أن تعيش لتغني.. “الغناء بالبيجاما”

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 وحيد الطويلة

قررت أن أغني .. البداية لم تكن مبشرة، المحاذير كانت أكبر من الحوافز، أنا ابن كبير القرية الذي انتزع مكانه بالمنطق في مكان لا يعترف بغير القوة، مكان يعترف بقوة العضلات، والعضلات في قريتي البعيدة تعني “النبّوت”(1)، والحصول على القوة عبره كما في روايات نجيب محفوظ، لكنها لم تكن قوة فردية لشخص، كانت قوة اجتماعية للعائلات وسطوة بعدد الرجال والأراضي، قلب أبي معايير القوة حين وضع القرية على خريطة الدنيا، وأصبح لدينا مدرسة وجمعية زراعية للفلاحين ووحدة صحية للعلاج من البلهارسيا التي فتكت بأكباد نصف القرية، صحيح أن هذه الأشياء كانت ستأتي ستأتي ضمن خطة الدولة لكن علاقات أبي وسياحته في البلاد البعيدة عجَلت بوضع قريتنا البعيدة على طريق التحديث ومن ثم الغناء باعتباره أهم تجلياته في منطقتنا.

ثم دخلت الكهرباء إلى قريتنا ، كان حدثاً يساوي وقوع الحرب العالمية الثانية كما ورد على لسان الحاج عبدالله أبوزيد كبير عائلة أبوزيد والذي كان يمقت الغناء مقت أبوجهل للنبي، كان يعاني من وعكة عائلية خاصة إذ أن أهم شباب عائلته ترك النبّوت والزراعة وصار مغنياً يغني في الأفراح التي راحت تنصب وتزدهر بفعل الكهرباء الخبيثة التي جعلت من الميكروفونات مسألة بسيطة بعد أن كان يؤرخ للقرية وأحداثها بيوم وصولها في مأتم غضنفر من العائلات المتصدرة لمشهد القيادة، كان يغيظه أن المغني أيضاً اسمه عبد الله، تم تسميته على اسمه لنيل الشرف، لكن عبد الله الصغير كان من العياقة والبشاشة والدلع بما يجعل رأس العائلة في الطين إلى حين يرث الله الأرض ومن عليها، كان المغني وسيماً بسمرة حيه وسحنة مبتهجة مبهجة يلبس خاتماً بفص داكن بلمعة، ويطوح ملفحته على كتفه كما يليق بفنان، بعيون تقول أنه سوف يموت وحيداً ومبتسماً، هو حسن المغنواتي الحقيقي في الحكاية المصرية أو هكذا رأيته .. وبدا مطارداً لا يعود إلى مضارب العائلة إلا خفية لرؤية أمه تحت سواد الليل، ولم يستطع أحد من اخوته الاعتراض على مصيره لكنهم تجنبوا تماماً الخوض في مسألته وانكست وجوهم بقشرة صلبة منعت الجمع من الخوض في سيرته أمامهم.

لكن المصائب تأبي أن تأتي فرادى، إذ نبت فجأة في العائلة وعلى غير المتوقع مغنٍ آخر كان لا بد أن تبعث حكايته على الفخر، إذ أن رجلاً من العائلة كان يمشي على عكّازين ويبتسم، ومن ثم استدعت حالته ألا يعمل في الزراعة وانتقل بقوة الحاجة إلى التجارة. كان يمسك بالتراب فيتحول إلى ذهب بين يديه وأصبحت لديه سيارة نصف نقل ونصف عمر، ورأى الإسكندرية رؤى العين ونقل أولاده للتعلم فيها إلى أن جاءنا الخبر الميمون الذي كان خبر مشئوماً على كبير العائلة بأن ابنه ستذاع له أول أغنية لحّنها في إذاعة الإسكندرية وبينما كنا نلتف جماعات حول أجهزة الراديو القليلة لدى الكبار في القرية، كان والد الملحن على عكّازيه يزفٌ البشرى لكبير العائلة الذى عاجله بنظرة قاسية ووجه مشمئز:

نعم نعم : علشان يعرف يزمر مع عبد الله ابننا”.

الزمّارون أو “الزمّارة”(2)، كانوا من بقايا الغجر يمرون بزماراتهم على قرانا يغنون غريباً عن مواويلنا بقربة تصدر أصواتاً جديدة وتصنع لحناً مغايراً بملابس غلب عليها الفرح وإن لم تخلُ وجوههم من الحذر خشية أن يهزأ بهم الكبار وإن لم تنقصهم المكافأة الواضحة في عيون الصغار، وقد يرقصون خفيفاَ طلباً لحفنة أرز، لرغيف، أو بعض كيزان الذرة وما شابهها، ومن يطلق عليه زماراً يا ويله يا سواد ليله.

كل البدايات غير مبشرة إلى أن وقعت الواقعة وظهر على الشاشة فجأة أيضاً وبدون سابق إنذار خالي السعيد، والسعيد اسمه وصفته معرفاً معروفاً بالألف واللام وجهاز اسطوانات كان أول جهاز ينزل بقدمه وموسيقاه واسطواناته إلى بلدتنا، كان خالي من قرية تتاخم المدينة وهو ابن حظ، بل هو الإبن البكري للحظ، من يومه ملك الفرفشة والنعنشة، كان وبكل الفخر أول من أدخل التعديلات على الجلباب البلدي التقليدي وأدخل الجلباب الإفرنجي أو ما أطلق عليه لسنوات جلباب الأستاذ سعيد ” ضاعت منه الألف واللام أو على الأرجح لم يعد يحتاجها ” بعد أن ضرب صيته الآفاق في النجوع والدساكر المجاورة، وعلى يديه والحمد لله عرف الناس للصدمة الأولى المطربة ليلى نظمي وزميلتها عايدة الشاعر، وتطايرت في الهواء أغاني:”الطشت قاللي وكايده العزال أنا من يومي”، ولم يكتف خالي بتأسيسه للنقلة الغنائية الجديدة، بل راح يؤجر الجهاز والاسطوانات وصار الجنيهات تشخلل في جيبه، لكن الأمر الأهم أنه أضاع على المغنيين الشعبيين جزءاً من شهرتهم وإن لم يختفوا تماما، وجعل كبير عائلة أبوزيد يرقد في سلام بعد أن كف المغني العايق عن الغناء في منطقتنا وراح ينتقل لأماكن بعيدة عن مضاربنا.

صعدت على خشبة المسرح، كنت ألبس بيجاما جديدة أحضرتها من سفرتي اليتيمة مع أبي لمدينة دسوق والتي كان يؤرخ لتاريخنا أيضاً بالسفر إليها..، بيجاما جديدة لم تنزل أختها لمنطقتنا من قبل، كان الفرح لإحدى العائلات التي استقدمت فرقة “جربانة” من دسوق لكنها بدت لنا كأنها اوركسترا عبدالوهاب وكأنه سيصعد المسرح بعد قليل.

بالطبع كانت ليلة أم كلثوم من ليالي التقويم يتم فيها الاجتماع حول الراديو في أي “جرن”(3)، إلى جانب خطب عبد الناصر وتُنصب القعدات والموائد الخفيفة التي تليق بالليلة، لكن محمد عبد الوهاب كان هو المصنف رقم واحد باعتباره ذكراً يغني برجولة ولا يغني أغاني الوجد والسهاد التي يغنيها عبد الحليم حافظ، مطرب الحبِّيبة، رغم أن جعبته مكتظة بالأغاني الوطنية عن الثورة وقائدها الذي كاد يُعبد في منطقتنا.

كان أبي يحب عبد الوهاب ويكره الإخوان المسلمين وصوت فريد الأطرش وكلما جاء صوته في الراديو يقول: هات يا بكاء، تندراً على الشحنة الحزينة داخل طبقات صوت فريد الغنائية.

المهم، رغم سطوة عبد الوهاب إلا أنني غنيت أغنية لعبد الحليم، ويبدو أن غنائي كان مفاجأة الحفل فطالب جمهور الفلاحين – وهو غير جمهور الفقهاء- بالطبع بأن أغني أغنية أخرى وطالب البعض الآخر بإعادة نفس الأغنية، ورغم أنني كدت أموت من الخوف لو علم أبي بالأمر إلا أنني نسيته والميكروفون في يدي تحت تصفيق وهياج الفلاحين ومدير الجمعية الزراعية الذي كان يتمتع بمكانة ولا مكانة وزير الزراعة، وبينما كنت أختم الوصلة لمحت مرسالاً من أبي يلوّح بذراعيه بدل يديه كعلامة على خطورة الموقف أن أختم الكوبليه وأن أنزل من على الخشبة فوراً.

كان كبير عائلة أبوزيد يتصدر المشهد مرغماً لمجاملة عائلة العريس، وربما كان شغوفاً أن يرى فرقة البندر بما تحمله معها من نساء البندر، كان ينظر لي وأنا أغني بوجه مستهزئ، فكرت أن أسحبه لملعبي عند صغر سني وربما فكرت أن أغيظه وانتهزت الفرصة عند طلب إعادة الأغنية من الجمهورالغفير الغفور فأرسلت التحية للمقاتلين على خط الجبهة كما كان يفعل المغنون الذين سبقوني في “الكار”(4)، وجاءت تحيتي مقبولة إذ كنا خارجين للتو من حرب 1973، بينما عاني سابقيّ إذ كانوا يهدرون بالتحايا في السنوات التي سبقتني منذ حرب الاستنزاف والتي كانت مملوءة بالغصة والرهبة جرّاء عودة بعض الجنود شهداء من خط النار، ولعل عدم القدرة على الحزن من استشهادهم بسبب أننا كنا نحارب معركة الشرف جعل الفرح بالتحايا عالياً بعد أن أصبحنا في زمن النصر وعدم الخوف، المهم أنني عند إعادة الأغنية دخلت بالموال الشهير لعبد الله المغني العايق والذي حفظته البرية عن آخرها:

الأولة ورقة بدمع العين ناديته,

والتانية ورقة لا بعت لي سمنته ولا جاء أخد زيته.

