المهم أنني بعد فترة من الحماس الشديد، والإصرار على أن أخبر مدام جورجيت بما أفكر فيه بخصوص مشكلة شادي، عدت أشعر فجأة بالتردد؛ فماذا لو أنها سألتني عن السبب الذي يجعلني متأكدة أن ما يمر به شادي هو حالة مرضية بالفعل؟
– أي شخص في المدرسة يعرف أنه ينسى كل شيء يا مدام.. أليس هذا كافيًا؟
هكذا قلت وكأني أقف أمام المعلمة، وعدت أردد بصوت عال كأني أخاطب مدام جورجيت:
– لا تنسي يا سيدتي أنه من أذكى طلابك في الفصل، وأكثرنا قدرة على حل المسائل الحسابية، وهذا ما يجعلني أشك أنه بالفعل مريض، وربما يحتاج إلى علاج لو وجد من يهتم بالأمر. أنتِ أكثر إنسانة تعاني من نسيانه يا مدام، وهو يحبّك جدًّا ويشعر بالتعاسة عندما تستائين منه، وهو بالتأكيد ليس سعيدًا بذلك.
*******
في سنوات الدراسة السابقة في المدرسة لم يكن شادي ينسى أي شيء، بل كان واحدًا من أكثر الأولاد ذكاءً وتفوقًا، يحصل على درجات متقدمة في كل المواد الدراسية. والمدهش أنه كان يتمتع بذاكرة جبارة يتباهى بها أمام جميع أقرانه وزملائه في المدرسة، خصوصًا جوزيف وسيف؛ لأنهما كانا أكثر الأولاد حبًّا لمادة الحساب، وأكثرنا تفوقًا فيها.
كان شادي دائمًا ما يقوم بتحديهما في حساب أي مجموعة أرقام، ومعرفة النتيجة في أسرع وقت ممكن، حتى لو كانت مثلاً 5+14+325، ويترك لهما فترة لا تزيد عن ثوان قليلة، ثم يقول لهما بفخر:
– أنا مستعجل جدًّا، ومضطر أن أخبركما بالنتيجة، وهي 344.. سجلوها عندكما.
وعندها يقول له سيف إنه غشَّاش، وإنه أعد هذه العملية الحسابية مسبقًا؛ فيتحداه شادي بأن يسأله عن أي عملية حسابية أخرى ليتأكد من أنه ليس غشاشًا، وبمجرد أن ينتهي سيف من تأليف أي عملية حسابية، يخبره شادي بالنتيجة وهو يبتسم، ويمسح خُصلات شعره الناعم الذي كان يتركه طويلاً ولا يصففه أبدًا.
شادي أيضًا كان معروفًا بين محبي لعبة الشطرنج في المدرسة بأنه الوحيد بين من يلعبون الشطرنج المبرمج على الكمبيوتر الذي هزم البرنامج أكثر من مرة!
كنت أشعر أن شادي وراءه سر ما هو الذي تسبَّب في أن يصبح نسايًا إلى هذه الدرجة.
عندما سألته عن السبب في نسيانه كل شيء تنهّد، ثم أخذ نفسًا عميقًا وجلس يفكر، ولكنه لم يقل شيئًا، وأحسست أنه أصبح شاردًا تمامًا، فقلت له:
– شادي، أين ذهبت؟ لماذا لا ترد عليَّ؟
نظر لي مبتسمًا، ثم قال:
– تخيلي يا عالية، لقد نسيت سبب إصابتي بالنسيان.. أعتقد أن ذاكرتي مهووسة بالنسيان!
أخذت أردد لنفسي كلماته في سري ودون أن يسمعني: “ذاكرتي مهووسة بالنسيان”، ولم أفهم المعنى. كنت أريد أن أسأله عن معنى هذه الجملة الغريبة. لكني – كالعادة – ترددت وقررت ألا أفعل؛ أولاً لأنني كنت أعتبر نفسي أفهم كل شيء، وبالتالي لا يمكن أن أسأل أي صديق أو صديقة في عمري عن أي موضوع لا أفهمه، وثانيًا لأنه كان دائمًا يقول لي: “أنت صديقتي الوحيدة في هذا العالم يا عالية، أنت الوحيدة التي تفهمينني“.
بصراحة شعرت بالخوف من خسارة ثقته، لو سألته عن معنى كلماته الغامضة فلن أكون “الإنسانة الوحيدة التي تفهمه في هذا العالم“.
قلت لنفسي إنني يمكن أن أسأل مدام جميلة مُدرِّسة اللغة العربية عن معنى الجملة في أي وقت.
لكن بسبب هذه الجملة الغامضة، لم أستطع أبدًا أن أدافع عن شادي، الذي اتهمه جميع الأصدقاء في المدرسة بأنه غريب الأطوار، وبعضهم وصفه بأنه شخص غير طبيعي.
كنت أعرف أنني إذا قلت لهم إن السبب الحقيقي لما يحدث لشادي هو أن “الذاكرة مهووسة بالنسيان”؛ فسوف يتهمونني أنا أيضًا بالجنون.
وهكذا كان كل ولد أو بنت في الفصل، يتخيل سببًا يتصور أنه أدى إلى إصابة شادي بالنسيان.
فريدة مثلاً كانت تقول إنه في الأصل ولدٌ شقي، ولا شك أنه وقع على رأسه وهو يركض على الدَرَج، وارتطمت رأسه بالسلالِم وتسببت الصدمة في هذا النسيان.
أما جوزيف فكان يقول إن شادي يقوم بالتمثيل؛ لأنه يريد أن يلفت الانتباه إليه خصوصًا انتباه البنات، ولذلك فهو يمثل دور فاقد الذاكرة. بل كان جوزيف يسأله أسئلة معينة عن أحداث مرت في حياته، ثم يكرر السؤال نفسه بعد ذلك ليحاول أن يوقع به، لكنه لم ينجح أبدًا.
ليلى كانت تقول إن سبب فقدانه الذاكرة يعود لذكائه الشديد، وحبه للقراءة بشكل غير طبيعي؛ مما جعله يحشو عقله بمعلومات كثيرة جدًّا، لدرجة أن عقله امتلأ بالمعلومات ولم تعد به أي مساحة خالية تكفي لاستقبال أي معلومة جديدة.
ولأن شادي لم ينجح في تذكر سبب فقدانه للذاكرة، لم تتوقف محاولات الأولاد والبنات في اختراع أسباب جديدة لما حدث لشادي، وكلها كانت مجرد خيال.
وعندما كان سيف يسمع ما تقولَه ليلى، يضحك ويقول لها إنها لا تعرف الحقيقة. سألَتهُ ليلى وهي تشعر بالغيظ:
– وما هي الحقيقة يا أستاذ سيف؟
عندها اقترب منّا أنا وليلى، وقال لنا بصوت منخفض أقرب للهمس:
– شادي مسكون بشبح.
سألته: ماذا تقصد يا سيف؟
فنظر لي وقال بثقة: يعني بداخله عفريت هو الذي يجعله ينسى كل شيء هكذا.
ليلى قالت له بغضب:
– كيف تقول على زميلك هذا الكلام السخيف؟!
وانصرفت غاضبة وقررت ألا تتحدث معه مرة أخرى.
أنا باعتباري صديقة شادي المقربة أشعر أحيانًا بالارتباك؛ لأني أشعر بالفعل أن هناك شيئًا غامضًا له علاقة بموضوع النسيان. من المؤكد أن وراءه سرًّا غامضًا يقف وراء نسيانه أغراضه وأدواته بهذا الشكل، ويجعل الجميع يظنونه شخصًا غريب الأطوار.
حاولتُ أن أتذكّر الحوارات التي دارت بيننا، وكانت أغلبها عن الأشياء التي يحبها شادي: لعب الشطرنج على الكمبيوتر، البلاي ستيشن، لاعبي كرة القدم المشهورين وخصوصًا ميسي ورونالدو، لاعبي الفريقين الإسبانيين الشهيرين: برشلونة وريال مدريد، لكن أغلب أحاديثنا التي كنت أستمتع بها أيضًا كانت عن الكتب التي يقرأها.
بصراحة، لم أهتم أبدًا بكلامه عن الشطرنج ولا البلاي ستيشن؛ فأنا لا أحب كرة القدم، لا في الملاعب الحقيقية ولا في المباريات الإلكترونية والألعاب، لكني كنت أحب أن أسمع ما يقوله عن الكتب.
لم يكن مثلنا يقرأ فقط الكتب المصورة وألبومات الشخصيات الكارتونية الشهيرة، بل كان يخبرني أنه يقرأ قصصًا جميلة ويحكي لي عنها: “روبنسن كروزو”، “أوليفر تويست”، “علي الزيبق”، “الفرسان الثلاثة”، “مغامرات علاء الدين” من كتاب “ألف ليلة وليلة”، “رحلات جليفر”، وهذه كنت أعرفها من أمي التي قرأتها لي وأنا صغيرة، ومرات يحكي لي عن رسام إيطالي عاش في القرن السادس عشر اسمه ليوناردو دافنشي. كان يقول لي إنه قرأ له كتابًا جميلاً اسمه “حكايات عجيبة وأساطير غريبة”. كما قال لي إنه كان رسامًا مشهورًا ومتعدد المواهب، وأخبرني أنه صاحب أشهر لوحة فنية في العالم، والموجودة في متحف اللوفر في باريس ويعرفها كل الناس إما باسم “لوحة الموناليزا” أو “الجيوكاندا”. وقد أراني اللوحة في واحد من كتبه، وتعجبت من أن هذه اللوحة لتلك السيدة صاحبة الابتسامة الغامضة هي أشهر لوحة في العالم.
في مرة أخرى من المرات أخبرني عن كتاب رحلات اسمه “200 يوم حول العالم” كان كثيرًا ما يتكلم عنه، وعن البلاد الكثيرة التي يحكي عنها الكتاب. قال لي إنه يحب السفر، وإنه يتمنى أن يسافر إلى الفضاء الخارجي، وأن يصبح صديقًا لكائنات فضائية ذكية. سألته مرّة أن يعيرني كتاب “200 يوم حول العالم”، فقال لي بطريقة لم تعجبني:
– هذا الكتاب ليس للأطفال، هو أصلاً للكبار.
وعندما لمح ملامح الغضب، وتحول لون وجهي للون الأحمر، وهو ما أحسست به بسبب سخونة وجنتي، ارتبك وقال:
– لا يا عالية، لا تفهميني خطأ. هذا الكتاب بالفعل للكبار، لكني بسبب اعتيادي على القراءة بدأت أقرأ كتبًا تناسب عمرًا أكبر من عمري.
لكني لم أصمت.. قلت له بنوع من التحدي إنه إذا كان قادرًا على فهم أي كتاب فسوف أكون أنا أيضًا قادرة على قراءته وفهمه، وقلت له بسخرية:
– هل تظن فعلاً أن كتابًا يحكي حكايات كتبها رجل سافر بضع بلاد ويروي لنا ما يراه كتابًا صعبًا أو للكبار فقط؟
وهكذا أجبرته على الاعتذار لي.
هل كانت قراءة هذه الكتب هي السبب في ضعف ذاكرة شادي؟
آآآآخ.. تذكرت الآن شيئًا مهمًّا. أعتقد فعلاً أنني يجب أن أجد وسيلة لزيارة شادي في بيته فجأة ودون أن يعرف أنني سأزوره! نعم، يجب أن أزور شادي في بيتهم حتى أتمكن من كشف أسرار هذا الولد، صديقي الغامض كما يحب أن أسميه.
…………………
*فصل من الرواية