سيرة العزلة.. الكتابة بوصفها سيرة للتحرر

ميرال الطحاوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ميرال الطحاوي

النجومُ التي رسمتْ طرقَ الأسفار ومواقع السَّير والتوقُّف في مسيرة القبائل، لم تخبرني قط ما معنى تلك العِبارة المُقتضبة: “بنت عرب”، تقولُها جدَّتي على سبيل الفخر وعُلو المقام، ويردِّدها الفلاحون حول إقطاعاتنا الرمليَّة بحذرٍ، وربَّما بكراهيةٍ وحقد، وأتعاملُ معها بارتباكٍ.

 أسيرُ إلى مدرستي بين تلك الطرق المتعرِّجة من بيت أبي إلى منازل الأعمام، مرُورًا بأشجار التُّوت وقنوات الماء، والأرض الصَّفراء الرملية، وطين المصارف المُعشَوشبة، أسيرُ ولا أكفُّ عن إلقاء الحصَى في النهر الذي يخترقُ طريقه بين الرمال؛ فتتسعُ دوائر الحيْرة، ليس بيني وبين الفصُول المدرسية سوى ذلك الفضاء من الأراضي الطينية التي ورثها أجدادي بين فضاءاتِ الرَّمل، وليس هناك سوى الطرق المُحدَّدة للعبُور من نجع القبيلة سوى هذا الإقطاع الواسع.

في قافلةٍ قديمةٍ هبطت إحدى الجدَّات منذ زمنٍ، وامتلأ بطنها مرَّةً بعد مرَّةٍ، توزَّعت الإقطاعاتُ الرمليةُ على بطُون القبيلة من العُربان الذين استوطنوا تلك الإقطاعات، لكنَّهُم لم ينسوْا تاريخَ قبائلهم، التي شرَّقت وغرَّبت، ثم سكنتْ تلك الأرض مُكْرَهة أو مُختارة، ولم يعُد لهم من ترحالهم الطَّويل في البلاد سوى ذلك الغُبار الذي يعلُو الملامح المسنَّة، طبقات من محطاتٍ تاريخيةٍ، وأمجاد قبلية ولَّتْ، وتركت شجرة الأنساب كخريطةٍ أبديةٍ لتغريبة البدو على ضفتيْ النهر، بيوتُ العرب في أرض مصر، لم تكُن خيامًا مُتناثرةً، بل كانت مُدنًا صحراويةً مثل التخوم مُسيَّجة بالأسوار التي تشبه القلاع الحصينة، التي تفصلُهم عن الحاضرة في إقطاعٍ صحراويٍّ تسكنه جيوبُ القبيلة على هامش المدن.

أخرجُ من بيت أبي الذي يجاورُ بيوتَ الأعمام والأخوال وأسيرُ على حافَّة القنوات الممتدة بين الأرض المزرُوعة، البيوت حولي أسوارٌ من العيون المترقِّبة، أولاد العم الذين أعرفُهم من جلابيبهم البيضاء وبعض الغُتر، يفترشون باحات الأرض الرملية، ويجلسُون بين مداخل البيوت المُتناثرة والأسوار الطينية المُهدَّمة والأبواب المغلقة، أعبرُ النجع باتجاه التلال، حيث ارتفعت لافتةٌ كبيرةٌ لمركز المدينة الذي تقعُ فيه مدرستي، أحتضنُ خوفي، وأضمُّ حافظة كُتبي المدرسية، وأركِّز النظرَ في حذائي، أسيرُ على وقع الخطوات التي لابد أن تكونَ متزنة، ومحسُوبة تليقُ بهذا اللقب “بنت عرب”، أحاول فهم هذه الجُملة التي تُلقَى في وجهي على سبيل التخويف، وأمتثلُ لتلك الصورة التي تعلمتُ أن أخلصَ لها، ” بنت عرب ” مهذَّبة، نالت حظوة لم تنلها أمها ولا جدَّتها، تفتحُ باب البيت في الصباح الباكر، وتحتضنُ أوراقها، وتركضُ في الغُبار، والضباب، وقنوات السَّقي، ورمال إقطاع البدوان، تسيرُ دائمًا مترقِّبةً أشباحَ ذكُور القبيلة، الذين يراقبونها، ويطوقون خطواتها بلجامٍ حازمٍ خانقٍ، يحيطُ برقبتها التي تشبه رقبة الجازية الشريفة، تطاردها أهازيج جدَّتها، التي تهدِّدها بما يزيدُ حيرتها، بنت عرب، مهذَّبة وخجُول، لا ترفع عينيها في عين مُحدِّثها لأنه عيبٌ ولا يليقُ، وتحني ظهرها كثيرًا لأنَّ ذلك واجب، تقوَّس ظهرُها من الانحناء للتقاليد، حتى أصبحت مثل ناقةٍ تخوضُ بين الهضاب.

***

يقولون بنت العرب مثل الناقة الطوع ( الطائعة) تنقادُ للجامك، تصبرُ على قسوتك، و تحتملُ وتحمل العابرين فوق ظهرها؛ لأنها حمُولٌ، ولا تطلب متاعًا ولا كلأ ولا، تصبرُ على نزُوحك من تلَّةٍ إلى أخرى، ومن ربعٍ إلى ربعٍ وتسيرُ عارفةً طريقها بين التلال المحنية الظهر مثلها، مستكينةً صابرةً منكسرةً؛ لأن ذلك ما هو مُتوقَّع منها.

 بنت عرب تقبل يد جداتها وأعمامها وإخوتها الكبار بخضوعٍ، تتزوَّج ابن عمها؛ لأنهُم أسمُوها باسمه يوم ولدت، ابن عمها يستطيعُ أن ينزلها من على هودج عُرسها إذا زوجوها لغيره ـ إذا أراد ـ، لأنه أولَى بلحمه. كانت جدَّتي تهزُّ أنفها الطويلَ مثل أنف صقرةٍ بريةٍ، ويهتز شنافها بغضب، ثم تكرِّر تلك المقولة التي تردِّدها على مسامعي علي سبيل التحذير، ترددها كي تظل عالقةً بجلدي ولحمي ( يأكلها التمساح ولا يأخذها الفلاح )، ثم تكمل الجملة بسرد قصَّتها المُفضَّلة، قصة البنت التي كان لها رقبة ناقة طويلة، وعينا ناقة شاردة، عسليتان بلون العسل الجبلي، تلك البنت التي كانت تمتلك تلك النظرة القوية الخلَّابة المتكبِّرة العنيدة، التي أخافت جرأتها كل أبناء عمومتها أن يطلبوا يدها، فظلت بائرةً بلا زوج؛ لأنَّ جمالها المرعِب يخيفُ من يهم بطلب يدها من له أن يطوِّع كل هذا الكبرياء ؟، ظلت البنت الناقة في انتظار عدلها ونصيبها، حتى مر أحد التجار المصريين الأغنياء بربوع قبيلتها، ووقع في هوى تلك الأنثى الفاتنة؛ فطلب يدها وعقد عليها، و حين همَّت أن تركبَ هودجَ عُرْسها لترحل مع عريسها، مر أحد أبناء عمومتها على حصانه، وجذبها من ثوبها الأبيض، ووضعها أمامه، ثم ألقى بها في النيل؛ لتأكلها تماسيحه المتعطِّشة للدماء، لأنَّ جسدها شرف القبيلة، التي لا تسمح عادةً بأن تتلوث دماؤها بنسب الغُرباء.

***

كان جدي – كما يقولون – صاحب قافلة صابون يعبرُ بها من غزة إلى قفط أو بلاد القبط ( صعيد مصر )، وكان جده يحرسُ قوافل الحَج من المغرب إلى المشرق، وكان جده الأكبر تاجرَ رقيقٍ يركضُ بقوافله من بلاد السودان إلى بلاد التُّرك والبربر، وكان أجداده الأولون فاتحين جاءوا من نجد التي أمحلت وعطشت، عملا بقوله تعالي” اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ “

البدو الذين سكنوا ربُوع مصر اختاروا أطرافَها الصحراوية، وظلوا لقرون يشعرُون بلوعة الاغتراب في تلك الأرض الطينية السوداء، و بين فلاحيها الفقراء المنْهكِين.

سكن البدوُ أطرافَ الصحراء، ثم احتفظوا بحق الإغارة على القرى الصغيرة المنكوبة التي تجاورُ إقطاعاتهم، فظل هذا التاريخُ الحافلُ بالمظالم حاجزًا بين البدو وفلاحي مصر، وخلقت تلك الأيام البعيدة ميراثًا عميقًا من العداء، يكرِّسه التباينُ الثقافيُّ والعرقيُّ.

كانت كل قبلية تعيشُ داخل إقطاعاتٍ صحراويةٍ صغيرة ذات أسوارٍ طينيةٍ وبوابات مُحكمة الإغلاق يسمُّونها “نجع ” أو ” بني فلان “. توقفتْ حركة القوافل بمرور الزمن، و تحوَّلت الطرق إلى مادةٍ أسمنتية لزجة تعبرُها السياراتُ التي بلا ذاكرةٍ، لم يعد للصحراء أدلَّاء ولا قوافل ولا فرسان يحمُون تلالها؛ فاستسلمت القبيلة لصروف الزمن الذي همَّش دورَها السياسيَّ، وإنْ ظلتْ تلك القبائل مخلصةً في تقاليدها وأعرافها لأمجاد هذا الماضي.

 كانت العربات تركض علي الطرق الأسفلتية، وجدي مازال يوقد نارًا عاليةً أمام داره، ويجلسُ في المساء منتظرًا أن تتوقَّفَ عند خيمته القوافلُ العابرةُ، تلك التي كانت ترى في الأيام السَّالفة من بعيدٍ ناره المُوقدة، وتشم رائحة قهوته العربية، وتعرفُ من وشْم قبيلته كم هو أصيلٌ ونبيلٌ، يقري الضيف، ويكرم العابرين.. احتاج جدِّي وقتًا طويلا ليفهم أنَّ الزَّمن قد تغيَّر، وأنه لم يعُد هناك حاجةٌ إلى خدماته كدليل للقوافل، أو كقوةٍ عسكرية تحمي تلك الحدُود الصحراوية، فأعلن اعتزاله الوجود، لأنَّ الدنيا لم يعُد فيها خيرٌ يُرجَى بعد أن زحفتِ المدنيةُ علي تخُوم الصَّحراء.

أمر جدِّي في وصية موته أن تُذْبح كلُّ نياقه وجماله فوق قبره، وأن يضمُّوا عظامها إلى عظامه في مقبرةٍ واحدة.

 في عتمة الليل مازال أهل القرى المُجاورة يشاهدون شبح شيخ عرب، كهل، يتهادى في مشيته بين التلال، ويُغنِّي متفاخرًا بماضيه (عايش في عزه ودلاله.. ما بين نياقه وجماله.. وعنده عزوة من رجال.. ما فيه واحد دلال )

يسمع الناسُ هنهنة الشيخ وأهازيجه، ويرون أشباح النوق والجمال، وهي تسير خلفه، راقصة حالمة كظلالٍ بعيدة.

***

خيمة جدِّي فسيحة، مثل مدينة صحراوية ضائعة، تنتصبُ في فناء الدار الطينية؛ لأنه لا يرتاحُ إلا فيها، مقسَّمة إلى شقوقٍ، كل شق مثل حجرةٍ منفصلة، في نهاية الخيمة ثمة ما يسمُّونه خِباء أو مكان الحريم، حيث لا يجرؤُ الرجال على الاقتراب من حدوده، تجلسُ جدَّتي التي تكرهُ الحوائطَ والجدرانَ بجانبه، وتطلُّ من شقِّ خبائها، وتهنهن بالمغاني :

غلاك ما تخاف عليه مدسوس بين عيني وهدبها

حطيتك علي بابهن غفير وين يا حجر بيت غالين

العمَّات والخالات المُتشحات بالسَّواد والوشم والكُحل، يتمخطرن بالملابس البدوية المطرزة بأشكال من العرائس والأسود،يعبرن فضاء البيوت، ثم يتحوطن حول جدتي في جلسات السَّمر، يتباهين بأساورهن المجدُولة من الذهب، ويترنَّمْن بأصواتهن الناعمة، وهن يردِّدن أشعارَ الغناوة في طقسٍ يسمينه (ضرب العَلَم ).

أتلصص علي تلك المغاني المفعمة بالحزن، والفقد، والتوجُّع، والحنين، واتساءل كيف تخرجُ من قلوبهن تلك المواجد دُون ترتيبٍ أو تفكيرٍ، كيف ينسجن تلك الأبيات الصغيرة الكثيفة المحملة بالرمُوز، والمفعمة بالمحبَّة والعشق، كيف عرفن العشق، والتوق، والفِراق ؟، تلك النسوة اللاتي اقتسمن العزلة، وفي الغالب لن يُغادرن بيوت أزواجهن إلا لقبورهن، أقرفصُ في طرف البساط، ثم أحاولُ تدوينَ ما يَجُدْن به من مشاعر، أكتبُ بخفة آيات المحبَّة والعشق فتمسكني يدها الخشنةُ القويةُ الغاضبة وهي تقول : ( حسِّك عينك اللي في الخب يطلع برَّاه).

كانت يد جدَّتي التي أمسكت بتلابيب ملابسي الفضفاضة، هي أولُ يدٍ علمتني أن الجهرَ بالمشاعر فضيحة، وأن التعبير عن الحُب جرسه، وأن تدوينَ تلك الأغنيات كسرٌ لقانون القبيلة، الذي يحتِّم أن تظلَّ الغناوة التي تردِّدها النساءُ سرًّا لا يخرُج من تلك الجلسات المسائية، لكن ذلك التحذير لم يزدني إلا شغفًا بالمغاني، أجمعُ تلك الغزليات الطائرة في الهواء بلا صاحبٍ، وأدوِّنها في دفاتري، وأحلم أن أعبر جسُور الحظر، وأن أبوحَ بتلك المواجد دُون خوفٍ ولا رقيب، وأن أمزِّق تلك الصُورة المرسُومة لي سلفًا كابنة عرب تعيشُ وتموتُ مثل الناقة البكماء، لا تتجرَّأ على الكتابة أو البوح والتأوُّه والشكوى والوجْد…

لكنني رغم تاريخي الطويل مع الكتمان وادعاء الرصانة والإخلاص لصورتي النموذجية كابنة عرب، استطعت في النهاية أن اتحرر من مخاوفي.. لو لم يكن هذا السفر البعيد، تلك الرحلة التي طالت في الدروب والمنافي، تلك الوحدة في مواجهة العالم، لو لم تكن تلك التجربة الصعبة ربما ما استطعت أن اتحرر من مخاوفي كابنة مخلصة للقبيلة.

يكتب صديقي حمدي أبو جليل في ندوة اقامتها ورشة الزيتون عن روايتي:

(قولت امبارح أن خبر صدور رواية لميرال الطحاوي حدث في حد ذاته، فما بالك وهي رواية جديدة على مشروع ميرال نفسه، واول جدتها ومتعتها اللغة، اللغة الدقيقة السهلة الجريئة، أجرا وأكاد أحل – من الانحلال- لغة تصلها ميرال في مشوارها الادبي، والبناء الحر الروائي الملموم لما حول تجربة ميرال نفسها، البنت المصرية البدوية المغتربة في الوطن قبل الاغتراب الغربي، ورحلة الغوص في الهاموش المشرقي على المستنقع الغربي… مبروك لميرال ولنا والرواية المصرية عموما) شعرت يومها بالفرح الغامر، فرح الكاتب الذي تحرر أخيرا من سطوة الصورة المكرسة.

أهدتني تلك الرواية (أيام الشمس المشرقة) ما طمحت لتحقيقه عبر رحلة طويلة من الوعي بالكتابة، أن اتحرر ككاتبة من الهواجس والمخاوف، أن اتحرر من ميراث جدتي عن العيب والكتمان.

 

عودة إلى الملف

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم