الثور والساقية

الثور والساقية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كانت المرأة الزوجة مطحونة في ميادين حياتها الحلزونية كجندي حقير تُصْطَفَى روحه برصاصة مقصودة أو لغم أو حتى طوربيد ضال ليشتري المجد للحلات العسكرية النظيفة الجالسة على المقاعد الوثيرة، ومن يقتات على وجودهم من الرؤوس الكبيرة التي ـ حين تثور لأتفه الأسباب ـ فإنها ستقلّم أشجار الزينة خاصتها تحت ظلال سماء ربيعية خطتها الطائرات النفاثة ذات مرة وذهبت!

قال المراقبون ممن وهبوا بعض البصيرة: “كم هي باسلة تلك المرأة الحقيرة”. وكانت هي تتمتم لنفسها:” كم أنت حقيرة أيتها المرأة الباسلة

لم يسمعها أحد وهي تتمتم أبدا، فقد كانت تجيد إخفاء مثل هذه الأمور، كما تخفي عينيها خلف النظارة ذات العدستين السميكتين، وشعرها الأسود الخفيف خلف طرحة سوداء لا يتغير لونها أبدا؛ وكأنها استعاضت بها عن شعرها الطبيعي، وذقنها الذي يتحلى بطابع حسن لطيف يختفي خلف شعيرات سود قصيرات ملت التخلص منها. يبدو أنها تعاني من فرط هرمون الذكورة ـ هذا من الناحية العلمية ـ على أن التفسير المجازي المبهج، والذي تقبله بمنتهى السهولة، هو أنها امرأة بمائة رجل على الأقل! ـ كما يقول المثل ـ أما لماذا ترهّل جسدها رغم أنها لم ترزق بأطفال، فهو سؤال لم تجهد نفسها للإجابة عليه، وتركته لاختصاصيّ التغذية الذين طالما حذروا من الطعام منخفض القيمة الغذائية. وربما لهذا السبب اعتادت أن تخفي تفاصيل جسمها في عباءة سوداء فضفاضة تقوم مقام الساونا صيفا، وتجمع دفء أشعة الشمس شتاء. حتى اسمها الرسمي كان مختفيا أغلب الوقت وراء اسم “دلع”، أو اسم شهرة دشنته العائلة منذ زمن بعيد. هي لا تدري من أسماها ذلك الاسم الجميل:”سما”؛ لكنها في أشد الامتنان له. هي أيضا لا تدري تحديدا من حول “سما” إلى الاسم الأكثر شيوعا “سامية”؛ لكنها كالعادة قالت لنفسها بصوت خافت:” هكذا أفضل“.

النساء من مواليد برج الثور ـ اللائي تنتمي إليهن ـ كادحات. ناجحات. طموحات. يعتمد عليهن دوما. ربما في البداية يخاف الناس من الاقتراب منهن؛ لكنهم إن يفعلوا لن يندموا أبدا. هن أيضا متعددات المواهب، ومن أشهر مواليد هذا البرج العديد من الفنانين والأدباء كما تقول كتب الأبراج، ومن القائمة الطويلة علق في ذهنها ليوناردو دافينشي صاحب لوحة الموناليزا الشهيرة التي كانت تراها امراة متوسطة الجمال طيبة القلب! كانت مجرد قراءة هذا الكلام تشعرها بسعادة خفية، فقليل من جبر الخواطر لن يضير أحدا. كل شيئ كان مخفيا لأنه لا فائدة من كشفه تقريبا! هذا ما تواسي به ذاتها في لحظات اليأس التي تنقرض بمرور الوقت!

هواياتها محدودة. بل واحدة وهي مشاهدة أفلام محمود ياسين ـ نموذج الرجل كما ينبغي أن يكون بالنسبة لها ـ السينيمائية خصوصا أفواه وأرانب، والخيط الرفيع. طقس تستعد له باللب والسوداني والشاي بالنعناع، وتفضل أن تمارسه بمفردها أو بصحبة أختها. ربما يخالجها شعور أكبر بالذنب إذا كان زوجها جزءا من الطقس. زوجها كان رجلا كادحا، وصديقا بطبيعة الحال ـ وإن كان المصطلح خافيا على ذهنه لأنهما لم يطرحاه للمناقشة سابقا، وزوجا يملك العطف ولكنه يخفيه لأسباب لا أحد يعرفها، وثورا جبارا تتعلم منه الثيران كلها!

محمود ياسين بجسمه الممشوق وذقنه الخضراء وصوته الباذخ بالرجولة كان صقرا طليقا تطالعه الثيران بحسد وإجلال، فيحرر عقولها قليلا من سجن جماجمها الحجرية لتحلق في السماء! مشاهدة محمود يس كانت طقسا لذيذا يكلله في نهاية الأمر شعور عميق بالذنب وقليل من لوم النفس، وإيمان باستحالة التخلي عنه. أفيون حياتها، وما خلا ذلك يعد جزءا لا يتجزّأ من الساقية! الساقية التي أدمنت الدوران فيها، وينبغي على الساقية أن تدور بلا كلل كتعاقب الليل والنهار، وربما بلا مزاج أو شغف أو حتى أدنى مقدار من التفكير في ماهيتها أو وظيفتها، وعلى الثور أن يكون قويا، ومعصوب العينين، لأنه لو تأمل أرجله، سيسقط حتما، وربما دهسته الساقية بحوافها المعدنية الثقيلة.

دورة الساقية تبدأ من حيث تنتهي بعد الفجر مباشرة حيث ينبغي عليها أن تقف في طابور العيش البلدي للحصول على ما يكفي إفطارهما ـ هي وزوجها ـ وغداء مشتركا مع أولاد أختها. تفرش رغيفا رغيفا على قفص الجريد حتى لا “ينفقع”، فيفقد نصف خواصه الحميدة على الأقل، ثم تجلس بجانبه على الرصيف قليلا، ثم تحمله على رأسها في طريقها للمنزل. تفتح الشبابيك كلها لشروق الشمس، ونداءات البائعين على الفول، والخضرة الطازجة، والجرائد. صحن متوسط من الفول بطحينة السمسم لزوجها الذي سيعود من النوبتجية بعد نزولها للعمل، وإفطار طازج لطيورها البياضة فوق السطح، وجريدة الأهرام تغطي طبق الفول. تتمشى إلى عملها. تجلس خلف الأعمدة الحديدية لشباك قطع تذاكر المراجعين من المرضي بالمركز الصحي. بعض الاشتباكات بلا خسائر تقريبا. يجتمع الزملاء لتناول طعام الإفطار. اليوم بلا شهية. تقطع التذاكر مرة أخرى بجانب كوب من الشاي. يتكالب الجميع على دفتر الإنصراف. تتسوق خضروات الغداء وتستريح قليلا في كل شارع من أثقالها تحت وهج الشمس. توقظه من النوم حين تأتي أختها وأولادها. مساكين بلا ثور. يستمر بمطالعة الأهرام. تحضران طعاما له رائحة ثوم شهية. يشاهدون مسلسلا بالتليفزيون. تغفل عيناها عدة مرات أمام الشاشة، وتفيق على صيحات الأطفال في أذنيها: “يا ماما. يا ماما”. تبتسم بوهن. يخرج زوجها حاملا الجريدة تحت إبطه. تستعد لارتداء ملابسها. تتمشى إلى عملها. ربما تنعشها نسمات العصاري الحنونة، وتحثها على المتابعة. تقطع التذاكر الاقتصادية. بعض الاشتباكات بلا خسائر تقريبا. تعود إلى البيت معها عيش فينو وجبن ثلاجة يحبه الأطفال. لو جلست وحدها في البلكونة، فما الذي ستفكر فيه؟ سؤال بلا إجابة.

ينامون. الفجر. الخبز الذي يجب ألا يفقد نصف خواصه الحميدة على الأقل. نوبتجية زوجها في المصنع. يداه المنهكتان الخشنتان. صحن فول مغطى بوعود الحكومة. دجاج ينقض على البرسيم. جلباب أسود يتمشى في الطريق إلى العمل. تذاكر مرضى. تذاكر اقتصادية. مناوشات. فول وشاي يغتال ما فيه من حديد. جسمها يوجعها. غداء ومسلسل. حسابات الشهر، وموازنات الإنفاق. هل ينبغي أن تخلع عصابة العينين ولو لدقائق؟ ما شكل العالم الموجود خلفها؟ استغفرت الله. شعرت بأن خلع العصابة يشبه إجراء عملية تجميل في وجهها في حكم الحرام شرعا! ولما امتلأ رأسها بالأفكار دون جدوي، نفضتها عنها، وامتلأ رأسها من جديد، وفي غمرة دوران تلك الأفكار أفلتت فكرة سيئة لم يعترض طريقها أحد. بنشاط وسرعة قامت تحضر ورقة بيضاء وقلما، لتعيد تشكيل ميزانية الشهر واقتطاع قسط مالي صغير مقابل جهاز فيديو سيعرض أفلاما لمحمود يسين فقط.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون