فصل من رواية “فضاءات مدينة”

فضاءات مدينة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا صالح

قد عصفت العواصف؛

فلم تلبث غير برهة؛

وأرعدت الرعود

فما سطعت إلا طرفة عين

أما عرفت أنها فطرة الوجود..

وطبع الموجودات فى أنحاء السماوات والارض,

أما تجلت لناظريك منها  شواهد العجز عن الثبات؟

 

مرت الأيام فى التهجير متباطئة،تخاذلت لحظاتها و انكسرت ساعاتها؛  حتى أصاب الناس سهام اليأس المرير، لم تفلح ثورة الطلبة ولم يجدوا فائدة أو تغيرا يذكر؛ظلت الأوضاع راكدة كما هى،الكل هائم فى الضياع واللاجدوى؛ انقضى عام الضباب ولم يؤت ثماره المرجوة.

***

عقب وفاة الجد أبو اليسر عام 1972  التحق صادق بكلية الهندسة؛كانت بهجة أبيه غامرة، أترع قلبه بالفرح؛ وفى العام التالى مباشرة؛ نشبت  حرب اكتوبر؛ وتم العبور الذى  لم يكن يتوقعه أحد؛ أحس ماجد أبو اليسر أنه ولد من جديد، رأى شكلا آخر للدنيا من حوله؛اكتسى البشر والطيور والحيوانات و الحوائط والماء والهواء بطعم ولون جديدين؛ تغيرت صور الناس وازداد حبه واقباله عليهم، خرج من قوقعته اليومية؛ غادر محبسه الاختيارى التى كان مغلفا باليأس والاحباط؛ على الجملة تغيرت صور المرئيات من حوله؛ صار كالمحب الذى عثر على حبيبته فجأة بعد طول يأس وعذاب؛ ؛كما احس بطعم مغاير للحياة، كانما انتهى الى غير رجعة ذلك الطعم المرير الذى كان يحس به فى حلقه ويسم بدنه ويجعله ينهى طعامه بمجرد ازدراده لقمتين فقط يسد بهما رمقه، أداء واجب ليس إلا..

خرج الحاج ماجد من حجرته وهو يحمل الراديو فى يده، وقد توّرد ثغره بابتسامة عريضة..

ـ معقولة؟!عبرنا القنال؟

كانت كلمات الحاج ماجد تخرج من فمه ممزوجة بالسكر والعنبر، دار بالشقة قابضا بيده على الراديو الترانزيستور الذى تعود ألا يفارقه؛ ولج المطبخ حيث تقف أم صادق..

ـ ياأم صادق…

ـ نعم ياحاج؟

ـ خلاص الفرج قّرّب..

***

 أصابت شرارة اليأس أعدادا كبيرة من المهجرين، وساد الاعتقاد – عند البعض-  أن كلمة عام الضباب التى قالها السادات تعنى أنه ينوى التنصل من الحرب، لم  يتخيل معظم الأهالي أن عودتهم  إلى بلادهم وممتلكاتهم وأماكن طفولتهم وذكريات الصبا والشباب  ستكون- بتلك البساطة – أثناء حياتهم،  تجسد الحلم  عندما فوجئوا بالرجل؛ وقد اتخذ قرار حرب اكتوبر، تلاها بعد ذلك  مشاكل الثغرة ومحادثات الكيلو 101، ثم وقع قرارا بعودة المهجرين , وفتح قناة السويس للملاحة.

عقب انتهاء الحرب ؛ لم تكن الأحول ممهدة تماما للعودة والاستقرار بمدن القناة، بالرغم من المخاطر المحيطة، فقد حدث ما كان الاهالى يتمنون؛ نشرت الصحف بيانات عن قرب عودة المهجرين، من يومها لم تغادر الابتسامة وجه الحاج ماجد؛كثر تبادل الزيارات، وامتلأ البيت بالضيوف؛ واستعد الناس للرحيل.. ذلك القرار القيادى جعل أعدادا كبيرة من الناس يهرولون من أجل العودة؛ حبا فى المدينة وفى التاريخ؛ فى الصورالعالقة بمرآة الروح للميادين والأشياء الصغيرة والذكريات، للشوارع والطرقات… لهذه البانوراما التى كانت تمثل الحياة، الحياة التى تم انتزاعهم منها انتزاعا..

***

تعطش الأهالى للعودة الى بلادهم باية وسيلة؛ سارعوا الى اعتلاء السيارات و القطارات واللوريات والشاحنات، لتعود بهم مرة ثانية إلى بلادهم، مثلما خرجت بهم من ديارهم من قبل.

أعداد كبيرة اشرأبت أعناقها لقرارالعودة،  منهم من ترك خلفه ذكريات وأقارب وأحباب؛  كانت أرواحهم مترعة بالفرحة , قلوبهم حبلى بأحلام وآمال رائعة لاسترجاع الماضي، واستلهام الكيان المفقود، والعودة إلى الاستقرار؛ والرغبة فى استرداد ذلك الإحساس الفطرى  – عند الكثير- بالآدمية الضائعة. ومهما يكن من دمار رآه الناس بأعينهم و عاشوا لحظاته؛ إلا أنهم مازالوا  يذكرون جهادهم فى  تلك الأيام؛  كالتلميذ الذى لا ينس مثابرته على المذاكرة وتحصيل الدروس، يذكر ذلك بفرحة, رغم التعب والمجهود الذى بذله من أجل الحصول على الشهادة التى نالها، وان لم يكن متفوقا فيها.

مع إطلالة  البيوت  والشوارع والحواري والأزقة ؛ كانت تراودهم أحلام العودة إلى الصداقات , والتجارة، والمكاسب والأنشطة القديمة؛ أعداد كبيرة من الصيادين اشتعل حنينهم إلى ذكريات العمل والغياب لأيام وأسابيع فى البحر.

قامت الدولة   بتوفير خطوط مواصلات مجانية  لعودة المهجرين  ؛  عاد معظمهم – حاملين معهم ما تيسر من العفش –   إلى مدينتهم الغالية؛ فرحين مهللين، مما أزاح نهائيا موضوع  الاستعانة ببيوت الخبرة الأجنبية عن كاهل الدولة..  آخرون ارتبطوا بأماكن هجرتهم بعد أن تزوجوا واستقروا فى أعمالهم؛ كما ارتبط أبناؤهم بأماكن الدراسة…

عادت عائلة  أبو اليسر- ضمن من عادوا – كان الأب  ماجد أبو اليسر دائما يحكى لأبنائه ليعرفوا؛ أن هذه الهجرة التى عادوا منها لم تكن هى الأولى، فقد سبق أن  هاجروا من قبل، كانت المرة الأولى أيام حرب هتلر كما حكى لهم، أيام الشباب والفرحة كما يقول..

 

***

 تقابل الحاج ماجد مع جاره الريس جمال بحي الأربعين، وقف الرجلان سويا؛ كانا يمزجان أحلام المستقبل، بذكريات التهجير المتضاربة؛ لعبت المعاناة فيها دورا أصيلا اختلفت درجاته باختلاف حظوظهم، البعض كان يعانى أشد المعاناه؛ معظمهم ممن لا يملكون وظيفة حكومية أو يعمل فى شركة من شركات القطاع العام، وقعت أعداد كبيرة فى بئر الإهمال ولم يسأل عنهم أحد،، قال ماجد أبو اليسر :

ـ شيء عجيب يا ريس جمال؛ أنا حتى الآن غير مصدق أننا رجعنا بلدنا بعد غيبة حوالى سبع سنين !

قال الريس جمال  :

– سبع سنين عجاف ياحاج!

تنهد الحاج ماجد  قائلا :

– ودين النبى؛ السادات رجل ممتاز.. أنا  أحبه من زمان..  لله فى لله  !

  رد الريس جمال :                                            

–    ومن سمعك ياحاج… حرب 73 كانت مفاجأة للكل !

–   كنا يأسنا من دخول حرب؛ ولكن بعد ما تأكدنا انها حقيقة، تغيرت أحوالنا، وبدأنا نتحرك..

قال الريس جمال بثقة :

    –   السنه دى  75؛ والجرايد   بتتكلم  عن الاستعانة ببيت من بيوت  الخبرة الأجنبية فى تخطيط المدن وإعادة تعميرها، عشان مدن القناة.

    –   الريس  تكلم عن الموضوع ده فى الخطبة، ودار الكلام  عن  الاستعانة ببيت  الخبرة الإنجليزي، و بيت الخبرة الفرنساوى، ويا ترى نختار أى العروض  إذا  طرحت مصر مسألة الإعمار على شركات أوربية عملاقة !

   –    وطبعا بيوت الخبرة كانت حتمسح  الخريطة القديمة بشوارعها الضيقة   بالطول والعرض, وتبنى مكانها مدينة جديدة على مستوى عال..لكن  باين إننا كنا بنحلم.

قال الحاج ماجد :

–  مالناش حظ فى  الأحلام..

–   الميزانية  كانت تعبانة ياحاج  بعد الحرب

–   أحلام كتيرة وقفت محلك سر !

تساءل الريس جمال:

–  كنت فى المدينة  يا حاج أثناء التعمير؟

تغير وجه الحاج؛ كأنما لدغته حشرة, وقال:

–  طبعا، أسيب مالى لمين؟ البيت والفرن كانوا محتاجين للتعمير.

–   وعملت إيه يا حاج ماجد؟

 –   أنا كنت هنا أثناء التعمير عشان البيت , وكنت أجمع الصنايعية  من على القهاوى، وأجيبهم معايا لأجل الترميم.

 –   العملية كانت سهله؟

 –  كنت ادفع للعمال عشان تقبل تيجى معايا،  فترة التعمير كانت  الناس كلها عاوزه تنهى مصالحها بأى وسيله؛  اللى عنده ترميم أو اللى عنده إزالة، لازم تأّكل الصنايعية والمقاولين، الكل لابد يأكل، يعنى لو لم تدفع لا أحد يسأل عنك !!

ابتسم الريس جمال قائلا :

– كان فيه بيزنس وقت التعمير يا حاج؟

–     على أصوله يا جمال، خد عندك؛ الردم بتاع البيوت المضروبة؛التريللة تعمل عشر نقلات والمقاول يكتبهم عشرين،أنا كنت أصلى العشاء؛  وأرجع البيت أقفل الباب بالجنزير وأطلع آكل لقمة وأنام، بعد صلاة  الفجر كنت أخرج اجمع العمال؛ استمريت وحدى على هذا الحال أكثر من شهرين , اللى عايز طلبه يخلص لابد يدفع ويجرى وراه…وأوقات كثيرة كان النور والمياه مقطوعة، أحيانا أحس بالخوف والرهبة لكن المصحف دايما كان فى يدى؛ كنت أفتح الشباك وأقرأ القرآن بصوت عالى , تحملت الكثير علشان أنهى المهمة.

–          البيت كان فيه إيه يا حاج ؟

–          نزلت عليه دانة من السقف، والحمد لله السقف انفتحت فيه طاقة؛ والبلكونة وقعت، لكن الدانة نزلت الاودة بتاعة الحاجة..

–          حصل حاجة فى الأودة؟

–          تصدق بالله؛ ربك كريم، شماعة الهدوم انكسرت وخشب الدولاب اتفشخ، وطارت أبوابه، بصيت على الأرض لقيت يد الهون اتلوت زى الملبن.. ومع ذلك الدانة نزلت سليمة عالأرض.

–          وبعدين؟

–          ولا قبلين؛  بلغنا سلاح المهندسين ,  أخدوا الدانة كما هى بعد ما بطلوا مفعولها.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون