الكمين

إبراهيم سلامة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم سلامة

أشرقت شمس الصباح على ‘حدى مزارع تربية الدواجن، التى كان صاحبنا قد أنهى نوبتجيته بها، قام يلملم اشياءه ويستعد للمغادرة الى المنزل، وككل دورة تسليم الدواجن للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر لاستلام الدواجن مبكراً، ولتأمين التسليم يقوم السائق بالاستلام والتسلم بالعدد على أوراق المأمورية ويتم التفتيش عليه وعلى السيارة والمرافقين تفتيشاً تابع لمرور الداخلية فى بوابات الطريق الخارجية.

نبه الغفير صاحبنا ان يحترس للتفتيش، تسمر مكانه لثوانى ثم تشجع او أوهم نفسه بذلك ثم صعد احدى سيارات النقل.

تحرك السائق، وتحرك معها القلق داخل صاحبنا، بدأ يشعر بالتوتر فى الطريق وكلما اقتربت السيارة من كمين التفتيش يزداد توتره، وتتسارع دقات قلبه.

جاءت اللحظة الحاسمة شعر عندها أنه يكاد يغيب عن الوعى من شدة الخوف والتوتر، أراد ان يعود من حيث أتى، باح للسائق برغبته للعودة بحجة نسيانه أشياء، ولكن قد فات الأوان، قال له السائق: اقتربنا من الكمين وإذا توقفت انا او نزلت انت سوف يشك فينا أفراد الكمين وتصبح مشكلة.

صمت مرغماً وشعر انه فى لحظة فاصلة بين ماضيه ومستقبله.

**

وكان حاضره شاخصاً أمامه. فبعد تخرجه من المدرسة الصناعية وبعد ان قضى مدة تجنيده التى انتهت فى منتصف السبعينات، تم تعيينه من قِبل القوة العاملة فى احدى شركات وزارة الزراعة بمزارع الدواجن الكثيرة فى الصحراء المترامية والتى تخلوا من الحياة اللا من بعض الاكواخ المتفرقة عشوائياً هنا وهناك على أطراف القاهرة من الجهة الشرقية حيث كان يقضى 24ساعة نوبتجية كل 48ساعة راحة.

ليلاً و بعد ذهاب الموظفين كان عمله يتلخص فى المرور كل ساعة على عنابر التربية لمراقبة كفاءة اجهزة التهوية والتغذية و غيرها كفنى متابعة وصيانة الأعطال المفاجئة

ولم يكن لديه ما يفعله غير ذلك سوى القراءة والقراءة وشرب الشاى والاستئناس  بغفير الوحدة.

وللغفراء هنا وضع خاص من الوظيفة فهو عامل غير مثبت فى الوظيفة فهو من بدو العرب فى هذه الصحراء، وعملهم الاصلى ليس الحراسة فقط بل يعملون  سراً كموزعين او تجار حشيش، يصحب معه لفة الحشيش ويجلس طول الليل يتخلله بعض الدقائق فى اول الليل وآخره للمرور حول المحطة لتفقد الامن خلف العنابر، مجرد مرور روتينى، فالمكان صحراء ولا سكان هنا غير البدو العرب وهم يعرفون بعضهم ولن يسرق أحد منهم حفنة رمل طالما هناك حارس منهم، مجرد تأمين روتينى، ويعود بعدها لجلسته امام الراكية ( منقد النار) يضع عليها كنكة الشاى التى ليس لها معالم سوداء بلون الفحم مصبوغة بلون الشاى المغلى من الداخل، وبجوارها مطواة قرن الغزال مدفونة فى الفحم المشتعل.

وبجوار الراكية طاولة خشبية مهترئة بها ثقوب محترقة من تساقط بقايا الفحم المتطاير مرصوص عليها عشرون او ثلاثون من حجارة الجوزة (الشيشة). وفى مشهد ذكّره بعماد حمدى فى فيلم ثرثرة فوق النيل وقعدة الأنس فى العوامة، يقوم بتعمير كل حجر بالمعسّل ثم يبصم الحجر  بقطعة من الحشيش فى حجم اقل من قرص الأسبرين ثم يضع الحجر على الجوزة  بعد رص الفحم المجروش عليه ليسحب منها دخان حريق خليط المعسل بالحشيش، فيتداخل ضوء القمر مع الدخان الأبيض المتصاعد بينهم كسحابة بيضاء لا تلبث ان تتفرق وكأنها شبورة فى ليلة باردة، ولا ينقص المشهد سوى الراقصة نعمت مختار وباقى شلة العوامة، ومع غناء ام كلثوم الصادر من الراديو الترانزستور تمر الليلة وكل ليلة بهذه الصحراء.

عادةً يضع الغفير بجواره لفة الحشيش فى حجم كف اليد او اكبر ثم يخرج قرن الغزال من النار ليغرزها فى قطعة الحشيش كقطعة شيكولاتة ليقطعها قطع بأحجام مختلفة موزونة بالخبرة ثم يلف كل قطعة فى سوليفان احمر و يدسها فى جيبة. يستمر هكذا حتى يتمم عمله الذى ينتهى فى فجر اليوم الجديد، كان يخَنْصَر قطعة لا بأس بها تكفيه طول الليل وحتى شروق الشمس.

كان الغفير كريم، مجرد جلوس صاحبنا بجواره يناوله الجوزة بحجر مبصوم بأجود أنواع الحشيش المزيِّت ومعها كوب الشاى المغلى المُرّ. وكله ببلاش.

-وحياتك يا استاذنا هاتلنا شوية ميّه

-وحياتك يا استاذنا وانت بتمُر فى العنابر بصّ بصّة كدة وراها،

فيتحول الغفير وزيراً هذه الليلة يأمر فيطاع،  و يقوم صاحبنا بعمله وعمل الغفير معاً.

يستمر الحال هكذا حتى شقشقة الشمس وزقزقة العصافير يقوم بعدها كل واحد الى تهيئة نفسه لتسليم الغفرة والنوبتجية، بعدها يذهب الغفير ومعه لفة الحشيش وقد اصبحت قطعاً مقسمة وفى طريق يعرفه هو داخل الصحراء يتقابل مع اخرين يشتروا منه القطع كل حسب احتياجه، لتفرغ جيوبه من قطع الحشيش ويمتلئ مكانها بالجنيهات، ليكمل طريقه الى عشته يرتاح.

اما صاحبنا فيذهب الى منزله للنوم، وفى العصارى يستيقظ.

**

كان صاحبنا يذهب الى عمل آخر  بورشة بوسط البلد كمركز خدمة للأجهزة المنزلية  يعمل بها حتى منتصف الليل ليعود اليها  اليوم التالى ليعود لمزرعته فى النبطشية التالية. صاحب مركز الخدمة هذا مهندس فى أوائل العقد الخامس وقد اكتفى من العمل بيديه وأصبح يدير العمل من مكتبه، كان مدمناً للشيشة لا يتركها ومعه صبى لتعميرها وتجهيز النار،  كان يجد فى صاحبنا انه شخصية تختلف عن العاملين معه فكان يخصه ببعض أفكاره فى تشغيل وادارة المركز وكيفية الارتفاع بمستوى أدائه وهكذا هناك دائماً بينهما حوار فى مختلف الموضوعات. كان يترك له بعض الأنفاس من الشيشة، وبخبرة صاحبنا فى الأنفاس عرف ان الشيشة مبصومة ومغمسة بالحشيش. وتطرق الحوار بينهما كيف يحصل على الحشيش وأسعاره، احب ان يتباهى بقدراته امام صاحب الورشة. فحكى له عن الغفير والحشيش المزيِّت والسعر المخصوص، وهكذا طلب منه صاحب الورشة قطعتين كل واحدة ربع قرش، هكذا كانت التسمية، وهكذا احب صاحبنا ان يظهر للمهندس كيف يمكنه جلب الحشيش له.

عاد صاحبنا للمزرعة وفى قعدة السمر ليلاً طلب من الغفير ان يبيعه ربعين من الحشيش فأعطاه الغفير بنصف سعر المدينة. فرح صاحبنا بالصفقة.

فى الصباح الباكر ككل دورة تسليم الدواجن للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر لاستلام الدواجن مبكراً.

قبل أن يصعد صاحبنا الى سيارة النقل، نبهه الغفير ان يحترس للتفتيش،!!! تسمر ثوان، ثم سال الغفير عن كيفية التامين فأشار له بوضع القطعتين داخل شراب حذائه تشجع صاحبنا أو أوهم نفسه بذلك، ركب السيارة وجلس بجوار السائق.

**

أفاق اواستيقظ من غفوته حين استرجع هذه الليلة الغبراء والتى ليست ككل ليلة فها هو يحمل معه ما سوف يدمر مستقبله وأحلامه.

انتبه صاحبنا عندما لمح أحد أفراد الكمين يقف فى وسط الطريق رافعاً يديه للسائق بالوقوف.

. يا الهى. ماذا فعل بنفسه ؟ !! ربما لن تكون لحظة فاصلة بل زمن سحيق فاصل بين ماضيه ومستقبلة، وربما يطول الزمن فلايدرك مستقبله وهو مازال فى بداية المشوار، حاول يطمئن نفسه متمنياً ان تكون هذه الاحداث مجرد حلم، توقف الكابوس والسيارة على ابشع لحظة فى حياته امام أفراد الكمين، طلب امين الشرطة الأوراق من السائق، ثم طلب منه النزول والمرافق معه، نزل صاحبنا وتوقف الزمن، ولا يعرف كيف استطاع الوقوف على قدميه، دقات قلبه تكاد تقول لمن حوله خذونى، طلب منه الأمين بطاقته الشخصية وكارنيه العمل، وتم تفتيش كابينة السيارة، ثم أمرهم بركوب السيارة. هكذا ؟ أهذا كل شئ ؟

ركب صاحبنا غير مصدق ان الأمر قد انتهى وان الكابوس قد انزاح.

لا يعرف كيف وصل الى المنزل، فمازال يرى الصحراء ممتدة أمامه وأكواخ البدو منتشرة هنا وهناك، لم ير زحام المدينة، ولم يسمع ضجيج السيارات.

دخل غرفته وانفجر باكياً، كما لم يبك من قبل. ثم نام نوماً عميقاً بدون أحلام حتى صباح اليوم التالى، قام بعدها بإحساس المولود من جديد.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون