عقدت مؤسسة “بتانة” الأحد الماضي حفل توقيع ومناقشة المجموعة القصصية “هفوات صغيرة لمغيّر العالم” للكاتب ممدوح رزق، وأدارها الكاتب والناقد عمر شهريار. في البداية أكد د. شاكر عبد الحميد أن “هفوات صغيرة لمغيّر العالم” من أهم المجموعات التي قرأها في الفترة الأخيرة، مشيرًا إلى حضور كابوسية كافكا، وإلى هيمنة المكان على الشخصيات، وإلى تحوّل الزمن الكرونولوجي إلى زمن دائري في قصصها.
تحدث د. شاكر عن الروح الروائية للمجموعة التي اعتمدت على توظيف التقنيات السينمائية سواء فيما يتعلق بالقطع والمزج والمونتاج، وهو ما حوّل العالم إلى حدث يُشاهد عبر شاشات عديدة، ورغم ما قد تحمله هذه المشاهد من كوارث أو دمار إلا أنها تُصنّف كتسلية للشخصية التي لن تؤثر عليها هذه الأحداث، وهي الشخصية التي تتكرر عبر القصص. أشار د. شاكر إلى أن هذا ما يُسمى في دراسات المسرح بالخبرة البديلة؛ فالعالم هو حالة مسرحية يمكنك أن تشعر بالتعاطف تجاه ما بها من مشاهد القتل أو التعذيب أو ما شابه التي تتضمنها، لكنك في الوقت نفسه تستمتع بالأمان الذي يمنع عنك هذه الأحداث. تحدث د. شاكر عبد الحميد عن العديد من سمات المجموعة؛ فهي إلى جانب استخدامها للرصد السينمائي، تقوم قصصها أيضًا على سوء الظن والشكوك والأشياء الخفية الغامضة والمشاهد الكابوسية العنيفة وفقدان الشغف حيث كل شيء أصبح كما لا ينبغي أن يكون. أكد د. شاكر كذلك على لعبة الضوء والزمن التي يستعملها ممدوح رزق، وعلى اعتماده على عالم الصورة، والحياة المستقلة للصور التي يمكن من خلالها رصد التحولات التي تطرأ على حياة الكائنات عبر صور شبحية غامضة، وصور فوتوغرافية واضحة، وصور متحركة، وخيالات، وأحلام، وصور من عالم فيسبوك.
تحدثت بعد ذلك د. هويدا صالح التي أكدت أن المجموعة على صغر حجمها تقترح العديد من المداخل لاكتشاف جماليات قصصها وعوالمها، كما تناولت أيضًا الحالة الكابوسية للمجموعة من الغلاف إلى التصدير بمقولة لكافكا إلى النصوص، وأشارت إلى أن “هفوات صغيرة لمغيّر العالم” أقرب إلى المتوالية القصصية نظرًا للوشائج التي تجمع بين النصوص مثل السارد أو التاريخ الشخصي للسارد الذي بدأ في قصة “الأربعون”؛ هذا الرجل الذي وصل إلى الأربعين، وحينما فوجئ بأن الزمن قد سرقه وأوصله إلى هذه العتبة النفسية كان عليه أن يعود إلى حياته ليتأملها أي أن يستغل الذاكرة في تثبيت مشاهد الماضي لأنه لا يريد أن يعاني مصير الأب الذي أكله النسيان أو الزهايمر.
تصبح الذاكرة هي المقابل للنسيان، والتي لا تعني تأمل حياة السارد فقط، وإنما حياة أبيه كذلك. تحدثت د. هويدا عن السارد الذي كان طفلا، وحينما وصل إلى الأربعين وجد نفسه يعاني من نفس الأزمة النفسية التي كان يعاني الأب منها فيلجأ إلى طفلته التي تقوم معه بنفس الدور الذي كان يؤديه حينما كان يلجأ أبوه إليه، وهو ما جعل هناك تماهي مع الأب لهذه الشخصية التي تنتقل إلى كل القصص. السارد الذي لديه زوجة وإبنة، ويعاني من القلق الوجودي والتهميش. أشارت د. هويدا صالح أيضًا إلى امتداد الوشائج في المكان والزمن، وأن ممدوح رزق يعمل على الزمن النفسي طوال الوقت كما في قصة “الكراهية المطلقة”، الزمن الذي هو ليس تتابعيًا حقيقيًا، وإنما زمن نفسي أي ليس كما يبدو بالنسبة لنا أو للشخصيات في المجموعة. تحدثت كذلك عن أن العودة بالزمن دائمًا هي وسيلة الذات القلقة المنفصلة عن العالم، والتي تعيش في عالم يخصها أو عالم مغلق أو داخل الصور. الذات التي ـ بحسب تصدير كافكا ـ تحاول أن تنصت إلى نفسها لتحتمي من عدائية المكان وانسحاقها أمام الزمن، وأن ترى انعكاساتها في المرآة.
هذا الإنصات إلى الذات من أهم الهموم التي قالت د. هويدا أن السارد يطرحها ومن ورائه ممدوح رزق في هذه المجموعة. أشارت كذلك إلى توظف تقنيات السينما والفن التشكيلي واستدعاء طرق للسرد تناسب الزمن النفسي، والاعتماد على توزيع مساحات الضوء والعتمة، واستخدام لغة مشهدية بصرية كما في قصة (ليلة حب) التي تجعلنا نشاهد التفاصيل وأن نعيد تشكيل الحكاية عبر الإشارات والفراغات عن هذه المرأة التي فقدت شغفها بالحياة. أكدت د. هويدا صالح أن ممدوح رزق يدرك تمامًا فلسفة الزمن، أي أنه يريد أن يطرح لنا فلسفة ما عن لماذا يمر الزمن هكذا؛ فالسارد في قصة “الكراهية المطلقة” المكتوبة بلغة كابوسية من منطقة تيار الوعي لا يريد أن يموت بل يستنجد بالذاكرة حتى تُعيد إليه الحياة فيبحث عن أكثر اللحظات دفئًا في حياته لأنه يرغب في استدعاء اللحظات التي كان فيها سعيدًا ذات يوم، يريد أن يحتمي بالذاكرة. أشارت أيضًا إلى ثيمة افتقاد الرغبة في الحياة، وإلى جدل الثنائيات: بين الذات والعالم أو الصراع بين الأنا والآخر (الزوجة ـ الأصدقاء ـ الأب)، بين الحياة والموت، بين الموت والخلود حيث تثبيت الصورة التي تحل محل الحياة من أجل هذا الخلود.
الصراع بين الافتقاد والجمود والعادية، بين الحضور والغياب، أو بين الحب والكراهية. تحدثت د. هويدا كذلك عن أن ممدوح رزق يطرح سؤال الكتابة؛ فالمؤلف الضمني في قصص المجموعة هو كاتب، وفي قصة (ورشة الكتابة) لا يتحدث عن الكتابة فقط أو عن كيفية كتابة القصة أو عن تثبيت اللحظة القصصية بل عن هموم الذات التي طُرحت على مدار المجموعة، الخوف من الآخر، القلق الوجودي الذي يسيطر على الشخصيات، كما أن سؤال الكتابة أيضًا في القصة الذي يطرحه ممدوح رزق يتعلق بأسئلة الكتابة المرتبطة بما هو إحالي وتخييلي وواقعي. في النهاية أكدت د. هويدا صالح إلى أن الهفوات الصغيرة هي أسئلة كلية للوجود: سؤال القلق النفسي، سؤال فلسفة الزمن، سؤال العلاقة بين المكان والزمان، وأن عنوان المجموعة هو دلالة ضدية ما بعد حداثية مقصودة من ممدوح رزق يريد منها أن يسخر من فكرة تغيير العالم، وأنه أراد من هذا العنوان الساخر أن يهدم هذه السردية الكبرى.