قروش وليالٍ

خالد الشرابي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد الشرابي

مثل كل حارة، في بطن الجيزة، في جنوبها.. كانت حارة المنشية.. ترميها شمس الصباح بإبتسامة دفء، ونور يفتح أبواب البيوت المتراصة كقطع الدومينو، تحضن بعضها وتلفها حكايات كل يوم. وفي وسط الحارة مقهي.. يستقبل عمالاً وصنايعية يتحسسون مفاتيح الرزق.. بوجوه مشققة لا تميز فرحها من حزنها، مستعينين علي الشقاء بالله.

وأول صباحهم كرات ساخنة من الطعمية وخبز ملتهبة أنفاسه رائحته كالشمس، وأعواد ندِّية من الجرجير.. والشاي ثم التعميرة، كرسي دخان ينفثون به هم مكتوم ورجاء خجل. وصوت راديو مغلوشاً بالنوم يذيع أخبار اليوم وكأن اليوم غير الأمس.

والوجوه واحدة.. والحارات تزداد ضيقاً.. والبيوت منشعة بعرق الزحام..

زعيق هو الزعيق، وجهير بائعي السوق كأي جهير.. والسكان رجال ونساء وأطفال وشيوخ.. أناس كالأناس.. ودائماً ما تمتاز حارة عن شقيقتها بطفرة أو شائعة وربما خرافة يطلقها دجال يشكو عزوف الزبائن عنه.

وأحيانا عراك لا يحرك من رتابتها شيء.. وحارة المنشية طفرت عن غيرها بشيء رأته عجيبا. أصبح مضرب كل الحكايات.. يتهامسون به، ويزحزحون مللهم الذي لا يبرح مكانه.. يتجرعونه كالنبيذ.

هذا الشيء العجيب اعتبروه نادرة لم تحدث من قبل.. إمرأة، المفروض أنها إمرأة، تسكن مع زوجها وطفلها، وكانت النادرة أم إسماعيل.

والثلاثة يسكنون حجرة من طوب لا يزال نيئا.. يغطيه جير كان أبيض، معروشة بالقش، يصنع سقفا كسماء تحجب المجهول، ومن السقف تتدلي كرة زجاجية منقوطة بأثر الذباب، تحتفظ بضوء بسيط ما يجعلها مصباحاً، تبدو كعين عمصاء بالكاد تري سكان الحجرة.

كأن عينا مدسوسة في تلك المصباح وكأنها تدّعي العَمي، ترقب كل همسة وفي صمت تسجل، ينام سكان الحجرة، وتلك العين لا تنام.

وكأن الحطآن قد تكحل جيرها بشبح يبسط عليها جلده الأسمر.

والحجرة لها شباك، بتراكم الطين قد أصبح باباً.. وباب بهبوط الأرض أصبح مدخلا لخندق.. وكأن الحجرة مشروع مقبرة واسعة أركانها.. أحياء يقطنوها كالأموات، في النهار يتحركون، يهسهسون، يعيشون نصف حياة، وفي الليل ينامون نصف موتة، مغلق عليهم بابهم ذو الخشب الغليظ، موصد، كأنه لا يريد لسكان تلك الحجرة أن يسمعوا صوتاً للدنيا.. تلك الدنيا التي لن يعيشوها أبداً.

والحجرة من ثلاثة: أم إسماعيل، شابة سمراء، نحيلة، يستوي نهديها مع عظام صدرها، وأردافها كالصبي، تستوي مع ساقيها، وجهها مثله بلا ملامح أي إمرأة، فوق شفتيها خط أسمر مثله، عيناها دقيقتان، ثقبان يطلان من وجه فكه بارز، ووجنتاها ككرتين مثبتتين في وجهها، وفمها لا بداية له ولا نهاية، خط عريض منفرج بشفتيها الغامقتين، يفصل بين الأنف والذقن. صوتها رفيع، ولهجتها بهتت بأصل جنوبي. تتغير الفصول ولا تغير جلبابها الرث، كأنها سقطت به في قيح، وتحت الجلباب بنطال بذات اللون، وكأنها تستعيره من زوجها العجوز، فجلبابه جلبابها، وبنطاله بنطالها، وكلسونه كلسونها، لا يميزها عنه إلا غطاء بهت إخضراره، تقصب به رأسها، ويستر شعرها الأكرت الفاحم.

ودائما ما يتربع زوجها أمام باب حجرتهم ومثلث جلبابه الذي نسل خيطه، دائما مفتوح، ومنه يطل شعر أبيض مهوش، كرأسه، يترقب بعينيه ذي النصف غمضة كل ما ظهر وبطن في الحارة، وكأن جفنيهما يطبقان علي مؤامرة يدبرها بقبضة شفتيه علي سيجارة لا ينقطع دخانها. وكأنه يرقب إبنه إسماعيل الطفل، وهو يتعلم قيادة دراجته الصدأة، فيسقط أرضاً ولا يرفعه، يكفأ علي وجهه ولا يمسحه.. تنغرز نظارته التي يتفرد بها بزجاج سميك كقعر الأكواب، وما علي أبيه إلا أن يزعق فيه فلو انكسرت نظارته أقسم بألا يصلحها، ولولاها ما رأي شيئاً. وجلباب إسماعيل يبدو وكأنه مصنوع من قماش زاد عن حاجة جلباب أمه وأبيه. وملامحه لم تشبه أمه ولا أبيه، ولم يأخذ منهما إلا قماش جلبابه المضحك. وكأنه يتيم وتبنوه، أو شريد وضموه إلي كنفهم. هكذا ظن أهل الحارة. فكيف لشابة أن تنجب من عجوز مثله؟ أو كيف لأم إسماعيل أن تنجب أصلا؟!.

الحارة كلها عيون، في المقهي عيون، علي الرزق تتلفت، وخلف النوافذ عيون تتلصص.. عيون تدبر، وعيون تسرق، وخلف الجدران عيون تبكي.. وعيون تتجسس. والعيون تسير، في الحارة تسير.. عيون غامت بالحزن، وعيون لمعَّها الفرح، وعيون جائعة، وعيون تصطاد رغائبها، وعيون لا تري، أو لا تريد أن تري.. عيون هاربة، مسافرة، عيون صادقة، وعيون لا تري إلا بالكذب.. عيون تفضح كل مستور، وعيون تستر كل مفضوح، عيون باهتة، وعيون لا تميز للكون ألواناً.. وعلي الأرصفة، عيون تدعو، تصلي، تخشع، علي مد البصر لابد أن الجنة الموعودة آتية. وعيون تفيض حباً.. وعيون تسيل الكراهية مع مائها.. وكل العيون اتفقت.. كل تلك العيون سخرت واستنكرت.. حتي أكواب المقهي التي زجاجها مثل نظارة إسماعيل تري.. وكل العيون لم ترَ أم إسماعيل إلا رجلاً يتخفي في هيئة إمرأة!.

والعيون كلها مصوبة نحو أم إسماعيل، فوجودها يزيح همهم، ويفرج شفاهم بالضحك، نادرتها، ترطب نهارهم القائظ، وتضيء لياليهم الحلكاء.. يملأون رءوسهم الفارغة بقصص نسجها خيالهم عنها. نسبوها لبلاد الغجر ولم تكن منهم، وسنُّوها بالأربعين وكانت شابة، اتهموها بخاطفة الأطفال، وجنسَّوها ذكراً تحول إلى ما يشبه الأنثى.

والناس دائماً حريصون علي ألا ينكشف خواؤهم، فيطلقون ظنوناً وأوهاماً تنقذ بنيانهم المقوض. يرفعون بها شأن من يخشوه، ويطأون بأقدامهم من تسرّب إليهم ضعفه.

وأم إسماعيل لا تنزل عن أهل الحارة في شيء. ربما من ينعتها أفقر منها وأقبح، وربما كان إبن حرام ألصق في إسمه لقباً يستره. في حارتها من هو أدني منها وأنحل. يفتلون عضلات أسمالهم البالية من إزدرائها. يلعنونها سراً وهمساً وأحياناً جهراً. يبررون فقرهم وقلة حيلتهم بأن وجهها شؤم، لا يصطبح به من يبتغي رزقاً وفضلاً. إذا مرض فلان، أو مات عِلاَّن، إذا سُجِن مجرم منهم، فلابد أنه رأي وجهها المُنكَر. ورغم ذلك كثيراً ما كانوا وسطاء حتي لا تجليهم صاحبة الحجرة إذا تعثروا في إيجار شهر ما. فهم لا يريدون أن تحل عنهم أضحكوتهم. لا يمكن أن ترحل. لا يمكن أن تسقط شمَّاعة خيباتهم.

أم إسماعيل.. كانت تحب كل جميل، تسقي ورودها.. وبعطرها الجنوبي تتنفس حجرتها..بالأغاني تدندن.. وموسيقي زمان تحييها.. تعيش شبابها الذي وحدها تؤمن به. سنوات عمرها دون الثلاثين.. والحارة تقول فوق الأربعين.. يقولون ما يعيدون.. فعيناها تعشقان كل جميل، مرآتها قلبها، وقلبها وسيم، فالقمر الذي نغني له فوقه خراب وجفاف. أما وجهها فيشرق بضحكة أخفّ من وزنها، وفمها يُعسِّل الكلام.. وما كان أحد يري قلبها الذي يتسع للدنيا وما فيها.

تُضفِّر بنات حارتها، وفي الأفراح تزين العروس، وعلي كفيها بالحناء ترسم، والحاجب ما أبرعها عندما تنمصه، وأحمر الشفاه ما أوقرها عندما تحدده، بالكحل تجعل لعينن العروس عيوناً. وبزغرودة صافية تلفها وهي في فستانها الأبيض.فكل عروس كانت هي.. العروس الذي دُفِن في أحضان عجوز، شعرها شائب يوخزها كالإبر.

وفي الشدة كانت شجرة تضم بلابلها الحزينة. ووثباتها.. ما أجمل وثباتها.. طفل إذا غضب أو فرح.. طفل عندما يتعارك.. تعيش بطفل الذي لا زال بداخلها.

ورغم سهام نظراتهم المسمومة، كانت تشمل الحارة بعطفها، تبادر أهلها بالحب، وهي في أمسّ الحاجة للعطف والحب، ولا تلقي إلا هزلاً وسخرية مُرّة، تزدردها بريقٍ علقم، ودائماً ما لديها هوس، فالنظرة ستكون عليها، الإيماءة عليها، الكلمة عليها، مثل السكين تذبحها،تفتلها، علي قدر ما تستطيع تخلق لنفسها متعة الحياة، والمتعة تقابلها جلدة نظرات تسوط جلدها الذي بالكاد يخفي عظامها. كانت حياتها نصفين هيئة مُنكَرة تجلب لها الكلام، وروح صافية تهيم بالحياة.

وما عليها إلا أن تتحدي ظنهم بسراويل مزركشة، علي حبلها تنشرها، وسوتيانات كالقباب فاقع ألوانها، حمراء وخضراء وصفراء، تثير النظر وتفقأ بها عيونهم التي تنكر أنوثتها. والسخرية تواجهها بالحيلة. ورغم ذلك فعيونهم لا يملؤها إلا التراب، فدائماً مصوبة نحو نافذة جارتها الحسناء تهبط أعينهم وتصعد مع نهدها المتقافز كالفهد، حتي ولو على أحبالها نشرت جورباً واحداً لا لون له، يهجر نظرهم حبل أم إسماعيل المشخلع، ويتحسرون علي فراغ حبل جارتها ذات الجمال الفج. أما أم إسماعيل، فملابسها الرثة تصنع نهدها، نهد من قماش يتكوم عند صدرها. تشحذ أنوثتها فحيلتها عاجزة.

لا تتحرج وهي علي أغاني متقال ترقص بجريدها، وكأنها الحلوة، وكأنها تحمل البلاص، ولا تتحرج إذا تحلقت جارهم الصُّرَمَاتي علي دراجته البخارية، وتصلب ذراعيها كجناحي طير ينطلق، فتتحرر من همها الثقيل. حتي زوجها لم يكن ليغار عليها، أو تتحرك رجولته، وشفتاه ما زالتا مضمومتين علي سيجارة لا تنطفيء نارها. لا يلقي بالاً لشيء إلا إذا تأخر إفطار أو غداء أو عشاء. لا يحرك ساكنه إلا ليأكل أو نفدت سجائره فيشتري غيرها، أو يقود حمار عربتهم الكارو، تحمل أقفاصاً، قطعت جريدها أم إسماعيل، وشكلتها أقفاصاً مستطيلة، تبيعها لتقيم أودهم. تعمل ليل نهار وعجوزها قعيد، ما يعزيه أنه رجل يثبت، وحده من يثبت، أنها إمرأة ينكرون جنسها.وإلا لماذا تتزوج الشابة من عجوز مثله؟!.

صحيح كان معها يلهث، يتصبب منه عرقٌ رائحته كأي شيء يحترق، يواري إخفاقه بأقذع الألفاظ، يرتعش كضوء مصباحهم، تمر عليه الثانية كالساعة، وسعال خشن يجرح صدره، يخدره مخاطٌ يبصقه، ويرتدي جلبابه المهتريء ويمضي بسيجارته. وهي طريحة، عطشي، تمد لسان رغبتها، لعلها تلتقط قطرة ماء واحدة ترويها، كان عجولاً معها، صبوراً مع سيجارته، ومنه نظرة مضمومة تدعوها أن تحمد الله أنها كانت في حضن رجل، أي رجل يجعلها إمرأة. فظله المرتعش أبرك من ظل الحائط.

وبعد اللقاء عَشاؤه، وقبله الغداء، وفي الصباح سعاله كان المنبه فتهم بإفطاره، وتعود إلي جريدها، فتشققه، فأقفاص تتراكم، وغروب، وهم يتصاعد، فليلة تتكرر، رغبة، ولهاث. والنهار يتكرر، وبدخان زوجها يتعفر، وينتظر طعامه، لا يطلبه، تأتي به كمقابل أي شيء تبتاعه، بالصمت العارف تطعمه، وبصمته الراضي يأكل، لم تحبه ولا تكرهه، حتي حوار الأزواج لا يدور بينهم، لا مناغشة، ولا مداعبة، ولا مناكفة، وما كانت تنتظر منه إلا وجوده، وما كان ينتظر منها إلا طعامها وراحة ترحم شيخوخته، كأنه أجير، حددت له دور واحد، حتي وجهه كان كالتمثال، ينظر وكأنه لا يري، خيال مآتة لا دور له إلا هيئته التي تنذر أو تقول أنه رجل يعول إمرأة. وما كان ينذر وعلي مضض يحسبونها إمرأة. وقبل أن يتزوجها شيخوخته فكرت، وبقايا رجولته أغرت، خيرٌ من عدمها، أمها ألحّت، وبالإحتياج رضخت، يده بطالة؟ ولكنه رجل، عجوز؟ ولو كان عظاما  فى قفة، فهو الرجل الذي  يسترها ويحسبها في عداد النساء، اللاتي يتزوجن، ويلدن. لا يهم بمن يتزوجن. فمثلها لهن بيوت مفتوحة، وبصفقة وسيطها صمتٌ جبان، منه تزوجت.

لا يملك من حطام الدنيا إلا لفافة، عامرة بقروش من الحشيش، يدخرها، وكل ليلة يحصي قروشه، فيطمئن لعددها، وينام قريراً. وبفضول النساء تسأله أم إسماعيل عن المال الذي اشتراها بها، فكان جوابه الصمت المتشاغل بشيء، ويواري محتواها، وإذا ألحفت عليه، فالزمن جاد عليه بها، فكان رحّالا، ذاق مرارة الشقاء، ولا مانع بأجر يوم يشتري قرشاً، وبسنوات عمره القرش صار لفافة. والعلّة كان يتذوقها مُّرَّة، وينطقها بأسي يتحسر علي شباب ذهب ومضي.

ورفيقه عطية الشاب، كان سمساراً، وأبو إسماعيل عينه التي تلتقط غريباً يبحث عن سكن يأويه، وأذنه التي تتسمع متعثراً لابد أن يبيع عقاره ليفي بدين ثقيل، وكان يعرف الزبون من حذائه إن كان موظفاً أو طالباً. وعطية يستثمر إضطرار الغريب والمتعثر، ويقبض من البائع فلولاه ما تمت بيعته ومن المشتري فلولاه ما فلح في إقناع البائع الذي دائما خاسر. ويمنّ علي أبو إسماعيل بحسنة قليلة لاعناً بخل البائع والمشتري والحظ الذي جعله سمساراً.

وعطية يحضر كل ليلة في حجرة أبو إسماعيل، بهيئته الضخمة وصدره العريض، يُلمِّع المصباح خصلات شعره الصفراء، وشارب يطفح رجولة يُغار منها الرجال، ووجه تتسرب فيه حمرة صنعتها شمس النهار، تلهب قلوب النساء.

والباب يصرخ بطرقات آمرة ناهية تنده أبو إسماعيل بصوت واثق لا يهتز، يوقظ دبيب قلب أم إسماعيل، فالطارق حبيب، علي الباب تهرول، وعلي مهل المترقب للمفاجأة تفتح، يتشبع نظرها بمرأي عطية. والليلة تبدأ ودخان يتضور، والحجرة تعبأ برائحة حشيش، ولابد من نظرة ترميها أم إسماعيل بإثم، ومن وراء حجاب الدخان، خيال حرام، وأمنية حرام، ورغبة حرام، وألف عذر تؤلفه، لم تختر ولم تعش.. وما هو الحرام؟ بختها المائل وفقرها وشبابها المدفون وقبحها، كل حوقلة من عيون الحارة سهم ينغرز في قلبها، سخريتهم التي تُدميها.. أليس كل ذلك الحرام الذي لا يحرمه أحد؟

نشوتها التي ثبطها هذا العجوز بالعادة، تُقبّلها العادة، وتحضنها العادة، ويرتق جسدها وزوجها بالعادة، وتلجها العادة، ورغائبها تُسِّيلها العادة، والعادة تلهث وتسعل، وكثيراً ما ترخو وتلين وتطري، فيذهب كل ما بداخلها بالعادة. وما أسوأ العادة التي لا تتركنا ولا نجرؤ أن نتركها. وما أقسي أن تعتاد الشيء فيملكك ولا تملكه، لا يبرحك ولا تبرحه. ويستر الدخان فضيحتها، وعطية يقهقه، قاطعاً أحبال خواطرها، ويغني بصوته المليح، والكلام يحلو، وأبو إسماعيل يخشخش صدره كالحصالة، يلهج سيجارته بأنفاس متقطعة. وأم إسماعيل سأمت كل عادة، إلا عطية وهو يهل ذات كل ليلة، فتتحسس جسده بنظرة عطشي، تلعقه، تتشمم عطره الفائح برائحة الشباب التي حرمت من عالمهم الخلاب. وما عليها إلا أن تحبس شغفها، فأبو إسماعيل زينة الرجال.. أمها قالت.. سترها وغطاها.. أمها أقنعت.. طالما زعقت وعنفت وطردت وسواس الطلاق منه، هو من جعلها إمرأة.. بهذا أهل الحارة يُنكِّتُون.. وبهذا ترضخ، ويقنع عقلها، أما قلبها لا تملكه، مسكون بعطية ولا حيلة لها. تستعيذ بالله وتلعن الشيطان الذي يحل كل ليلة متأبطاً عطية.

ومع شمس كل صباح، تتبخر أهازيج ليلتها، ولابد أن تفتتح يوم الحارة صرير عجلات عربتهم الكارو، وطين الطريق يطبطب عليها، وأبو إسماعيل يسوق بصبر وهيام، ويلكز حماره لكزة إعتياد، وينساق حماره أيضا بإعتياد، وهسيس أقدام تتحرك، وماكينات علي مهل تدور، وأمهات يستعجلن أبنائهن علي مدارسهم، وتثاؤب يتحرر من ربضة نوم لم يكتمل، وأبواب دكاكين تُفتَح، وماء لابد أن يُرَّش، فينام غبار الطريق، ووعاء كلام ينفتح، وبائع برسيم يبشر أبواب البيوت بيوم أخضر كأعواده، برائحة الخير، وصباحات متكررة، وسلامات تُبيِّض نهارهم، وإسماعيل يسحب دراجته الصدأة إلا من أشرطتها المتطايرة مع نسمات الصباح. وفي الظهيرة يدقق نظره الضعيف فيجمع أغطية الساقع، فيصنع منها نقودا معدنية يتنطَّع بها علي بقال ناصية حارتهم، حتي يلقي له قطعة حلوي لن يشتريها أحد، فيحل عنه.

ويعود أبو إسماعيل بنقود حقيقية يلقيها في حِجر زوجته، فقد باع أقفاصها حتي جفَّ ريقه، فحلاوته ساقع يرمي غطاءه ليصبح نقود إسماعيل في الغد.

وما إن يلتهم مشروبه، فأم إسماعيل قد انتهت من صنع أقفاصها الجديدة، فيجاهد ويزوم، ليشد عربته الكارو، ويصيح في حماره إذا تلكأ ولا يطاوعه. وبغثيان يجاهده، يرص معها الأقفاص لينظمها، فلا تنتظم، حتي يهرول عطية لينسقها علي أتم ما يكون، يرتفع صدره وينخفض بشباب عفي وصحة موفورة، وعضلاته مكتنزة باللحم الذي يغري النساء. وتناول عطية القفص تلو الآخر، فتتلامس يداهما دون قصد، ثم لمسة بالعمد، ونظرة يصمت معها كل شيء.

وما كانت تصنع الأقفاص إلا ليأتي عطية فتناولها له، فيتكرر التلامس، فاللمسة، ونظرة لا يسترها دخان الليل ولا غبار النهار، وذات الشيء يصمت. هذا الشيء الذي يخنق الكلام، هذا الشيء الذي ينبت داخل زوجها لا تجرؤ نفسه حتي أن تسميه شكاً. وما أكثر الأشياء التي تسكن بداخلنا ولا نجرؤ أن نحرك سكونها، وتلازمنا كرائحتنا، بل نجاهد لنحبسها علي مجهلها. وحمارهم ينهق نهيقاً يستنكر ويفضح، فتهدهده أم إسماعيل فتنقذ المستور. وأبو إسماعيل يغمره غضب لا يعرف أحد ما الذي أغضبه. هو نفسه لا يعرف. فيبصق علي حماره ويركله، فهو من تلكأ، وبعثر أقفاصه، هو من جعل عطية يأتي، فيُحمّله جميلا سيبادله بليلة ثملة، وهو من أشغل باله بهاجس لا يعرف أن يسميه أو يبوح به أو يواجه به نفسه قبل زوجته. وحماره يركل الأرض، فتُسفَع أعينهم بذرات التراب.

هذا الصباح بالذات لم يكن كأي صباح، غاص أبو إسماعيل في نومه، خرس صدره، الوقت جاوز الظهر، لا رائحة دخانه تفوح، ولا مخاط يجاهد ليبصقه، وفي العصر ململت أم إسماعيل جسده لعله يصحو، وبصرخة أسكتت كل ضجيج الحارة، صرخة تعلن موت كل شيء، موت الدليل الوحيد علي أنها إمرأة. وفي المساء كان عزاء أبو إسماعيل.

والعزاء أقيم بمقاعد خالية إلا من بضعة رجال، مشيعي الجنازة، عطية أولهم من حضر وآخرهم قد ذهب، ونسوة شاركن أم إسماعيل في الولولة وشق الجيوب، كأنهن حضرن ليؤدين دوراً مأجوراً.. والنساء عزائهن ثرثرة ونحيب وتاريخ أموات، وأساطير قبور لابد أن تُقَصّ. ومقريء يميل ويحزق بتلاوة نفسها ناعسة مكررة، وصوت غليظ كوريده الذي علي وشك أن ينفجر بآيات ترهيب ووعيد. والحضور يستحضرون حزناً لا يلبث حتي يخون ملامحهم.. وحزن أم إسماعيل كحزن المقاعد الخالية، لا يجلس عليها إلا الضوء المتراقص بلا خجل، وإبنها تحت جناحيها كأنها تحوشه عن الموت.

وأهل الحارة لا يكفون، يتسائلون لماذا لم يأت أهل الميت؟ ومن أي بلد طوحتهم عليهم؟ والحزن لا يعرف بلد المحزون.

الأرض مرقطة بأعقاب سجائر انتهي عمرها كصاحبها، قد جف مخاطه، وانقشعت سحائب دخانه، وكل حي سيذهب لحاله، والمقاعد تتكوم فوق بعضها، والمقريء ينال أجرته، والحزن ينفرد بصاحبته ويجثم عليها.

أصبحت الحجرة عارية من كل شيء، إلا عويل إسماعيل، وحقيقة تدغدغ بال أمه، وبرد يزحف بالنذير، ومصباح يطل بوجهه الغريب، تصبح الحقيقة منزوعة الرداء، لقد صارت أم إسماعيل بلا رجل. وكانت تعلم أن المجهول ينتظرها وإبنها، وكأنه يختبئ بين أعواد البوص التي تصنع سقف حجرتهم، فما كانت تريد لتلك الليلة أن تمر، لا تريد أن يطلع عليهم هذا الصباح الجديد، لا تريد أن تجرب لحظة واحدة دون الرجل، ودون السند، فالعيون ستتسع أكثر، والهمس سيصبح جهراً، والإيماءة ستكبر، لن تري إلا وحوشاً تفتح أفواهها الجائعة. ستقابلها رذائل حارتها، لن تغادرها ضحكاتهم السمجاء، ضحكات تعيش علي عذاب الآخرين، ضحكتها الصافية التي لا يطيقها شرهم لن تعود، ودمعتها لا أحد يراها. لا أحد. سوي الليل وإسماعيل. أكان كل هذا الحزن علي زوجها؟ حزنها أعمق من ذلك، حزنها كدخان الليل مجهول منبته. تراه بملء عينيها، تشم رائحته ولا تستطيع أن تقبض عليه. وما عليها إلا أن ترحب بحزن كبير يضم في عبائته أحزانها الصغيرة.

أرملة تبيت ليلتها الأولي، وكل ليلة تشبه أختها، وأولها تنام علي حصير لأول مرة تجده ناشفاً، ومواء كالقطة، ونهنهة تخنقها فلعلها تفزع إسماعيل من مرقده يطلب كوباً من الماء كان يحضرها له أبيه، فقبلة حانية منها ترد له النوم، وبكاء إمرأة تبكي الرجل، وإسماعيل يصحو ببكاء طفل يبكي الأب، سيلعب في الغد مع صبية الحارة ولكنه ليس مثلهم، سيكون بلا أب يتبع نظره كل قفزة يقفزها، ويهرب إلي حضنه وقت الملاذ. 

ما كان يحلو لها القعاد إلا حين تفرغ الحارة أحشاءها، من ناسها وروادها وزعيقها، وعلي الأخص العيون، وما أقسي تلك العيون، فالليل رواقها، تتسع حدقتها فتري الأشياء كما تحب أن تراها، لا تعكرها نظرة ونفسها مبرأة.

وأول ما يناغشها الخطر، توصد بابها.

والليل أول مرة تحسه طويلاً.

وسكوت لا ينتهي، عدا صنبور تالف يسرب قطرات ماء تهدد سامعها، سقوطها يتأخر فينة ويتعجل فينة أخري، وأحيانا تسكت، وأحيانا تندفع وكثيرا ما يكتمها شيء غامض يكتم صوتها الذي يثقب الدماغ، وكأن شبح حجرتهم يغتسل تحته، والباب يدق، دقات تتخفَّي، بين كل دقة والأخري ألف هاجس يُولَد، تهجع أم إسماعيل من مرقدها وتلتقط إبنها في حضنها، تحميه أم تحتمي به؟ أليست هي الأم وهو الإبن؟ ما حلَّ بها؟ كم ودت أن تغمض عينيها فتراه شاباً فرجلاً يزيح عنها هم لا يزول. لكنه لا زال طفلاً تذعره الدقات، وتكتم أنفاسها، لعل الطارق يذوب مع آخر دقة، وعويل إسماعيل يُنطِق الدقات، فعطية نداؤه يريد أن يطمئنهم ولا يريد أن تلتقطه أذن. يبدو لها متأيفاً في جلباب بياضه كالحليب، كان ظاهره مواساة، ومروءة يطلقها بالمجان، ويحلف مائة يمين أن إسماعيل إبنه، وأن المرحوم لم يمت، فعطية موجود، ورقبته تسد، ومن يرشهم بالماء فمن واجبه أن يرشهم بالدم، ومن يتعرض لهم فعلي نفسه يقول يا رحمن يا رحيم. وأم إسماعيل تلمح شيئاً ولا تستطيع أن تفسر كينونته، فالشكر والثناء يقفل حوارهما. وعطية تسلله لا يطمئن. وإن جاء الأمر بالأصول هي إمرأة ولا يقبل عليها رجل في أنصاف الليل.

والمرأة ينكسر ظهرها إذا رحل زوجها، أول الأمر فقدان، ثم وحدة ثقيلة، ومسؤوليات تُجدّ، فشعور لا تحس به إلا إمرأة، شعور تخجل منه المرأة وزوجها لا زال لحمه دافئا في قبره. فالاحتياج تشتعل ناره.

والليل طويل.

ستاره يخفي جسداً مهجوراً، كالأرض البور، تموج بأعطاف حصيرتها، وشوقها أكَّال.

والليل ستَّار.

تحتضن جلباب زوجها، تتشمم رائحة عرقه، نفس الشيء الذي يحترق، ولكنه عرق رجل، تدور بجسدها لعلها تعثر علي قلامة ظفره، تدفن جلبابه في صدرها، وعلي صدرها تضغط، والجلباب لا يحس، وبنشوة كاذبة بكل شيء تحس.

وبالاعتياد، تنعي الرجل فالسند فالزوج، وتذوب الذكري، والماضي لابد أن يرحل، وحوادث كل يوم يتجدد شبابها. ونحن أولاد اليوم، والحي دائماً أبقي من الميت.

يصحو خيالها بعطية، وماضيها كان عجوزاً جداً، وحاضرها شباب يعيش بحبها لعطية.

أن تُحَب وتُعشَق؟ أن تتحول لذكر أيسر لها.

كل ليلة يأتي عطية، والإنتظار الجميل يعطر حجرتها، ويُليِّف جسمها، ويسرح شعرها، وجلبابها الأسود قد صار موَّرداً زاهياً، وعينيها تتلألأ بماء الفرح، وعطية دقاته لا زالت تتخفي، وفي جلبابه يتدثر، ورقبته سدادة، والماء بالدم، ويكرر أيمانه، والظاهر داخله باطن تُجَنّ أم إسماعيل وتعرفه. وفضول النساء لا يشغله إنتظار أو لهفة، دائما يقظان. لماذا يتردد عليها؟ والمرة غير كل المرات، فمزاجه يفضحه، وسؤاله بالذات عن اللفافة قد أزاح كل غيمة، وشكواه من قلة الزبائن من بعد المرحوم، الذي ماتت معه عينه وأذنه، فلا غريب ولا متعثر كان يجلبهما زوجها، وأم إسماعيل يلمظ فهمها. مات أبو إسماعيل ولم تمت لفافته، ولم ينس عطية امتلائها عن آخرها، والفرصة قد أتت.

تلك اللفافة، كانت نبوت زوجها، عضلاته التي تنقذ شيخوخته أمام عطية، قوته التي خارت مع الزمن، أحيتها اللفافة، الرداء الذي كان يتلفع به ليزيح عنه أي شر، بل يتقرب من الشر نفسه، بقروشها نال زوجها حضرة عطية، وبقروشها يؤكد أنه معلم حارة قديم، ودوام الحال من المحال، وليت الزمن يعود، وباللفافة عاد معلما كبيرا، وكأنه عاد. فقط في حضرة المزاج. زبائن وسمسرة وعمولة وليالي أنس يعود معها الزمن. هكذا اتفق الاتفاق.

واللفافة لا زالت حية، وعطية عطشان مزاجه، وأم إسماعيل مهجور جسدها، وبالحب قلبها يتنمل.

باللفافة تكسب كل شيء، فالظاهر عطية حماها، فربما لم تسلم من تضييق صاحبة الحجرة وأن الإيحار لابد أن يزيد، وربما لن تسلم من تاجر يبخسها حقها، والباطن رجل تهيم به، عشق طالما دفنته وقد آن له أن يفصح عن نفسه، ويروي جسدها الظمآن، تلك الظمأ الذي لن تحس به إلا إمرأة مثلها. تأنيب أمها أبعد من بلادها، وزوجها مات والشك دُفن معه، لا زوج تنكر جميله ولم يكن حيّاً لتخونه، وإسماعيل إبنها صغير لا زالت عينه مغمضة، والحارة لابد أن تقول أينظر عطية لمثلها؟ وسخريتهم تحميها وعطية من الكلام البطَّال. وهي تعلم أن عطية غرضه زبائن وقروش، وهو يعلم أنها تعلم. وهو يعلم أن رغبتها تنداح من عينيها، ونظراتها له دائماً غانية، ولعاب حبها يسيل، وهي تعلم أنه يعلم. وهي تعرف من أين يُلَّف الحشيش، والحارة لن تظن بأي سوء. والاثنان اطمئنا لذلك. ليست هي تلك المرأة التي تلوث سمعته. هو يتيقن وهي تقر وتخضع.

لقد خُلِق الاتفاق، كالذكر والانثي، كالليل والنهار، يحبك ذاته، وكأن كل ما نعيشه نوعا من الاتفاق، ينتهزنا، دونه سنضيع، ولا نعلم من الذي يتفق بهذا الاتفاق، وماذا لو تمعنَّا قبله؟ ماذا لو راوغنا الاتفاق؟ ولولا ضعفنا واحتياجنا لما عاش الاتفاق.

والشك في جنسها يمحو الشك في علاقتها التي مع عطية ستكون.

ولابد أن تماطل، فيعود ذات مرة خالي الوفاض، ويرجع ليالي بعدها، بالمزاج الخالي يركع، وتلين كثيراً فحبها يربكها، ولكل منهما حسابات. الرجال؟ مدخلهم المزاج، وإذا كان أقصر طريق إلي الرجل معدته، فأيسر طريق إلي عطية مزاجه، هو أيضا أبرم حسبته، القروش تعود، والزبائن ستفتش عنهم أم إسماعيل من بين أكوام القش.

بنظراتها الجائعة، الاتفاق جري، اتفاق جديد، والوسيط دائما قروش من الحشيش، تركة المرحوم، لعله فى ليلة يظفر بها.. بنظرات عطية الغائمة، الاتفاق وقع، الليلة بقرش، حب وهناء، وحدها من تحب، وقرائح مزاج تنشط، ودماغ تتنفس.

والحجرة التي كانت تعبق بروائح مكتومة من البصل والثوم وطعام بائت وبقايا نوم، تلك الروائح التي تميز أناساً فقط يأكلون ويشربون وينامون. أما الآن عطر منشوز وصابون يرُغِّي جسمها له رائحة مائعة من يشمها يخجل. وبذات المدق شققت أم إسماعيل جريدها واستبدلت سرير يسع اثنين بالحصير الجاف، وأطرته بفراش وثير ووسائد منقوشة بورد لا يذبل. وملاءات حرير وأيكات ناعمة، عمرت بها عشها الجديد. لا تعبأ بضحكات ساخرة، فالعاشق لا يخجل من عشقه، بل لا تسمع سوي دبيب قلبها، لا تري إلا إبتسامتها بالموعود، وكل شيء يبتسم، والكون اصطبغ بالحبور، والحارة مزخرفة، حتي البيوت التي كانت واطئة في انكسار، علت هاماتها، والمرآة مشطوفة الحواف التي كانت تهرب منها، أصبحت براقة تختبر فيها هيئتها، نمصت وكحلت وشفاها احمرت، وشعرها أطلقته وبالماء لان وبالزيت لمع، ونهد حرّان بالعشق ينفث، والمصباح يشعشع بالنور وبصره حاد يراها لأول مرة متغنجة. وبخمسة جنيهات وقطعة حلوي ماكرة ينصرف إسماعيل، وبهما تعود شابة عروس وكأنها بكر رشيد تنتظر عريسها الموعود.

تحكم إغلاق الحجرة، فلعل شباكها مثقب بعيون لا تنام، فستائر تُسدَل فتعميها، والباب زادت أقفاله، وكأنه مسرح مغلق، من سرير قفصي ولفافة، وقمصان نوم تلونت بالإثم.

وليال مليحة تبدأ، وقبل أن تبدأ كالنساء تدللت، تتأبي حيناً، وبجمود عطية تتلهف، وعطية كثيرا ما قلّب العرض علي وجوهه ودائما ما يختار العرض الذي يجلب له الحظ ولا يكلفه مليماً، ويحضر بوجه جامد لا يري إلا بهلواناً هائماً يشمئز من ميلاته وحركاته التي تستعطف فلا يجد إلا الشفقة. بالاتفاق الأعمي الليلة تبدأ، وبالعشق الأعمي تتسمع هدير خطوات عطية، وبدقات باب تفتحها اللهفة، وبسلام يُلمعّه ضي يفيض من عينيها، واللفافة ممتلئة، وبأول قرش حشيش الليلة تبدأ، تنهل اللذة الأولي، لذة لا أرق فيها ولا حساب.

وبأنفاس معدودة من سيجارة منتفخة البطن، يتناوب عطية عليها، تزهزه الألوان، وتثمل الحركة، والزمن لا يمر، ولا تريده أن يمر أبدا. مسافات يصنعها لا نهاية لها وضحكات مزغردة تسابق بعضها، وصمته يبكي، وأحيانا يندم، فيرده الحشيش إلي سفره الذي لا يريد أن يرحل عنه، وخيالها يسافر، وكلام ينطلق كالسيل، وخياشيم دماغهما يلسعها دخان بارد، وخبايا قلبها تطفو، والوقت تتسع بطنه، والخطوة بلا حساب، والحنان يلفها، والفم مرطب بطعم العسل، والنظر حاد، واللمسة برفق، وقلب ينفض حزنه، والأرض بلا حدود، وأيادي تلمس جسد فحل كأنه قطعة من السماء، وهناء صاخب، في طست صدأ تليف جسده، جسدها كله لا يصدق، ويدها المهتزة تسافر في جسده، ويد عطية تكهربها، وزفرات تسحب روحها وشهقات تردها، وتلمس شاربه بشفتيها، والقبلة تميمة الحب، وذوبانه، تلتذ وتنتشي، فتصدق لحظتها، كيانها وعطية في مكان واحد. وفحولة تسترعي بالخدر، في سورة من الغيام، تدير الرأس، وشيء ما يتصلب لا يلين ولا يطري ولا يرخو. وماء يجري في أرض شققها الحرمان، وعطية ما أعذب رواءه، وأبو إسماعيل ما ألذع ريقه، وبكرهه نطقت، والمغامرة تأتي علي مهل. لا تكليف ولا أمر ولا صدر يحمل هماً. وأجساد تمور وتفور. كتلة لحم دافئ تعلوها، والسرير يصر جريده، في غبشة وعي نائم، لا يهم. هي تعي لكل لحظة، والسرير يعلو ويهبط وأحيانا يصرخ، أكانت تحلم؟ لا يهم. فاللحظة حاضرة ولابد لها أن تعيشها، أن تلمس وترها بإيقاعها الثمل وتسمعه وقلبها يرقص علي عزف لا تريده أن ينتهي.

فوران يبتلعه برود حثيث، وتخدر ينسحب، والحطآن تتكحل بكآبة، وهموم تئوب إلي مسكنها، والمصباح يُعمّصه الذباب من جديد، ورائحة ما بعد الإثم، رائحة دخان وحشيش وطعام حامض وعرق غير برئ وصابون لم يبق منه إلا الجزء الذي يجعل من يشمه يتقيأ ويفر.

أجساد تئز بالرطوبة، لحظات صفاء صامتة لا يلبث أن يتعكر.

والغيام يزول، كل شيء علي مرآه، أسواط توقظ دماغ عطية، ولا يصدق عينيه، يري أم إسماعيل، عظام تصطك بلحمه العاري، تقزز ينهال بكفيه علي دماغه، فتلك حجرة عفنة، تتشكل محتوياتها من جديد: سرير قفصي نحيل، وحصير نتن، وباب موصد علي اثنين. من؟ هو وأم إسماعيل؟ يتذكر خريطة كل جسم أبيض كان يعتصر لحمه اللدن، يدرك كل أنات اللقاء، وعينه المستنكفة تلتقي بعين أم إسماعيل المنتشية، وعلي الفور يتلقف قرشا جديدا يوقظ الاتفاق، فيمحو به ذنب لن تغفره نفسه وكأنه مارس شذوذا مع رجل مارق. وعطية لا يرضي بقرش واحد، فينال أضعافا منه تغَّيب فعلته ويغيب بها عن أم إسماعيل أياما، وبمجرد أن تنتهي علي أم إسماعيل يهرول، ورغبتها تستجيب علي الفور.

ورغم ذلك فثمَّة شعور لزج يتسرب إلي عطية، وشعور ضائق لا يأتي إلا لمن امتلك الشيء وتمرد عليه، وذلة نفس، ويحس نفسه كبيت يسمسر عليه، ذات شعور من يبيع، وهو يوقن أنه خاسر، لا يبيع بيتاً، بل يتنازل عن كيانه، عار لا ينتهي. والذنب ينمو، والذنب يصير كبيرة، والندم لا تمحوه توبة.

في البدء يدها الجافة تلمس سطح لفافة تطفو عليها قروش الحشيش، وبعجلة ينثر شغفها قرشا أو قرشين، والسطح يتبخر، واليد لم تعد تنثر شيئا، وأصابعها تغوص إلي منتصفها، واللفافة تنثني علي نفسها، وتطوي قرشا أو إثنين، وبتفاؤل أصابع أم إسماعيل تغوص أكثر لعل اللفافة تغازلها وتخبئ عليها قرشا أو إثنين، واليد تهبط إلي قاع اللفافة وتعود خائبة، واللفافة تنكمش، ويضمر قماشها كعجوز آخر يصل إلي آخر العمر. واللفافة تنحسر كضوء القمر الذي يلف أم إسماعيل في هدأة الليل، في أول اللفافة كان القمر بدرا وفي آخرها صار محاقا، قوسا نحيلا تافها يجعلك تيأس من أن يتمم بدره مرة ثانية. حتي اللفافة نحلت وتضاءلت. لا تسمع في لياليها إلا عويل إسماعيل، ونهيق حمارهم ليس كأي نهيق، ينذر، والعد يتنازل، والقمر من المؤكد أن يعود بدرا، أما اللفافة من المؤكد أن تنازل عدد قروشها لن يصعد أبدا. فنقصانها نذير، بأن بعد الاكتمال لابد من نقصان. والليالي يؤرقها الحساب، وعلي أصابعها تعد قروشها.

واللحظة تولد مثلنا، وأولها صفو وبال رائق.. واللحظة تكبر وتهرم  مثلنا.. ولا شيء يدوم. والعطشان لا يتذوق إلا أول شربة ماء، والجائع لا يلتذ إلا بأول لقمة، وما يصير بعد ذلك مجرد امتلاء. والضوء يسطع أعيننا في أوله، ثم بعدها ندقق النظر ونري ما لم كنا نراه.

في اللحظة التي ترفل في نشوتها، هي أيضا تمتلك الشيء وتتمرد عليه. هي نفسها لا تعجبها نفسها، نقصان رابض لا يكتمل، حب طرفه أوحد وسيظل، مثل الجلباب كان عطية لا يحس، نفس ضمة الصدر، نفس النشوة تكذب، في البدء كانت تحلم بلمسة عن طريق الصدفة، وهو طريح حضنها، لا عادة ولا رتابة، بل صفقة تربح وقد تخسر، كانت تعيش لتنتظر حباً لن يأتي، والشيء الوحيد الذي لم يشبع هو قلبها.

والشيء كان بالشيء، أخذ وعطاء، في نظرها والمحبين ليس هو الحب. وكلما نقصت قروشها زاد إحساسها بالخيبة وأن ما تفعله هو الحرام ذاته. وألم تحس بالحرام إلا لأنه خيَّب مسعاها؟ ولو أوقعت بوهمها في حبها عطية، أيكون الحرام حراماً؟ أم أنها طمعت وطمحت  إلي شيء لن يكون؟ أَوَفي الامتلاك دائما ما نطمع ونُجَنّ؟

حتي القروش سيأتي حين ولن تملكها.

وكأنها نسيت ضحكات الحارة وهيئتها الذرية، أهي من تحب؟ أليس من حقها أن تحب؟ هي نفسها تسأل: من هي حتي يحبها عطية؟

لِمَ قفزت بتطلعها؟ ومن هي الحياة حتي تمنح الحب وتمنعه؟

ودمعها يسأل: لماذا خُلقنا قبحاء ونحن من نحب الجمال؟

البشر كلهم سواء لهم قلب، وهي مثلهم لها قلب، ولكنها بعيونهم أصبحت تري نفسها، في مرآتها المنكسرة كانت أم إسماعيل الذين منها سخروا وعليها ضحكوا. روحها التي كانت تسري بحرية تعطبت، لابد أن تكون مثلهم. هكذا يسعون. بأن تحس أنها لا تستحق أن يطل عليها صباح أبيض.

وتدافع عن ذاتها بإنكسار ذليل، هي لم تنشد الحرام، هي تحب

ولا تريد إلا الحب. ولكنها بالقروش تزني، والحب المنقوص دائما زنا وعهر. لا يكون الحب حباً إلا إذا اجتمع بإثنين يتفقان بلا اتفاق علي الحب.

ولكن الشيء نفس الشيء، رغبة كان أو مزاج.. لا يكون نفس الشيء عندما ننوله، ينخلع ردائه ولا نراه كما كان.

نحن من نصنع للأشياء زينتها.

ورغم ذلك تدور الليالي مع ساقية الاحتياج، ويسوقها الاثنان، بعُصابة، تارة تنسجها رغبة يحركها حب مهزوم، وتارة مزاج يعجز أن يفي له بقرش واحد يغنيه عن هذا الدنس.

والزينة تجددها أم إسماعيل، بأكداس من الأقفاص تكدح في صناعتهم وبيعهم، والوهم تتسع فجوته. فمرآة الحب أعمت عينيها، وعقلها يصحصح حلمها الكاذب، حتي الاتفاق الخبيث يذكرها، لا تبحثين عن الحب، كل ما تحتاجينه عرق الرجال. هذا الشعور الذي يجعلها تبصم بالعشرة أنها لم تتفق علي أي شيء، وعما الذي يحركها، لا تعرف.

وعقد الليالي يصنعه الاتفاق، خيطه من دخان يستر زيفاً، وحباته من قروش الحشيش. والعقد كل الخوف أن ينفرط. فعطية مثل الزمن والناس لا يرحم.

رغم يقينها بأن حبها سهمه خائب، وعطية لا يفرق عن عجوزها، الاثنان يتوكلان في مطعمهما ومزاجهما علي امرأة تكدح وتشقي حتي يمنحوها شهادة أنها امرأة. حتي وهي تتشكك فالاتفاق يسري لا توقفه لحظة كاشفة تفضحه، قطار يندفع ولا إنذار أو تنبيه ينقذ من يحمله، وكأن سائقه في غفلة. وأم إسماعيل مستسلمة رغم أنها قد فطنت الأمر إلا أنه لا يزال يملكها، الاتفاق يتغذي علي إرادة مسلوبة، ونفس ضعيفة لا تملك من أمرها أى شيء. فالليالي تتوالي والساقية تدور، بالعادة عاشت مع زوجها وبالعادة تخطيء مع عطية. كل ما حدث أن العادة تقنعت وارتدت لباس جديد، مزين، يخطف العقول، والعادة تسري، بالاتفاق تعيد دورتها.

وكل قرش كان ينقص، يطقطق خصلة بيضاء في رأس أم إسماعيل، وكأن سنوات عمرها تزيد، وتشيب، ولمعة عين تنطفيء، وجلد كأنه يتغضن، وعظام تبرز وتمتص اللحم وتأكله، وكلما انحسرت اللفافة، بقرش يحترق مع أيام تنقضي ولن تعود، أول نَفَس من السيجارة ليس كآخره، ومن آمن بالبداية لابد أن يؤمن بالنهاية، تلك النهاية التي تقض مضجعها، والجريد ناشف لا يطريه شيئا، كأنها تسير بخطي واثقة في طريق يحكمه الفناء، وما كان عليها أن تهادن صاحب النهاية، وتسأله الرفق والرحمة، وتدعو: يا صاحب العذاب امنح عذابك لمن يستحق.

لِمَ أحست بذلك والقروش علي وشك النفاذ؟ لماذا تراءت لها الحقيقة وهي تحت وطأة الاتفاق؟ أكان شبع اللحظة الذي يهدد بجوع آت مميت؟

لا إختيار سوي في أن تعيش أو لا تعيش، وماذا اختارت أم إسماعيل؟

حياتها مصبوغة بمساحيق حتما ستزول، وحبها يستند علي لفافة تتآكل قروشها، ودخان يتلوي وتنقشع معه لياليهم، وصفقات، تبيع وتشتري، وما ذنبها إلا أنها اختارت أن تعيش. أن تحب. ولمن يأتي الحب؟ نحن من جعلنا للحب شروطا مجحفة لا يقبلها الحب ذاته. والاتفاق جارِ بلا أي اتفاق.

في اللحظة التي تنتهي فيها القروش، إسماعيل ينبت داخله ما يسميه الكبار شكاً، في تلك اللحظة وحدها، أمه تحس أنه قد كبر، ولم يعد صغيراً، واللوم  ينمو، بتناقص اللفافة فقط أحست بالذنب فالكبيرة فالخطيئة التي إن غفرتها لنفسها، لن يغفرها إسماعيل، وإن غفرت ذنبها لن تغفر أنها لم تضحي، بأن قلبها كان أعمي ينبض بالأنانية، لم يطرأ لها إن إسماعيل سيكون رجلها وحماها والضني الذي لن يخون، الذي يحبها، وحده من يحبها، بلا شروط، بالغريزة، باللهفة، باللمسة، اندفاع مجنون توقظه ومضة عاقلة، تكشف وتفضح وتحاكم بلا رحمة أو تحيز.

وبالندم تعصي الاتفاق، أحيانا تهرول علي صنبورها، تفتحه عن آخره، وتغمر حجرتها، تغسل جدرانها، تنبش أرضيتها، تغتسل بدموع التوبة، وشيطان الاتفاق يحذرها، بمكر ينبهها، اللفافة بلا قروش، وعطية لن يتركها، كان الحشيش يجعله يبوح، فهو هارب من ثأر قديم، وسُجِّل خطراً، فخسر من يحبها، بوحدته يبكي، هشاشته فضحتها القروش، واقتاد نساءً، امتلكت أم إسماعيل سر أغواره، قد تثرثر به، وتلطخ سمعته، وتهيل علي حضوره تراب الحارة، وفي الخلاف يُعلَن السر ويضخمه الانتقام. وعطية ذاته مؤرقة، وكأنه يتملص من عرقه الذي امتزج بعرق أم إسماعيل، والهاجس ينتقل إليه، الكلمة والإيماءة والضحكة ستكون عليه، فلابد أن رآه أحد من أهل الحارة وهو يتخفي في عباءته ذات ليلة، ولابد أنه بطلوع الشمس يفضح أمره، ويجعله مسخة لا تقل عنها.

وأصبح الاتفاق وبالاً علي الاثنين.

والهاجس يدغدغها، فكم يوم تعمله ليل نهار من أجل قرش جديد، لو بترت كل نخيل القرية، وشققت جريدها، وباعت منها أقفاصا لن تجد من تلك اللفافة بديلا. ولماذا لا تعطل الاتفاق؟ اتفاق جري ووقع وجثم علي كل لحظة يحترق معها قرش حشيش لن يتجدد.

وحوش النهار تنام بأبدان مستسلمة وعيون تتذلل، لم تكن أبدا لتسخر من أم إسماعيل في النهار، وفي الليل يستيقظ هاجس كالكرباج يسوط ولا يرحم. بل أن وحوش النهار قد اعتادت عليهم.

وانتظار عطية يعضُّ شفتيها، ويقضم أظافرها، والدقات ليست كالدقات، طارقها معلوم، والألف هاجس يولد، وتحتضن إسماعيل، في تلك اللحظة بالذات تحتمي به، وفي هذه الليلة بالذات يصرف عطية ابنها، وفي هذه الليلة بالذات تصر علي أن يبقي معهما ولو كان في النوم مطروحا لن يسمع ولن يري. والشرر الذي تطيره عيناه، بجنيهات وحلوي ينفسح له الطريق. وبنظرة وعيد من عطية ترغمها فتوزع إبنها، وبنظرة إبنها لا يريد أن يرحل ولا هي تريد. حتي إسماعيل لم يفرح بجنهياتها وحلواها، في هذه الليلة بالذات يعي أنه يُطرَّق. وبطفولة ساذجة يرحل. وعطية يسألها الحشيش، وأن الحصة قد فنيت، والجيوب خاوية، والمزاج معكر، واللفافة لم يبق منها إلا قماشها، أبلته العادة، حتي ورود ملاءتها ذابلة، ووسائدها وأيكاتها اهترأت. الكحل وأحمر شفاها حددتهما العادة، رسمتهما عجلة مذعورة، ويسألها سيجارة لابد أن تبقر بطنها، وتخلي تبغها، وتقضم قطعة كالحناء، أو قطعة حناء جافة كالحشيش، وعلي النار تصهره، الحشيش يمط، وما في يدها لا يمط، وتخلط التبغ بما يشبه الحشيش، وبورقة ناعمة تلفهما، وبلعابها تغلف السيجارة، والنار تشتعل، وبسكرة الغافلين، تعصي الاتفاق، حتي أن عصيانها لم يكن باختيارها، حتي وهي أن حبها خائب، وأن إسماعيل بالدنيا وما فيها، لكنها مسوقة، يدفعها شيء متهور لا تفطن له ولا تسيطر عليه. حتي الخيط الواهن لا زالت تتشبث به، لعل الحب يأتي، رجاء المهزوم ووهمه.

علي مهل تتجرد من ملابسها، أتسوق دلالها؟ دلالها لا يثمر، وعطية يجاهد ليظفر بلحظة تغيم دماغه، ولا طائل، وبفراسة المدمنين ينتبه بأن الحناء لا تُسطِل، وأن هذا الذكر قد خدعه، وسره يعيش داخلها، وبكفيه يسفع وجهها، وظله يصبح كالغول يغطيها، وبنسمة هواء يذهب ظله روحة وجيئة، وظله يلطمها، ظل أثقل من جسده، وكأن الشبح لملم جلده من حطآن حجرتها وتجسد في عطية، يسد فم حجرتها، وعواء كلب بعيد يناطح نهيق حمارها، وأم اسماعيل تعي لأن الاتفاق قد نفذ، وما آت لابد أنه نهاية، فالحقيقة أكثر عريا منها، لا تجميل، كوجهها ببثوره التي طفحت كالذباب علي المصباح، بدموع ندم سخينة واستغاثة تصهر مساحيقها التي تبيض وجهها، وعيناها يسودها كحل سائح، والأحمر الرديء يرتجف مع شفتيها التي زرقهما الذعر، تتزاحم في رأسها أمضية غابرة، تأكل منها، تنسفها، تزداد ضآلة، كذرات التراب العالقة في أركان غرفتها، واهنة كخيوط العنكبوت علي جريدها، ماذا حدث لها، وعلي أي شيء اتفقت؟ أعلي موتها اتفقت؟ لا نكران ولا هروب، بالزنا وصمت نفسها، وبالعهر أدانت روحها، وبالأنانية ظلمت إبنها، نفسها كالبيوت الخاوية، لا يسكنها إلا فراغ لا يشبعه امتلاء، لا أهل.. ولا عزيز.. لا أصل.. ولا عنوان.. سيقانها كأول مرة تراهم نحيلة، عظامها بالفعل بارزة مسنونة، تتقوس كالجنين، تدفن رأسها بين ركبتيها، برد يسحق داخلها، وبالندم ترتعش، كورقة شاردة مهملة تطيرها رياح متغطرسة، شيء ضئيل جدا كانت، تذويه المقادير، أسيقتلها الاتفاق؟ أعلي موتها اتفق الاتفاق؟.. تتلاشي في بطء عقيم ليتها تذهب معه، لا تريد أن تري نفسها وهي تنتهي، لابد من برق يخطفها، لحظة فانية تحملها، أن يقطع دابر حياتها بلا تمهيد، بلا إنذار، بلا نفضات إحتضار، أن تطوي أيامها بلا ماضي أو ذاكرة عفنتها الأيام والحظوظ العاثرة، والبشر ما أوحشهم، ما أقساهم، الحياة لا تقسو علينا، نحن من نستخدم الحياة لنقسو علي بعضنا، علي نقائصنا نبحث عن اكتمالنا، أول ما نبحث عنه نقطة ضعف واحدة نتسلل إليها لنكتسب قوة زائفة تستر ضعفنا وعليه تنمو وتكبر، فقد تعذبت أم إسماعيل بما يكفي، لابد لها أن تنتهي، فلم يعد لديها وعاء يستوعب عذاب جديد.

ومصيرها المحتوم يدنو بخطوات عطية، يظلها كظله الأسود، يغشيها، تصطادها يديه، بانتقام يتلقفها، وبانتقام علي حنجرتها يضغط، وشيء ما يلوح باللفافة خاوية خبيثة، كالشيء الذي يشبه الاتفاق، وبيد تتملك من صيدته، ويد أخري تميل علي اللفافة، بالأمس كانت تفوح بالسعادة والهناء، واليوم منها رائحة الموت تتضوع، واللفافة كحبل المشنقة، وسريرها القفصي مسرح بدأ بالحياة وسيسدل ستاره بالموت.

وحبل المشنقة لم يكن أقسي مما رأته أم إسماعيل، فنسيجه من غربة وقلة نصيب وقبح وشيخوخة خنعت لها ورجولة تصنعت بها حتي لا يأكلها الرجل، حتي صارت رجلا التبست به ولم يفارقها، والخرس يصرخ، والكلب يمل من عوائه، والحمار يستسلم في طواعية ومذلة وخاطر لا يجبر أبدا، وندم عطية يُحكِم اللفافة حول رقبتها، وكلما ذكر سرا أذاعه لها، كلما ذكرت أنفه رائحة عرقها التي لصقت بجلبابه، كلما رآها عارية، كلما زاد من ضغطته، الاتفاق نفسه يلتف علي عنقها، باطش لا يرحم، وكلام تجاهد لتنطق به، فتأكله ضغطات عطية، وإسم إبنها تنطقه مبتورا، أكانت الحقيقة من تضغط وتخنق؟

تزرق شفتيها، واستغاثة تتحشرج، وتغرغر بكلام ليس معناه إلا أنه إستغاثة لا طائل منها. لا تذكر إلا شيئا واحدا، إسماعيل، زمانه أكل بجنيهاتها وشرب، في غمرة المصيبة، أمومتها حية، لا يهم أن تموت، كل تخشاه أن إسماعيل سيرجع، وبمنظرها يفزع، وبطفولة تفقد الأم وراء الأب يصرخ، ولمن ستتركه، ومن سيعوله، ما كانت تذكر إلا أن لديها إبن، وحده من يستحق حياتها، الآن فقط هي زانية، عاهرة، سافرة، حتي أهل الحارة الذين ضحكوا وسخروا وأنكروا جنسها، سيحسبونها من العاهرات الزانيات السافرات. لم تكن إلا في لحظة الفضيحة إمرأة تزني. في حياتها فقط هي رجل في رداء النساء يتنكر. أوقات رغبتها المشتعلة فقط كان الذنب يتزين، ووقت الحاجة لا يكون الذنب ذنباً. حتي الذنب لا جهد فيه، الجهد في الأعذار التي نخلقها حتي لا نري الذنب ذنباً.

عاشت أو لم تعش، لقد أصبحت أكثر شيخوخة من زوجها الميت، بيديها دقت جريدها لتصنع قبرها، ولا تريد إلا لحظة، تختار فيها مُغسّلتها، وليتها تكون ضريرة فلا تري خلقتها، أما المعزيات، لن يلطمن ولن يبكين، لا نواح ولا شق جيوب، ولا أهل يحملون نعشها، وما كانت تنتظر إلا الغراب الأول، فيدفنها في خلاء نتن يطوي جيفتها، أو خرابة تكتسي بالقمامة، فتبتلع رائحتها التي لن يقدر علي شمها أحد. لن تنتظر لحظة شفقة، ولا تريد أن تحيا سيرتها وجسدها ميت. كل ما تريده أن ينساها الجميع، أن تنشز حكايتها مع الرماد، مع غبار العواصف، تطيرها إلي صحراء بعيدة لا يسكنها بشر.كل ما تنشده أن يحنو الموت عليها، بأن يكون الموت أكثر رحمة من الحياة. وأن ترحم الحياة إسماعيل، ولابد أنه سيعود، وروحها تحنو عليه، وتنتفخ أوداجها، وفمها بالموت يترغي، فقاقيع يفرزها الموت تبيض فمها، وآخر ما نطقت به إسماعيل، واستغاثة تموت بالموت.

في اللحظة التي بدت علي حقيقتها، نحيلة، قبيحة، قُتِلَت. لو كانت لديها قروش حشيش تُغَّيب، ومساحيق تُجمِّل وتكذب، لعاشت، مثل كل من يعيشون، بأحاديثهم المغيبة يعيشون، وبالمساحيق يظهرون.

وعطية نفسه لا يصدق أن آخر الاتفاق قتل، وأنه من ثأر يهرب إلي جريمة يفر بها، إنسان عيني أم إسماعيل يخبر إبنها أنها ماتت، بنظرة ساكنة لا تنظر إلي شيء تخبره بأنها ماتت، وإسماعيل يصرخ، وبطفولة تصير كالعجائز يستسلم.

كل ما يعانيه أنه يسير منعوتاً بحكاية أمه، لم يتركوها وهي حية تُرزَق ولا هي ميتة، والصباحات تتوالي، أناس هم الأناس، وزعيق هو الزعيق، وعراك كأي عراك، وأفواه مفتوحة، وعيون لا تموت، وعيون تهرب من الحقيقة.. لو رآوها لقتلوها أو قتلتهم.. ومقهي، وعمال وصنايعية، وبشر يأكلون ويشربون وينامون، وضحكاتهم حية، لم تخرس بموت أم إسماعيل، سيرتها تكفي، تاريخها يجدد الضحك، والنادرة لا تموت، يرددها الأحياء، ويموتون، فيرثها الأحفاد، والأيام تدور في مدارها الأعمي، وإسماعيل يكبر، بالهم الباكر يكبر، ومن حكاية أمه يهرب إلي بلاد بعيدة لا يعرفه فيها أحد. والحجرة يسكنها امرأة لعوب وزوجها ضرير.

أعلي كل ذلك اتفق الاتفاق؟.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون