كلب الناشرة

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

كان لصاحبة دار النشر كلب مخلص.. يستقبل الكتّاب صباحًا ويتسلّم أعمالهم ويحرر عقودهم ويوزّع على بعضهم الجوائز وشهادات القوائم الطويلة والقصيرة، وفي المساء تطلقه مربيته داخل المقاهي والندوات وحفلات التوقيع قبل أن يعود إليها آخر الليل مزهوًا بحصيلة استراقات جديدة.. تحتضنه بين فخذيها لكي يبلغها بينما يلعق فرجها البركاني بأسماء الذين مضغوا تأثيرها في المجتمع الأدبي بسوء أو سخرية.. تظل تردد وراءه تلك الأسماء بصرخات لاهثة منتشية بينما لسانه المدرّب يتحرك في مساراته المعتادة حتى تغرق وجهه مع انتفاضة هائلة أخيرة لجسدها المرتعش يعقبها استكانة مشبعة.. حينئذ ينسحب كلب الناشرة من بين فخذيها ليتكوّم صامتًا بجانب سريرها إلى أن يثقل النوم عينيه حيث تستقر دموعه حسرة على عضوه المعطوب.

ذات يوم عرفت صاحبة دار النشر أنه ليس كلبًا فقط وإنما شاعر أيضًا، ولم يكن ذلك اكتشافًا قابلًا للتسامح.. بالنسبة لها كان كلبها يحلّق في مدارات أرقى من كل الكتّاب الذين تحمل إصداراتهم اسم دارها؛ إذ كانت تعتبرهم مجرد قفازات رخيصة ترتديها بينما تسرق المال والوجاهة من جيوب القراء ومن خزائن المؤسسات المانحة للجوائز ومن الوعي العام للـ”مثقفين”.. لم يكن من الممكن أن تتعايش مع الانحطاط الوجودي غير المتوقع لكلبها بعدما أدركت خيانته لصفته المقدسة كخادم وفي، لا يلوثه تعريف آخر.. ما كان بوسعها أن تتقبّل حقيقته المفاجئة بعدما ارتكب إثم الكتابة التي جعلته من ضمن الكائنات “المبدعة” الأدنى.. وبالرغم من أن اكتساب هوية الشاعر الذي ينشر القصائد ويصدر الدواوين كان طموحًا مؤجلًا مقابل اكتفائه بتكريس نفسه ككلب للناشرة؛ إلا أنه استجاب لها حينما طلبت منه أن يجمع كل قصائد النثر التي كتبها سرًا حتى تطبعها كمكافأة تتويجية لتاريخه معها.. بالفعل وبعد أيام قليلة كان بين يدي الخادم الوفي نسخة من كتاب بالغ الأناقة يضم أعماله الشعرية الكاملة.. قضى كلب الناشرة ليلته في نباح متلاحق امتنانًا لسيدته قبل أن يتكوّم في مكانه الثابت بجانب سريرها ليدركه النوم الذي لم يستيقظ منه أبدًا.. كان كتابه لا يزال بين يديه، وملامح السعادة على وجهه، وفي جوفه الوجبة الاحتفالية الشهية التي أعدتها من أجله.

أمام حشد من الصحفيين والكتّاب والنقاد الذين اعتادوا فتح الأبواب والنوافذ أمام لصوصيتها المهذبة؛ وقفت تلقي كلمات وداعية رثاءً لكلبها المخلص.. ظل فمها مطبقًا طوال الوقت ومع ذلك كان الجميع يشعر بصدق الألم الذي يسكن كلماتها ذات الأحرف المضغوطة، المبللة بدموع دبقة إلى حد ما والمنبعثة من أسفل بطنها بالتزامن مع ارتجافاتها المتقطعة بينما نباح جراء صغيرة تتزاحم في الخارج.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون