أنا فخور بك جداً يا بنتي

سعيد الوائلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد الوائلي

جالسة بجانب السرير، ممسكة بيدي، تعتقد أن عقلي يحارب قرار جسدي بإنهاء لعبة الحياة، عيناي مغلقتان، لكني أشعر بإرادتها من خلال الأصابع المربوطة بإحكام حول أصابعي، الرقة هي قوة وأنتِ تشاركينني في إعادتي للحياة من خلال الضغط المستمر من اصابعك، شتان بين أصابعك وأصابع قريبي.

كيف سهرتْ على مدى هذه الأيام الطويلة، من ساق كمالها الكبير الطاهر إلى هذا المظهر من مظاهر قدرة البالغين، تحية الغرباء، الاهتزاز في القدرات، اختبار أنظمة الارادات، قدرة موجات الجاذبية على عبور الزمكان، منذ اللحظة الأولى، وهي متمسكة بإصبعي الصغير في صمت غرفة المستشفى المظلمة، أرادت أن تحرك استقراراً ديناميكيًا بي وبالعالم، وكنت بحاجة إلى الاطمئنان بعد ذلك.

أيتها الطفلة الحبيبة، يدي تستقر بسلام في يدك، دعيها تتحدث إليكِ بالكلمات التي لم يعد بإمكاني صياغتها: أنا جاهز، لذا دعيني أذهب.

يبدو الإقلاع عن الحياة حالة نادرة، كنت أعتقد ذلك، الكذب هنا، أتذكر انني قلت لكِ لا أستسلم، لمواصلة المحاولة في تلك المشاريع الحياتية، وكسب القريب السيئ الخُلق، والسعي لبذل قصارى جهدك في عالم العمل والأسرة، لذا فليس من المستغرب أنكِ تريدينني بشدة أن أخوض جولة أخرى، أنت لست مستعدة بالنسبة لي لتعليق الأحذية وجعل هذه هي صافرة النهاية.

يتحدث الأطباء بلغة واضحة عن توقعاتهم لهذه الجولة الأخيرة من اللعب، أنت مستقيل، ويبدو أنكِ توافقين على توقعات سير المرض، ومع ذلك، عندما يذهبون إلى الجناح التالي، أشعر بنبض الغضب في دقات قلب يدكِ، إنه يزعج السلام الذي أشعر به عندما أبدأ في الانزلاق عني مثل بطانية الطفولة التي لففتك بها في الليلة الأولى المباركة معًا.

طفلتي الحبيبة، أدخليني في هذا النوم الطويل،

القوة في بعض الأحيان عبء، أشعر أن رأسك منحني القوة من ثقل هذا المطلب: أن أقاتل من أجل حياتي، أنتِ عمود قوة تهدده بشاعة قريبي الذي مسّد اصابعي بموجات مشاعره الكاذبة، وأنا مستلق على سريري في ليلة عقدك، فليأتوا وليلتفوا حولي، ضعي صخرة إرادتك القوية وثقي بي أنه لا يوجد خطأ أو عيب في هذا، لا بأس أن تشعري بأنكِ صغيرة مثل الحصاة، والأمواج تتساقط  فوقها، مرارًا وتكرارًا، محاصرة في مد وجزر الحياة، ولكن هناك أيضًا الكثير من القوة، حتى في أصغر الأحجار.

إذا أشعل كلام الطبيب فيك نار القتال، فقد أخمد أشواقي الأخيرة، لقد تحررت من التوقعات المرهقة بالنضال والقتال والجنود والقيل والقال، لقد عرف جسدي منذ فترة طويلة راحة الاستلقاء، والآن يستطيع عقلي أيضًا، في نهاية هذا المرض، يمكنني أخيرًا أن أعانق نفسي مرة أخرى، حيث يتعانق الجسد والعقل بعضهما البعض بشدة.

تأتي الممرضات، الحاضرات اللطيفات مع إبرهن وزجاجاتهن للمساعدة في تسهيل مرور أيامي بهدوء، وبفعالية قمن بتفكيك الجهاز الذي ساعدني على التشبث بالحياة، وفصل أجهزة المراقبة والآلات وإبعادها، القطرات تعلق قطراتها ويتم إسكات أصوات الصفير، يتم سحب خطوط الحياة بشبكتي الخاصة، وألتقط أحلام وذكريات حياتي، احتفظ بها بأمان بداخلي، وأنا على استعداد للتخلي عنها.

في أعماقكِ، أتمنى أن تثيري ذكرى فُقدت منذ زمن طويل، هل تعتقدين أنه يمكنك تذكر أول ليلة لكِ معنا ؟ كانت هناك ضوضاءا، صخب الممرضات وتعليمات الأطباء، سجلت الآلات البيانات الرئيسية آليًا بينما كان لهاث أنفاسكِ الممزقة، ونفختي نفخة انفجارٍ بعد انفجار على بوق الألم قبل شهيقك الاول، كان كل شيء يعمل ثم ارتجفت في هذا العالم على موجة من الحب.

لقد أضفت ضوضاءك، بالطبع فعلت بطريقة أسكتت كل شيء آخر، كنتُ أعلم أنني لم أسمع أبدًا صوتًا أجمل من بكاء مولودك الأول، لابد أنه كانت هناك ضوضاء أخرى: قراءة درجات الحرارة وتسجيلها، والأقلام تخربش على الرسوم البيانية، تم ملء بطاقة التعريف الخاصة بك وشريط البلاستيك الأزرق على معصمك الصغير، صفائح تحترق حيث تم تغييرها ووضعها حديثًا، عجلات تنقر على الأرض أثناء نقلك إلى جناح آخر، لكنك كنتِ أصمّة مع كل ذلك، الشيء الوحيد الذي يعود لي في هدوء الآن، هو الصمت الذي نتشاركه بينما بدا بقية العالم نائمًا، تلك الساعات الأولى من الفجر، معًا عندما كنا انا وامك مع عيون بعضنا البعض فقط.

في النهاية اقرّ لك وانجرف إلى النوم، لقد كنت أعاني من الإرهاق، ومع ذلك، كنت أشاهد صدرك الصغير يرتفع ويسقط بإيقاع مؤلم وحزين بشكل كسر قلبي، دفعت التعب بعيدًا بينما كنتِ تضعين يدك على معصمي، أردت أن لا تنتهي تلك الليلة القديمة  أبدًا، لتأجيل تلك اللحظة عندما نفترق للمرة الأولى، حتى لو كنتِ على بعد بضعة أقدام عن سريري، كانت إرادتي قوية، لكنَّ في النهاية جاءت الممرضة الليلية وضحكت على معركتي الصارمة للبقاء مستيقظًا حذرًا.

” سأكون على ما يرام، فأنا أعلم أنك بجانبي تمامًا، تذكري، هناك متسع من الوقت للتعب في الليالي القادمة ! “

كنتُ محقًا عندما رفعتك عن ذراعي ووضعتك في السرير بجانب امك، لم تحركي ساكنًا أبدًا، آخر شيء أتذكره  قبل النوم كان مداعبة يدك الصغيرة بأطراف أصابعي، مدركًا أنكِ تعرفين أنني كنت هناك، وكنت أعلم أنكِ كنت هنا من أجلي أيضًا.

الصمت كؤوسنا كما كان في تلك الليلة، قبل ثمانية عشرَ عامًا. كانت يدك الصغيرة آنذاك، والآن هي لي، تبدو الأمور مختلفة، لكن لا شيء يتغير على الإطلاق، ستتواصل أيدينا دائمًا مع بعضها البعض عبر الزمان والمكان، لكن في دائرة ذاكرتك، ستصل إليّ وسنحتفظ ببعضنا البعض مرة أخرى.

أيتها الطفلة الحبيبة، يدي تستقر بسلام في يدك، دعيها تتحدث إليكِ بالكلمات التي لم أعد أستطيع تشكيلها، أدخليني في هذا النوم الطويل.

أنا مستعد، وأنت أيضًا، لذا دعيني أذهب.

……………………….

*من مجموعة قصصية تصدر قريبًا

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون