سَخّان كهربا!

منة شرف الدين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منة شرف الدين

“بيكيا.. روبابيكياااا”

يختلط صوت بائع الخردوات ومخلفات المنازل بأصوات السيارات وأبواقها وصراخ الأطفال بين لعب وبكاء. لا يستطيع المرء التمييز هل يبكون أم يضحكون؟ هل الضحك والبكاء يمكن أن يكون لهما نفس الصوت في مرحلة من عمر الإنسان؟ قبل أن يبدأ الصوت التميز مع مرور الوقت والمرور في أنفاق الحزن وفوق السعادة وبين الاستسلام واليأس.

وسط ذلك تجلس “هانم”، أو “أم رضا”، على السلم، تبكي بكاء لا يخطئه الناظر، بلا صوت، وبدموع غزيرة.

 

سَخّان

يعتقد من يراه للوهلة الأولى أنه أكبر سنًا، لكن بالتعامل معه، وبسؤاله، ومن خلال بطاقة الرقم القومي، التي يتولى الساكن ذو المنصب الأعلى أو الأهم، كأن يكون ضابط شرطة أو جيش أو موظف حكومي كبير، الكشف عنها، طبعا لأن من يتقدم للعمل كحارس عقار، وهو التوصيف الأحدث والأكثر تحضرًا لمهنة “البواب” التي يستخدمها الناس في السب والمعايرة، يكون محكوم عليه باحتمال الإجرام الحالي أو السابق أو اللاحق، إلى أن يثبت العكس، فربما هو هارب من العدالة، أو له سجل سوابق، أو قضى فترة عقوبة بالسجن، أو له قريب مجرم، أو على أقل تقدير متهرب من الخدمة العسكرية.

كل الشواهد أثبتت، بما لاشك فيه، أن الزوج في بداية عقده الثالث، بينما “هانم” لم تتم عقدها الثاني. هكذا الحال في الصعيد، يتزوج الشباب صغارًا من فتيات أصغر، غير معترفين بقوانين الدولة التي تشترط سنًا للزواج، يشاركهم في ذلك عمد القرى ومسؤولي الأقسام وأئمة المساجد.

لم يمنع إجهاد الزوج، بسبب لفه طوال اليوم بين الأدوار العشر، والتبديل على دراجته، التي اشتراها من أحد بائعي الروبابيكيا، جيئة وذهابا يشتري طلبات السكان ويوصلها لهم هانئًا بـ”خلي الباقي علشانك”، بل ربما هو ما دفعه إلى البحث عن نشوة بين أحضان زوجته تهزه وتريحه آخر الليل بعد أن نام الأولاد، وأغلب السكان، وأُغلق باب العمارة الضخمة وساد سكون الليل إلا من أصوات رياح الشتاء الباردة الغاضبة.

 

كهربا

كانت تتوقع ما سيحدث، ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، هذا يقينها، ولكنها تحاول، وتأمل أن يتحملها وألا تطول فترة القلق والخوف والشعور بتجمد الدم في الأوردة.

كل ثقيلا عليها، أثقل من تنظيف ثلاث شقق دفعة واحدة، أثقل من ألم ثدييها وثقلهما مع فطام وليدها ذي العامين. 

حاولت التظاهر بالنوم، فأيقظها.

قالت إنها تشعر بالتعب، فلم يصدقها “كل يوم تعب؟ يا هانم هذا الأسبوع الثاني وفي المرة الوحيدة في الأسبوع الأول شعرت أني أكرهك وأنك غير راضية.. ما الأمر؟ هل هي رائحتي؟ أقسم أني غسلت يدي جيدا بعد نقل أكياس القمامة، ولسنا في الصيف حتى تكون لي رائحة عرق تزعجك إلى هذه الدرجة”.

ظلت صامتة تخشى الإفصاح عما بداخلها، وتخشى عدم الإفصاح، وتخشى ردود فعله.

مدت يدها لطرف البطانية المتهرئة وتغطت معطية زوجها ظهرها غارقة في خجل وخوف وبرد.

“أنا لي كلام آخر مع أهلك” قالها ونفخ بغضب.

 

سَخّان

“أنتِ يا بنت الكلب يا من تسمين هانم، لماذا أسميتك هانم؟ قال كنت فاكرة ستكونين هانم؟ ما الأمارة؟ من في عائلتنا كلها صارت هانما حتى تصيرين أنت مثلها؟ ستخربين بيتك أيتها الموكوسة. زوجك اشتكى منك. كوني متأكدة أنه إذا طلقك لن نتحملك مع عيالك الثلاثة. أبوك لن يقدر على مصاريفكم. اعقلي وطاوعي زوجك. بلا دلع فاضي”.

جاءت الأم مشحونة من شكوى الزوج، تخاف أن يخرب بيت ابنتها، حتى وإن كان هذا البيت غرفة واحدة في جراج إحدى العمارات السكنية تنام بداخلها هي وزوجها وثلاثة أبناء، أكبرهم لم تبلغ سن دخول المدرسة.

كان أهم حدث في حياة الأم هو يوم زواج “هانم”، فهي تعتقد أن البنت “هم وانزاح”.

ليست أم “هانم” هي الوحيدة التي تدين بهذه العقيدة التي تتمنى قتل الإناث جميعًا، أو عدم وجودهن من الأساس، إلا أنهم، هي والآخرين، محتاجون إلى الإناث من أجل التكاثر، لا يد لهم في ذلك، وبالطبع من أجل المتعة، متعة الرجال، ولهذا يفعلون ما يستطيعونه، في نطاق المتاح، فيقطعون جزءا من بظر البنت، ويزوجونها في أقرب فرصة، ويحثونها على البقاء في “عصمة” زوجها تحت أي ظرف.

 

كهربا

“عادي. لم تفهمني أمي أبدًا، ولن تفعل” هذا ما تردد في ذهنها وتحركت به شفتاها بلا صوت، وهي تشيح بوجهها عن الأم المنطلقة كقطار بدون فرامل.

فكرت في أنها لم تستطع يومًا التحدث مع أمها بصراحة أو راحة، لم تستطع أن تسألها عن الزواج وطبيعته وحقيقته، كانت سعيدة لأنها تزوجت قبل فتيات كثيرات، فأمها وخالاتها أكدن لها أنها بذلك أفضل منهن، وكانت تعرف أن بالزواج جانب مظلم، أو بالأحرى، جانب لا يتكلمن عنه كثيرًا وإن حدث يكون همسًا، كما أن جارتهم، المتزوجة منذ عامين، كشفت لها بعضًا منه مؤكدة أنه “حلو”، وأعجبت “هانم” بما سمعت ولكنها لم تخبر أحدًا.

أكثر ما أسعد “هانم” بالزواج، وهي بنت الرابعة عشر، هو الانفصال عن أمها في بيت جديد تستطيع اللهو فيه دون التعرض لصرخات الأم وسبابها كل ساعة، لكن الواقع لطمها حين وجدت عملًا لا ينتهي بين تنظيف الغرفة وغسل الملابس ومسح السلالم وآلام الولادة والرضاعة والفطام والاستجابة لطلبات المدام فلانة في تلميع كريستالات النجفة قطعة قطعة، والقلب يخفق خوفًا من سقوط الكريستالات على الأرض وانكسارها.

 

سَخّان

مع فنجاني القهوة، المزينين بنقوش فرعونية توحي بالفخامة والبساطة معًا، تجلس “هانم” مع “المدام”، التي أصرت على إعداد القهوة لها وحملها على الجلوس للراحة قليلًا، بعد جولات وصولات تنظيف الشقة، واستنشاق الأتربة، ووصلات السعال، لتبدأ الدردشة من جديد.

لا يتوقف الحديث ولا تنتهي الحكايات بينهما ودائمًا ما تقول لها “المدام”: “نحن أخوات وأصدقاء” فتبتسم “هانم” وتؤكد: “طبعًا يا مدام والله حبيتك مثل أختي وأشعر معك بالأمان”.

لا تعرف هانم أن المدام أحيانا لا تستطيع النوم وهي تتخيل ضباطًا يقتحمون البيت لا توقفهم بوابة العمارة المغلقة بالمفاتيح ولا باب الشقة المصفح.

جاءت سيرة الثورة مرة فسألتها “المدام”: أي ثورة تقصدين؟ لعلمها بأن الرياح غير المواتية الرائجة غالطت الناس في تاريخ ثورتهم فحاولت محو تاريخ لصالح تاريخ آخر وقالت لهم هذه وفقط الثورة وهذا فقط الخلاص.

“ما بك يا هانم؟ سمعت صوت أمك العالي، ورأيتك تبكين بالأمس” 

وكأن “المدام” نزعت الفتيل أو أزاحت الغطاء لتلقي “هانم” بهمها بين يديّ السيدة التي طالما سمعت منها كلامًا عن حقوق الناس وحريتهم وضرورة التعليم وتوفير العلاج للجميع ونظام البلد المقلوب، لا تتوقع منها استهانة أو سخرية، انطلقت تشرح: زوجي غضبان مني، وأنا لا ذنب لي، لقد قضينا أشهرًا هنا لم تحدث بيننا هذه المشكلة، لكنها بدأت مع الشتاء، البرد دخل بيننا فأحدث الأزمة، وأنا لا أستطيع البوح له بالحقيقة، الحقيقة أني “بردانة”. 

واصلت: أشعر بالبرد الشديد يجمد أطرافي ليلًا، وإن تحملت نزع ملابسي والتدثر بالبطانية وبه، فلن أتحمل الاغتسال بالمياه الباردة في عز الشتاء كل يوم. ما أن يقترب مني حتى أفكر في هذه اللحظة وأنا أنتفض من البرودة تحت “الدش”. الأمر قد يبدو تافهًا للبعض، لكن لا أحد يشعر بما أشعر به يا مدام وأخاف ألا أغتسل فأخطو بجانب أطفالي فيسقط شعرهم.

تتعجب “المدام” فتقول “هانم”: قالوا لي ذلك في البلد، كل الستات قلن لي أني لو لم أغتسل من الجنابة سوف يسقط شعر أولادي.

غضبت المدام كيف لا يوفر سكان الشقق الواسعة، التي يتجاوز ثمن الواحدة منها المليون جنيه، للحارس وأسرته مياهًا دافئة في عز البرد؟ 

“هانم.. اشتري سخان فورًا، ولا تحملي هم ثمنه”.  قالت “المدام” بحسم.

 

سَخّان كهربا

“بيكيا.. روبابيكياااا”

أطلق البائع صيحاته فلبتها “هانم” على الفور، لتتفقد بضاعته، لعلها تجد هدفها المنشود أو حلمها البسيط أو الحل السهل الممتنع لمشكلاتها مع زوجها.

وجدته. تفاوضت على الثمن. هذا يناسبها تمامًا، سوف تدفع فيه كل ما قبضته من إحدى “المدامات” نظير نظافة الشقة طوال شهر، ونصف ما قبضته من أخرى، قالت: يستاهل.

انتظرت زوجها في تصميم وشجاعة، أطلعته على ما اشترت، وأفصحت له عن سبب إعراضها عنه، فضحك وقبلها، قالت له: ركبه الآن، لا يحتاج لتعقيدات شركة الغاز، هذا سَخّان كهربا.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون