أفكر في أمي، وفي ذكرى وفاتها العاشرة التي سبقت مجيء طفلتي للعالم ب4أيام، يوم وفاتها المربك يصادف ليلة رأس السنة الميلادية، هذا العام كنت متعبة ومثقلة بحملي لدرجة لا تسمح لي بالنوم إلا جالسة، وتصبح كل حركة لي مؤلمة أرغب معها في البكاء، والمشي عدة خطوات يعني جحيما لا احتمله، ورغم الشتاء كانت حرارة جسدى مرتفعة وأشعر طوال الوقت بالحر الشديد، اتنفس بصعوبة وأفكر في أشياء مخيفة وقاتمة. الموت الذي كنت أفكر فيه كثيرا في تلك الايام لم يكن يرتدي عباءة بنفسجية ويجلس على كرسيه يرسل الخطابات كذلك الذي وصفه ساراماجو ، كان موتا آخر ترك ثقوبا في روحي ووصمها.
أفكر في مشاعري المتناقضة التي حملتها في صدري أكثر مما أحتمل، في ليلة رأس السنة كنت في بيت أبي صباحا اجتمعت مع أخوتي، في طقس أسري صغير نقرأ لأمي القرآن، ندور حول بعضنا في صمت، أو نقطع تلك الكآبة بأن نحكي عنها شيئا مبهجا مثلها، أحكي أنا وأبي دائما نذكر كل الحكايات.
في تلك الأوقات أحرص على لمسهم جميعا، فأمي كانت تلمسنا بشكل مبالغ فيه. كنت أجلس جوارها يملؤني قلق ما أو حزن فتقول لي فجأة: “تعالي في حضني” كنا نقابلها في الممر بين حجرات البيت القديم الواسعه فتمنحنا قبلة أو حضن أو ربتة كتف، ربتنا بذلك الإتصال المادي والإنساني .
وأنا ورثت منها تلك العادة غالبا ما ألمس كتف أصدقائي، وأقبل كف الصغار ورؤسهم كما تفعل هي .
في المساء وبينما كان الحزن والتعب عالقين في جسدي، كان محمد يعد لي احتفالا صغيرا، احتفالا بعام جديد وقرب ميلاد طفلتي، قالب من الحلوى وبعض الزينة ومشروب الاحتفالات في زجاجته المغرية التي أحبها وسمكة برتقالية جديدة اسميناها “بنها” لأننا اكتشفنا بعد أيام من مجيئها للبيت انها تتظاهر بالنوم إذا مررنا جوارها، وأنها تراقبنا من داخل الماء وتتظاهر أنها تتفرج فقط على البيت.
“بنها” كانت سمكتي البرتقالية الخمسين ربما .. لكنها كانت السمكة الأولى لطفلتي التي ستجيء بعد ايام .
كانت روحي متربة، والحزن عالق بحوافها تماما، لكن طقوس الاحتفال، وحماسة محمد منعتني من الاستسلام لما أشعر به من شجن، عندما اتفرج على صور ذلك اليوم أدرك كم كنت متعبة وحزينة وممتنة وسعيدة .
ذلك التناقض في المشاعر لازم شهور حملي كلها، لم تكن هناك سعادة خالصة كنت أنتظر خبر ميلاد، وأترقب اخبار مرض قريبة لي ، صغيرة في السن وحالتها المرضية سيئة .
كنت اترقب نمو صغيرتي على شاشة السونار، يدها وهي تلوح لي من بعيد وتقول لي “أهلا، أنا هنا” ، وفي نفس الوقت اتلقى تقارير الأطباء عن البنت وأري تعاسة من حولي بسببها .
وكان ذلك يضغط على أعصابي ويسبب لي ارتباكا كبيرا ، كأن شيء قضم في فمه قطعة كبيرة من فرحتي وجلس يلوكها بقسوة .
يوم الولادة كنت في حجرتي بالمستشفى ، وكانت هي محتجزة في حجرة في الطابق العلوى الخاص بالأورام، لم يكن مسموحا لي بزيارتها، كانت تعاني على بعد طابق مني، وكنت أنا أفرح بنظرة طفلتي الأولى، وصوتها الصغير، وأتأمل عيون أبيها وابتسامة ابي وكل من حولي وافكر في ألم قريبتي على بعد عدة غرف مني .. لم اكن افهم فعلا كيف احتمل كل ذلك الفرح وكل هذا الحزن .
أخبرتني صديقاتي اني سأتوقف عن شعوري بالفقد لأمي عندما اصبح أما، والحقيقة أن شعور الفقد نما بشراسة كشجرة جاك العملاقة التي نبتت من حبة فول سحرية ووصلت للسماء حيث تعيش الغيلان في الأسطورة.
ليس الفقد وحده لكنه إحساس قوي وعميق باليتم، إحساس مؤلم لم أشعر به في كل ما سبق من حياتي، في صدور الكتب كان الاصدقاء معي، وفي ترتيبات الزواج كنا نذهب في مشاوير مفرحة وكثيرة أنا والفتيات ، نرتب البيت ونشتري اشياء ونفرح.
لكن في الولادة كنت أنا وطفلتي واليتم ..
رغم أن أبي اعتني بي أكثر مما قد تفعل اي أم ، وصنع لي أطباق الشوربة بالطريقة التي أحبها ، ومحمد غمرني بالعناية ، وكانت قبيلة من النساء والقريبات يعتنون بي وبطفلتي ، لكني كنت اشعر بيتم لا يخفف حدته شئ ، كنت أميل أكثر لرغبتي الدفينة في الصمت والإنطواء ، الرغبة في إطفاء الأنوار والبعد عن الضجيج وترقب نوبات الألم في مكان الجراحة ، والنظر للصغيرة النائمة .
اتذكر الأن كيف كان محمد يقرأ عن اكتئاب ما بعد الولادة ، وكيف انه كان يقول لي كثيرا انه لن يسمح لي بالذهاب لهناك ، والحقيقة انه كان يجذبني بقوة ، كان يشتري لي زهوري المفضل وبالونات الهيليوم والكثير من الأشياء الأخرى .
وأنا كنت متعبة ومفتقدة أمي ، وغير مستوعبة للألم الرهيب الذي اختبرته أثناء الولادة ، الالم الذي اختزنته ذاكرتي وأضافته لمخاوفي .
وكنت أرغب في الحزن على أمي من جديد ، والرثاء على حال قريبتي المريضة ، والتملص من كل شئ ، كنت أتوق للجلوس في صمت في غرفة مغلقة .
لكن تعلق قلبي بالصغيرة ، وصوتها وملابسها التي رأيتها ترتديها اخيرا ، بعدما ظللت شهورا ارتبها واعيدها مكانها ، الصغيرة التي عادت معي من المستشفى ، احملها في حضني واضعها في فراشها ، واراها تعتمد عليّ كل لحظة ، فلا يمكنني أن اغادر قاربها لأي مكان آخر وحدها هي من منحني هذه المرة طوق نجاة أعبر به ركام العالم وفوضاه .
الصغيرة التي رغم انها تذكرني كل لحظة بالحنين لأمي ، لكنها تمنحني مقدارا مساويا من السعادة والفرح، فأنصت لدقات قلبي المثقل بالتناقض وبالكثير من الفرح والحزن والموت والحياة .