمنهم من أمسك بنبوته، ومنهم من تراءى له أن يرفع سلاحه في الجهة المضادة، جهة الأب والكبير الذين يحثون الخَلق والأغلبية الغالبة على الأخذ بالثأر. تحلّق المتبتلون حول المقرئ كهلال متشظي، يفتدون جبته بأعناقهم. وعمامته برءوسهم، ونهاره بليلهم.
كالملسوعين من سيخ الحديد المشتعل، تراجع ذوو الشأن والحق، وتقهقرت العقول؛ هناك ما هو أهم، القوت والأولاد، ورضا الله... قطعًا الله غالب، وفوق كل شيء، ولكن المقرئ قد يكون على حق، ما أدراهم؟
وفي وسط نظرات التعجب والاستهجان، تحرك المعمم تجاه الجثة، محاطًا بسدنته، تجاذبته الأعين بانشداه، وعصفت ريح التوجس عاتية، ما الذي جعله يقلّب الميت بين كفيه؟ ثم أي رقة واتته لخلع عباءته عليه ولفّه بها؟
وتحدرت الدموع الشفافة، كبقية البشر، تتساقط من أعلى، على وجه الراحل الشاهق الشحوب. قطعًا دموع المقرئ شفافة أيضًا. ودموع كل المخلوقات.
قابلين على مضض، ارتفع الشيخ مرة أخرى فوق منصته، يلفه هذه المرة جدار –ولو هش- من التأييد، لم يكن يحلم في أشد حالات تفاؤله به، وبقفزة واحدة كقفزة طفل، انتصب الرجل فوق الأكتاف، يقرأ من المصحف بخفوت، ومرة أخرى يرتل، ويستفزهم للترديد وراءه، ولكز الكتلة الحاملة كي يدوروا وسط المُعَزين، وفعلًا داروا كما يحدث في الموالد وطهور الأحداث، والصوت يحرك المطر، والمطر يتهيأ لليلة طويلة ومهمة ثقيلة على وشك الوقوع، والدنيا لم تعد مظلمة كما كانت، بل هناك شيء يتبدل وأحوال تتغير، ودموع تقفز من مكامنها، وتقريبًا على نفس الوضع، بدأ الصوان يرتعش نحيبًا، وفقط كانت تلك نقطة الانطلاق.
وهكذا ترك الرجل نفسه لعنان الآذان المنغمسة في سحره، يتقرب بها إلى الله زلفى وحسن مئاب وهروب. وبسلاح العادة، أصاخت الأفئدة، وبدأت تفتر الهمم عن الحق.. الحق الذي رأوه الآن أقل حتى من المطالبة به، وجثث الموتى لا تشعر بما يُطلق عليها حتى ولو من أعتى الأسلحة، فقط تتراقص القلوب شجنًا وطربًا وولعًا بكلمات الله.
وبدا الأمر، مع قذائف المطر الثقيلة، كقصة يدور فيها الشيخ بأحلام النائمين مبشرًا إياهم بالجنة، وبالصوت العذب تم له ما تم، وسُحِق المنطق، فقط بصوت.
الكبير الذي توعد بالانتقام، يصرخ الآن منتحبًا، غفرانك يا رب، سبحانك يا رب. وسقط عند يدي المقرئ يقبلهما، والأفق الذي كان مشحونًا بدفقة العصبية والثأر، تحين منه الآن الأحزان والروحانية مع بزوغ الفجر، يستبطئ القمر إمساك المطر. واستغاث الكبير بجميع الأولياء ليلتها، ثم دفع الأب كي يفعل مثله، فالله غالب قادر على العذاب أيضًا، كمقدرته على الرحمة.
وتذكر الناس مع ختام القراءة، ومع آية مخصصة لتلك المواقف، تذكروا ما هم فيه من بروج مشيدة، وكيف أن الموت قادر على التحليق إلى الحد الذي يخطف فيه ولو كنت بجانب العرش، كل ذلك بفضل المقرئ، وبفضل ما ذكرهم به إلى مطلع الصباح، والجثة ما زالت هامدة وإن كانت عباءة نظيفة تلفها، تنتظر الدفن، وسيكون الدفن بموجب مرسوم يوّرث.
ما جعل المشهد أسطوريًا هو خروج القاتل من العزاء، تتلهف ثغور الجميع على تقبيل يديه وتتمسح، وحينما عرضوا عليه المال نظير إحياء الليلة، نظر لهم جميعًا، وقال يودعهم:
- والله ما من أجل المال أتيت.
ورحل يبكي بحرقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري،
والقصة من مجموعة "انشطار الطير" الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة أخبار الأدب 2016