مُزارِعٌ وكلبٌ

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيرين سولا*

ترجمة: رجب سعد السيد

كان الجو حاراً جداً يومَ أن علقت يدُه اليمنى في آلة الحصاد. كانت الحرارة من ذلك النوع الذي يجعلك تتحرك كأخرق، ولا يسمح لك بالرؤية لأبعد من حاجبيك الرطبين المغطيين بالغبار، والذي يجعلُ الحبالَ تتلوى حول البالات، كأنها ثعابين. لقد فقد إصبعيه الخنصر والوسطى، من يده اليمنى، وبقيت له ثلاثة أصابع، وندبةٌ اتخذتْ، بعد أن شُفيتْ تماماً، هيئة قدم طائر، ولم يجدوا متبقياً في المعدات المعدنية، من تلك الأصابع، ولو حتى ظفر كامل. لكنه لا يزال محتفظاً بقدرته على العمل، وقد مرَّتْ به أمور أسوأ من ذلك بكثير.

لقد كان اليوم الذي عثر فيه على القنبلة حاراً جداً، أيضاً، وكأنهم غطوا الحقول ببطانية في منتصف شهر يوليو. ولما جاءه صوتُ قرقعة، أسرع فأوقف الجرَّارَ، ورفع المحراث وأبعده مسافة أربعة أو خمسة أمتار، ثم أخفضه. ولقي، في البداية، مشقَّةً في تبين ما كان عليه جسم القنبلة، لأنه كان مطموراُ في كتل من الأتربة.

فلما لمسها وخلَّصها من القاذورات، فكر في أنها ربما كانت قذيفة مدفع هاون، من زمن الحرب الأهلية. وقد راقه ذلك كثيراً، لأنه – حتى ذلك الحين – كان أكثر ما عثر عليه من مخلَّفات الحرب الأهلية هو بعض من عملات معدنية، وجدها مدفونة في أصص الزهور.

التقط القنبلة بحرصٍ بالغ، ليبعدها عن الطريق، وقد قدَّرَ وزنها بنحو خمسة وعشرين كيلوجراماً. إن كلباً بمثل هذا الوزن أصغر من أن يتحمل العيش في الريف. لقد دفن بنفسه عدداً من الكلاب، كانت أصغر جداً من أن تألف الحياة في مزرعة، وراحت ضحية كلاب أكبر، أو دهستها سيارات، أو بسبب أمراض عابرة. ولا يصلح للحياة في المزرعة غير كلاب كبيرة لها وظائف تجيد أداءها، مثل النوع المسمى بكلب الراعي الألماني، أو ذلك النوع المسمى درواس، الذي كان يقتني منه كلبا إسماه تاكويز. إنها كلاب تعوي على القمر، وقادرة على الوقوف في وجه الخنزير البري.

ويتذكر أنه عندما مات تاكويز، طلب من أخيه المساعدة في دفنه، فأعدَّا حفرةً واسعةً عميقةً، سحبا إليها ذلك المخلوق المسكين، وكان بحجم عِجْلٍ، ويبلغ وزنه نحو سبعين كيلو جراماً، وقد اعتاد أن يتبعه إلى المزرعة كل يوم وينتظره تحت شجرة التين، وإن تصادف وجود أطفال أو مسنين أو جيران، أو وجد من الحيوانات ما تخافه، كان لا يسبب لهم إزعاجاً، ويلتزم الجلوس هادئاً.

أما الآن، فإنك تخالف القانون إن دفنت كلاباً في أرضك، فلا يكون أمامك إلا إلقاؤهم في حاوية مخصصة للجثث، يركضُ الأطفالُ ليختبئوا في منازلهم، صيفاً، أو يُضطرون إلى إغراق رؤوسهم في بركة المياه العذبة، حتى لا يشموا رائحة الجِيَف عندما تأتي تلك الشاحنة المختصة بجمع الحيوانات النافقة من الحاوية. وكان سائق الشاحنة يلوِّحُ لهم أو يهز رأسه من مسافة بعيدة، ولا يغادر شاحنته أبداً، ولا يمكث أكثر من اللازم، وكان الجميع يُقدِّرُ ذلك، فالرجل ينقل موتى، للتخلص من كل الروائح الكريهة التي يجلبها الموت، وتتسلل إلى أنفك.

وكان ذلك السائق يثير، على نحوٍ ما، فضول المُزارع (فيسينيتش باللادور)، الذي كان يرى أنه من الصعوبة بمكانٍ أن تحب شخصاً تفوح منه رائحة الجيف المتعفنة، فمن المستحيل ألا تلتصق الرائحة الكريهة بهذا الرجل المسكين، تحت أظافره وفي وفروة رأسه، مهما كان اجتهاده أن يزيلها وهم يستحم. وتخيل فيسينيتش سائق الشاحنة يعيش في مبنى حيث يتجنب جيرانه ركوب المصعد معه.

وعلى أي حال، فإن عدم السماح لك بأن تدفن كلابك وقططك في المنزل  أمر غير طيب، إذ كان بمقدورك أن تبين لأطفالك مكان قبورها، في مكان محدد مغطىً برقعة من الزعتر.

 وصحيحٌ أن الجميع قد فعلوا ما توجَّبَ عليهم، وأصبح لكل شخص قطعة أرضٍ مخصصة لدفن حيواناته المحبوبة، غير أن الأمر شابه شيئٌ من عدم الاحترام، إذ تمَّ اقتحام منازل الناس لإخبارهم بما يجب عليهم أن يفعلوه، تمامًا كما كان أمرًا مروعًا أن يكون لديك كلب كبير .. كلب ريفي يستحق البقاء على قيد الحياة .. كلب وُلد ليركض طول الوقت حُرَّاً، لكن مشكلته أنه يعيش في الريف، ومن ثمَّ ينبغي إبقاؤه أسيرًا طوال حياته. ولأن ذلك كان شيئًا آخر لم يكن مسموحًا لك بفعله، فاجتهد أن تجعل كلابك تعمل بحرية، وتنتظرك تحت شجرة التين.

وضع “فيسينيتش باللادور” القنبلة جانباً وهو محاذر، وعاد إلى جراره،  الذي لا يمتُّ بصلة لما شهده هذا القرن من اختراعات لجرارات مزودة بأجهزة راديو وتكييف هواء. لم يسمع عنها، ولا عن الحرب الأهلية الإسبانية، ولاعن معسكرات الاعتقال، ولا عن الأطفال المصابين بالسرطان.

هيَّأ الجرار في الاتجاه المعاكس، وأعادَ محراثه إلى الموضع الذي كان قد رفعه منه، وتابع عمله.

وتذكَّر أنه، عندما كان صبيًا ، في ذلك المنزل الذي كان رطبًا جدًا ولا يخلو من تسريبات، هنا وهناك، بحيث لا يمكنك أن تكون إلا في المطبخ، وإن كان ذلك لا يعني أن عظامك لن تتعفن، قصَّتْ عليه إحدى عمات والده، وكانت شبه عمياء وترتق الجوارب طول الوقت، القصة المسلية الوحيدة التي سمعها عن الحرب: كيف تمكن جده من تجنب المشاركة، بأن اختبأ مع أخيه تحت بقرة.

عندما سمعوا أن الأحوال قد بدأت تتأزم، قاموا بحفر حفرة أسفل حظيرة الأبقار ودخلوا فيها ، وأخفت زوجاتهم، بمساعدة الجد، فتحة الحفرة بلوح سميك غطينه بالمخلفات والتبن، وأمامه الأبقار مربوطة. وعندما جاء من يبحثون عن الفارين من التجنيد، لم يجدوهم. كانوا يخاطرون ويعرضون أنفسهم لعقوبة الإعدام رميا بالرصاص، لكنهم أنقذوا أنفسهم من الحرب. وقالت العمة: “الرجال الموتى فقط هم من لا يجدون طعاماً سوى بقعة الأرض التي دفنوا فيها”. وضحكت لنفسها مثل ضبع.

وعندما انتهى من الحراثة، اتصل بالشرطة، ولم ينتظرهم، فليس لديه يوم كامل يضيعه في انتظارهم، فذهب إلى المنزل، وأخذ بعض الماء وجلس في الشرفة المواجهة للحقل.

ولم يلبث أبناؤه أن جاءوا إليه مسرعين، وكانوا يبحثون عنه، لأنهم عثروا على جثة. كان فيسينتش الابن يحمل فكًا في يده، ومارتا تسير خلفه. أخذ فيسينيتش الكبير العظم الرمادي الجاف وفحصه، ثم أفسد مغامرة بوليسية كانوا يحيكونها، بإخبارهم أن العظم لخروف. وكانت مارتا تنهي دراستها البيطرية، أما فيسينتش الإبن فكان يقوم بتدريس الموسيقى وعزف الطبول في فرقة ذاع صيتُها.

أخيراً، وصل رجال الشرطة. صافحوه، وبدوا مصدومين قليلاً لمصافحة يدٍ منقوصة الأصابع. قادهم إلى حيث ترك ما عثر عليه في حقله، فراحوا يتفحصونه، حتى وصلت فرقة المتفجرات.

ولما عاد إلى البيت، أخذ زجاجة جعة باردة من الثلاجة، وواصل الجلوس في الشرفة. وكان يرتشف مشروبه وهو يراقب كيف اقترب فريق المتفجرات من القنبلة بأرديتهم الشبيهة بملابس رواد الفضاء، وكأنه مشهد من شريط بطولة فان دام أو سيجال. وضحك وهو يتصور ما كان يمكن أن يرتسم على وجوههم من تعبيرات، إن كانوا رأوه وهو يسحب القنبلة، كأنها كلب ميت.

………………………….

(*) ايرين سولا: كاتبة وفنانة تشكيلية كاتالونية حائزة على عدة جوائز، أهمها جائزة الاتحاد الأوروبي للآداب. تجتذبها مفردات الحياة اليومية التي اعتادها الناس، وتعالجها بدرجة من الغرائبية، فتبدو كما لو كانت مغايرة لما اعتادوه.

 

مقالات من نفس القسم