ما فعله ديسمبر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

أمضي الأسبوع الأول من ديسمبر وأنا ابحث عن أي شيء اشتريه يشبه فستان أمي الكحلي المخطط بأبيض رفيع وأزرار جانبية بيضاء وحجاب دائري أبيض مع نظارة شمسية تأكل نصف وجهها ونظرتها إلى بعيد، متحاشية الكاميرا وكأنها لا تبالي.

تظهر أمي بمفردها في تلك الصورة أنيقة في مشهد نهار خارجي بنادي حلوان العام في منتصف الثمانينات، كان أبي قد اشتري كاميرا فوتوغرافيا جديدة قبل مولدي بفترة واكتشف في نفسه حب توثيق لحظات الأسرة وتوثيقي!

فكان يتلقط لي صور يومية، مؤرخاً بذلك مراحل نموي، مفتوناً بفساتيني الصغيرة وضفائري الصغيرة أيضا .. كان أبي مغرماً بوجودي في البيت ربما لأني أخر العنقود أو البنت التي جاءت بعد ولدين، تحكي أمي أنه كان يعدها بزفاف أسطوري لطفلته الصغيرة، وربما كان تفكيره في زفافي من الطفولة سبباً في وجود نصف “جهازي” من صيني إلي أطقم كريستال وأشياء عديدة قام بشرائها من بورسعيد بعد ميلادي بسنتين.

لذلك أجدني الأكثر حظاً في عائلتي بحصولي علي هذا الكم من الصور والحب حتى سن العاشرة ومع وفاة أبي لم تأخذ الكاميرا وجهي إلا نادراً، حتى مشيت في أيام الدنيا وورثت نظرته للأمور دون أن ادري انه هو السبب! 

فكل حبي للصور والوجوه والأماكن تبدأ وتنتهي من أجل الذكري

كان أبي يدخر لنا صوراً وذكريات وحكايات ومعارف وأصدقاء وأحبة مخلصين له حتي بعد مرور أكثر من عشرون عاماً علي وفاته!

خاضت أمي مع أبي انقي قصص الحب التي عرفتها العائلة ودوائر المجتمع المحيط بينا ، بفصول متقلبة ليست بالهادئة أو السهلة فمع اليتم والغربة والكثير من الحزن تقسو الرحلة وتشتد لكنهم كان لديهم قدر من الرضا والحب يغطي حاجة الكوكب والكوكب المحيط!

أذكر أنى أمضيت مرة ليلتين كاملتين أحاصر أمي بالأسئلة والدردشة عن الماضي وجماله وتفاصيله و”إحكيلي يا ماما”.. فتحكي عن كل شيء إلا حبيبها –  تحكي عنه كأبينا فقط ، كان يبدو عليها الاضطراب واضحاً بعد كل سؤال “لسه بتحبيه” تدمع عينها وتصمت إلي أخر الليل.

وفي لعبة الأقدار والصدف لنا مووايل

 فبعد وفاتها بفترة وقع في يدي صدفة ظرف أصفر اللون قديم به عدد ضئيل من خطابات كانت ترسلها أمي لأبي حين كان في المنصورة أثناء خطبتهم وخطاب آخر بتوقيع عمتي الراحلة سامية ربيع، فكانت تجمعها بأمي علاقة طيبة جميلة مثلها تماماً.

وكنت أتساءل دائما في ليالي الوحدة والشجن وأنا أعيد قراءة الخطابات، أين أبي؟ أين كلامه؟ ماذا كتب لها حتى ترد بكل هذا الحب والشفافية والشغف الذي يطير عطره من حولي مغيراً هواء غرفتي!

ثم فقدت الأمل أن أجد خطاباته، ربما ضاعت منذ زمن ربما قبل وجودي..لا أعرف ، أكملت سيري بأيام الدنيا وقابلت حبيبي وعرفت الحب .. نعم الحب

هذا الذي يغير ملامح وجهك وحتى أظافرك!

هذا الذي يغزو خلاياك الجذعية بقدرته علي تجديد نفسه باستمرار

هذا الذي يفسر لك ، أن كل ما مضي كان فراغ في عالم بلا معني.

أثناء خطبتي قررت إعادة ترتيب مكتبة كبيرة من الكراكيب والأكياس والأوراق في شقتنا القديمة بالدور الأرضي، فوجدت ظرفاً آخر قديما به خطابات بخط أبي، بأحجام مختلفة، على ورق شركة المعصرة للصناعات الحربية والمدنية التي كان يعمل بها حينها محاسبا وأخري على ظهر أرقام للموازنة، ودفتر قطيفة صغيرة به تواريخ لأول لقاء وأول هدايا ، وتواريخ أعياد ميلاد لـ أناس لا اعرف نصفهم، ثم اسطوانة من ورق اخضر ملفوفة بعناية كلها برقيات تهنئة بالبريد بالخطبة والزواج السعيد للعريس والعروس وعائلة ربيع وعيسي.

بكيت كثيراً في هذا اليوم وحكيت لحبيبي حينها ما حدث، فظل يستمع إلي أخر الوقت، وبهمهمة هادئة أخبرني بدعوة خالصة ينفذها بحماس إلي الآن

“أن يغمرني بالحب مثلما فعل أبي”

“حتى إذا اختلفنا؟”

“حتى إذ اختلفنا وقطعنا شعور بعض”

فضحكت وغفوت علي الهاتف متمنية لنا “بعض” الحظ والكثير من الحب والرضا.

كان لأبي خط منمق صغير وراقي جداً وكأنه يكتب بخجل وكأنه في أول الحب طوال الوقت ، كأنه عازف عود ماهر يقلق في حفله الحادي عشر .

كان عاشقاً، يملك مفاتيح أمي كاملةٍ، حبيباً وصديقاً وأباً، ملبياً لكل الطلبات، يرفع لها الابتسامات إلي السماء، يتكئ عليها كلما قسم الوجع ظهره، يحتضننها بيد واحدة في نصف الصور والنصف الأخر يصورها هي بمفردها، يعرف الصبر جيداً بكتابة الرسائل التي تصل بعد أيام وربما أسابيع، ينتظر الرد / ينتظر الفرصة / ينتظر الوقت واللقاء

يكتب لها:

حبيبتي نعمة

تحية طيبة من قلب ينبض بحبك في كل لحظة من لحظات حياته ..تلك أول رسالة اكتبها لك لكني والله أعلم لا أعرف كيف أكتبها، إن الكلمات تحتبس لا تريد أن تخرج ليس من قلتها بل من تدفقها ..إني لا اعرف كيف اعبر لك عن شعوري نحوك من حب وإخلاص..

حبيبتي..

ثقي كل الثقة بأنك الإنسانة الوحيدة التي اعتز بها والتي أتمني أن تكون معي في كل الوقت، بل في كل لحظة ..من قال ذلك! إنك معي في كل لحظة وكل الوقت..أكتب لك هذه الرسالة في مطلع عام جديد بالنسبة لك فكل عام وآنت بخير وسعادة وحب يا حبيبتي.

وفي خطاب آخر يدندن بقلم رصاص:

تذكريني عندما يشرق الربيع ويشيع جماله في الكون

تذكريني عندما يكتمل البدر في السماء ويبدد الظلام

تذكريني كلما سمعتِ عصفورا مغردا يشدو بأغنية حب رائعة

إني أقول تذكريني دائما لأنك دائما في قلبي وخاطري وعقلي.. أنت أول وآخر حب..أنت حبي الأبدي.

….

ليس في الأمر أي شيء مبالغ فيه، ربما لا يجمع الحب الصادق إلا أصحاب الألم والشجن، هؤلاء الغربيين عن الدنيا ..الراحلين سريعاً سريعاً.

فقدت أمي نصف نضارتها وجمالها بعد رحيله، عاشت بيننا طيفا خفيفا هادئا، ينتظر موعد رحلته كانتظارها عودته إلى القاهرة في شبابهم لتكون معه..

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون