في الشارع يقابله الأطفال، يشيرون ويهللون لمقدمه، يبدو دومًا منشغلًا، ولكنه لا يكسر بخاطرهم؛ وهو في عجالة، يرفع يديه الاثنتين لأعلى، يحييهم.
بجوار ابتسامته الكبيرة المرسومة، ترتسم ابتسامة حقيقية صغيرة، قد لا تبين لهم، لكنه يستشعرها، يركب دراجته، يغادر الحارة، التي يبتسم أهلها دومًا ابتسامه تشبه ابتسامته الكبيرة، يبتسمون فقط مع أطفالهم بشكل حقيقي حين يرونه، وكأنهم يتشبثون بفرحة طفولة لم يعيشوها، يطلقون عليه “البلياتشو”..
البلياتشو جاء.. البلياتشو ذهب.. البلياتشو رفع يديه لي.. ابتسم، غمز بعينه… عطس، البلياتشو يعطس مثلنا بالضبط…
يعتقدون بالحارة أنه يعمل بالسيرك، وأن أي مهرج لا بد وأن يعمل بالسيرك، ذات نهار قضى ولدان طوال اليوم يتناقران معًا، حين طرح أحدهما سؤالًا بدا للآخر غبيًا: “هل يبكي البلياتشو؟”.
الرجل كان يحاط بغموض لم يكن بالطبع يقصده، لكنه كان الجار الذي يعيش وحيدًا، يخرج في الصباح الباكر، يلمحه فقط بعض الصغار المنتظرون بشرفاتهم طوال الليل، ليحظوا بابتسامة أو بتلويحه من يديه، يعود في المساء، حين تكون أصباغه قد بهتت، ولم تبن مع ظلام الحارة، الرجل لا تغادر الأصباغ وجهه أبدًا، ولم يبدأ أحدًا بالحديث، فقط حين يراه الأطفال ويشيرون له، يشير لهم، يبتسم، وقد يتقافز في مكانه ويرحل سريعًا.
يدخل مبنى الجامعة بدراجته، دون أن يوقفه الحرس، يفتح باب الكافيتريا التي يستأجرها بجوار مبنى كلية التجارة…
“كافيتريا المهرج”
مكتوبة بخط عريض، بجوارها رُسم وجه مهرج باسم، لا يختلف كثيرًا عن وجهه، حتى يبدو وكأن للمهرجين جميعًا نفس الشبه.
المهرج يعمل بدأب طوال اليوم، يقدم السندويتشات والعصائر للطلبة، بنفس وجهه هذا، يعمل معه ولد وبنت في تجهيز وتقديم الطلبات، هما أيضًا لم يسبق وأن رأوه بمظهر مخالف، قام بتوظيفهم بوجه مهرج، يوجههم في العمل ويعطيهم أوامره، ويتلقون آخر الشهر رواتبهم منه وهو بنفس الوجه، عندما علّقت البنت على ذلك مازحة، رد باقتضاب وحدة، موجهًا إياها بالتركيز في الشغل فقط، مما جعلها لم تعاود السؤال مرة أخرى.
زبائنه يرونه ذكيا، يحاولون مداعبته، ينتظرون دومًا ضحكته العالية وتقافزه، ينتظرون تقديمه الطلبات لهم بخفة روحه وطيبته، أساتذة التسويق بالكلية، يتناولونه كحالة تسويقية جذابة، جاء ذكره في امتحانات السنة الماضية كحالة عملية، خرج الطلبة حينها يتناولون سندويتشاته، ويتسألون عمن أجاب ومن لم يجب سؤال المهرج.
وإن كان كل ما سبق لم يحقق له أي شعور بالتميز، أو الإنجاز، فقط شعر بالفشل، حين كان عائدًا ذات مساء، استدعاه أحد الجيران بتحيته بالمايكروفون:
“تحية لكوموندان المهرجين، الغالي، حبيب الكل”
كان الفرح منصوبًا أمام باب بيته مباشرة، وجد نفسه فوق المسرح مضطرًا، دفع مبلغ “النقوط” على سبيل المجاملة ورد التحية، ارتبك حين نظر للناس المتجمعين أسفل المسرح، مئات العيون تركز عليه في آن واحد، كل هذه العيون التي لم تكن تنتظر منه النقوط، شاف ذلك في عيونهم وتجاهله، لكنه حين هم بالنزول، اعترضه نبطشي الفرح بلباقة، أعلن عن بدء العرض، كان يتوقع منه الجميع المشاركة بحركة أو اثنتين تبهرهم، الرجل كاد يتصبب عرقًا بالرغم من برودة الجو، عرف أنه لا مفر، تعجب من نفسه، حين اكتشف أنه غير قادر بالفعل على شيء أكثر من التلويح بيديه، والتقافز الأبله بالهواء كمن يقف فوق صفيح ساخن، يومها ضحك، وراوغ متحايلًا على الموقف، حتى دخل بيته في سلام، ظل مهمومًا لوقت طويل، حتى تناسى الأمر تمامًا.
المهرج يبقى دومًا في الكافيتريا حتى يغادر جميع الطلبة، ويغادر العاملون، يشغل الراديو على إذاعة أغاني قديمة، يستمع في هدوء، مع كوب شاي بالنعناع، يجلس على كرسي، ويفرد ساقيه على آخر، يبقى متأملًا للسماء والنجوم طويلًا، حتى يبدو لمن يراه عن بعد، كتمثال من الحجارة، هكذا يبقى حتى يشعر بأنه صار وحيدًا تمامًا، يبقى قدر المستطاع مستمتعًا بشعوره هذا، وعند لحظة معينة، يركب دراجته، يناول الحرس سندويتشاتهم المجانية، نظير دخوله وخروجه دون التقيد بمواعيد.
في شقته لن تغادر وجهه الأصباغ، يسير محني الظهر، شاعرًا بعظامه متآكلة من إرهاق يوم عمل طويل، في شقته يسير حزينًا كما يليق بمهرج وحيد، يجلس في أحد أركان المطبخ شبه الخاوي، يأكل ما تيسر، وفي الصالة، يشاهد نشرة الأخبار، يدخل الغرفة الوحيدة، ينام على سريره الواسع، فيصدر أصواتًا عتيقة كلما تقلب عليه.
يستيقظ في الصباح، يعيد التأكيد على أصباغه، يتقافز أمام الأطفال بالحارة، ويغادر فوق دراجته، بوجه تعلوه الأصباغ الزاهية على أمل ألا تبهت أثناء النهار.
…………………
*قصة من مجموعة “تدريجياً وببطء” تصدر عن دار بتانة بالقاهرة 2017