والتالتة ورقة حبيب الكبد لا بعت لي رحت له ولا جيته.

وعيد الثورة يا أجمل عيد” …

ما لقيته من حفاوة وتقدير سوف يُقَابل بالتكدير وبالعلقة المتينة حين أعود للبيت – هذا إن جرؤت مفاصلي أن تجد طريقها للبيت أصلاً –لكن عمَتي التي تعيش في البندر وتفهم في الأغاني أخذتني من يدي وأدخلتني لغرفتي وعادت لتناقش أبي وتستعطفه وما وصلني منها عبر أزيز الرعب الذي كاد يأكلني:” ثم أن صوته جميل أجمل من فريد الأطرش، وبدلته ( تقصد بيجامتي ) كانت نظيفة وجديدة”.

ولم أعرف حتى وقته من أنقذني فريد الأطرش، أم بيجامتي .

جملة أبي الوحيدة كانت:” اقرأ لك كتاب أحسن لك .. الغناء يحتاج للإلهام”.

قرأنا، كنت أسمع عبد الوهاب يتحدث عن الإلهام الموسيقي الذي يأتي للفنان، للملحن لكي يجد جملته التي يبني عليها لحنه مثل الروائي الذي يعثر على الخيط الوهمي لروايته، كان يقول:” إن الإلهام الموسيقى لم يأت لأحد مثلما أتى لبليغ حمدي، أتذكر هذا الكلام وأنا أستمع لأغنية ” مر بي ” التي لحنها لفيروز وعندما أصل للمقطع الذي تغني فيه: واعدي لا كنت من غضب، أعرف الحب سنى وهدى”.

الهوى الهوى، وفيروز تعيدها، أتخيل الرزق الذي رزقه الله به لحظتها وأتخيل تعب عبد الوهاب في انتظار الإلهام وأحياناً مطاردته وحقده وربما غيرته من بليغ الذي دفعه ذات مرة ليقول عنه: “موهبة ألماظ لكنه تحتها صفيح”.

لم أنس الغناء، أخي صار مغنياً، أغني معه و خلفه، كل واحد من طبقة ونتبادل الطبقات .. أحلم حلماً طويلاً بيوم نغني فيه معاً في مهرجان للموسيقى الروحية يغني فيه المغنون بإحساس اللحظة بالإلهام النابع من الارتجال كي أتعود على الكتابة بلا وجل وبلا طقوس وفي الحر وتحت رذاذ المطر.

قلت في أحد الحوارات:” عندما أترك الكتابة سأصير مغنياً”.

كنت في رحلة مع زوجتي وطفلتي في معبد “كوم امبو” بصعيد مصر، حينما خرجنا من المعبد لاح مقهى فاتن على مدى البصر ليستريح فيه السواح، كنت في فوج، وحين اقتربنا كانت فرقة صعيدية من خمسة أفراد تقابلنا باللباس التقليدي: جلابيب وعمامات ومزامير ونايات، كانوا يغنون أغاني أعرفها، حذرتني ابنتي الكبيرة كعادتها من الغناء لأنني قد أسبب لها الإحراج بين السواح، لكن الرجل تدب مطرح ما تحب، والمغنون عائلة مهما تفرقوا، يعرفون بعضهم بعضاً.. بعد دقائق كنت أقودهم بين الممرات في المقهى الفسيح جداً، واغني أفضل منهم، بالروح التي لم تزل عاشقة هاوية، زال خجل ابنتي بعدما سمعت استحسان المستمعين خاصة المستمعات، كنت كالبجعة إياها التي تعرف أنها تغرد تغريدتها الأخيرة، مال رئيس الفرقة على أذني بين الفقرات:

انت بتشتغل مع مين؟

مع الريس فاروق.

اخترعت له اسماً دون تردد .

رد برجاء وغمزة:

طيب ما تيجي تشتغل معانا.

…………

هوامش:

النبّوت: عصا كبيرة كانت وسيلة العراك وفرض القوة في أزمنة سابقة

الزمّارة: العازفين بأحد الآلات الموسيقية البدائية

جرن: مساحة فسيحة من الأرض الفضاء

الكار: المهنة

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم