الجـنّـة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كانت مفاجأة لبعضنا. فبدلاً من أن يأخذنا السّائق في الكوستر التي تحملنا إلى دائرة عملنا في الطريق المعتادة يوميّاً، قلب وجهته فجأةً بانعطافةٍ غير متوقعة، وقاد كوستره في الطريق إلى كورنيش شطّ العرب، وبهذا خرق نظام رحلتنا إلى الوظيفة ليس تفادياً لزحامٍ في الطريق التي نكرّرها يومياً، ولكن ربّما رغب في تفادي لعنة التكرار بمنحنا طريقاً جديدة نمرّ خلالها مروراً عابراً بتحفة الطبيعة في البصرة، كورنيش شطّ العرب، ثمّ نتحوّل عنها إلى العمل..

هكذا بدا لي الأمر، حتى أنني كدت أصفق للسّائق الذي اخترع لنا نزهة قصيرة، وسياحة عابرة لم نكن نتوقعهما..

كنا مجموعة موظفات جلسن في المقدمة وراء السائق، وموظفين استقروا على المقاعد وراءهن، وكانت الطبيعة خارج السيارة قد أيقظت عيون المجموعتين وسرحت بها في مداها الملوّن المتحرّك.

    وعبر الزجاج كنا نرى الشطّ أبدَيّاً كما عهدناه دوماً، وغير عابئ بشيء، لكنّ السّماء فوقه كانت باهتة الزرقة، ومشوّشة، وكأنّ قلبها المضطرب كان يستطلع، بنفاد صبر، ما ينتظر إطلالته في تلك السّاعة من صباح ذلك اليوم.

     ما أن اجتازت بنا السيارة شيراتون العظيم حتى شرع السائق يُخفف من سرعتها، ويميل بها إلى الرصيف المطلّ على الشطّ، ثم لم يلبث أن أوقفها تماماً، وأطفأ المحرّك.

    وكما لو أنّ الأمر قد جرى التخطيط له فُتِحَ بابُ السيارة عن آخره، وحملت إحدى زميلاتنا قِدراً معدنيّة وترجلت، وتبعتها قريناتها هابطات بأكياس من النايلون ممتلئة لم أتبين، أنا الجالس في آخر مقعد، ما كانت تحتويه. وسرعان ما نزلنا مترجلين واحداً بعد آخر مأخوذين بما تعتزم زميلاتنا القيام به على الشطّ…

    في سقيفة مطلة على النهر غاصتْ جذورُها الإسمنتية في المياه، وطار رأسُها في الهواء، حشرنا أجسادنا جميعاً… وفوراً تذكّرتُ الجنة! وانتظرتُ وعود الربّ العظيمة.  

   انحنت نساؤنا، بخفّة، على القدر المعدنيّة، وأكياس النايلون، ولم يطل الأمر كثيراً، إذ سرعان ما طفن علينا بكاسات من البلاستيك ممتلئة بحمص مسلوق ساخن، ومعها صمون حار، وقطع من ثمار الليمون الطرية…

    خرج الرّجل من شقٍّ في جذعٍ ضخم لشجرةٍ معمّرة لا تبعد إلاّ أمتاراً عن سقيفتنا المُطلّة على الشّطّ. لم يكن أمامي وقت لأكذّب عينيّ، أو  أصدّقهما، فالرّجل اندفع نحونا عارياً تماماً بعدما تملّص من شجرته، كما لو أنّ روحها أطلقتْهُ علينا. كان الرجل بجسد رياضيّ رشيق كأنّه غادر، توّاً، إحدى قاعات بناء الأجسام. وكان شعر رأسه كثاً بشقرةٍ ملتهبة كما لحيته التي انسرحت على صدره. وعلى ذلك الجسد المثاليّ العاري نزل الصّباح بضوئه الباهر كأنّه رغبَ في تقديمه إلى العالم مثالاً على كماله..

    لم أتبيّن، على نحوٍ محدّد، كيف رأى الرّجلُ شعورَنا بالتهديد مع كلّ خطوة لقدميْه باتجاهنا، لكنّه حين صار قريباً فتح فمَهُ بارتخاء، ليردّ على شعورنا بالتهديد، وانقلبتْ كلمتُهُ التي استعصتْ على فمه، إلى ابتسامةٍ متودّدة..

    كانت ردّة الفعل المباشرة على الذعر في مجموعتنا للنساء، ففي كتلةٍ ملتحمةٍ ببعضها غادرْننا، واحتميْن داخل السيّارة.

     صَعِدَ الرجلُ بابتسامته الدّرجاتِ الثلاث لسقيفتنا، ودخل علينا بإيمانٍ كليّ بأنّه، هنا، في مكانه الطّبيعيّ…

    كنّا، بأيّ حالٍ من الأحوال، سنغادر المكان، ونلتحق بزميلاتنا.

    من وراء زجاجة نافذة السيّارة، رأيتُ الرّجل منتصباً بقامته العاريّة. كان على وشك أن يقول أنا ملكُ ما بينَ يديّ. كانت نظرته تندفع، بلا شراع، فوق جريان مياه النهر، إلى البعيد، إلى كونٍ وراء أفق المياه، أو إلى ذكرى بعيدة  ظلَّ يُلاحقُها في ظهورها، واختفائها.  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون