فرج مجاهد عبد الوهاب
يتابع الروائي المصري سعد القرش شغله الإبداعي على ثلاثية روائية، الممتدة علي مساحات مكانية مختلفة، وأزمنة حياتية متغايرة، لتنتمي اصطلاحا إلي ما يمكن القول: بأنه شغل روائي طويل قائم علي أحداث متعاقبة، تنتمي إلي أفق واحد، من الممكن أن يكون: اجتماعيا، وجدانيا، سياسيا، لذلك غالبا ما تكون ضخمة الحجم، متعددة الأجزاء يستغرق تأليفا زمنا، في الوقت الذي يمكن قراءة كل جزء في رواية النهر علي حدة، بوصفها رواية مستقلة بذاتها مع أنها تؤلف جميعها عالما روائيا موحدا، يدور حول نواة سردية تجسد قصة مكان وزمان وشخصيات وصراع، يتابع الراوي تاريخها والدخول في تفاصيل حياتها، ورصد تحولاتها، وسرد وقائعها التي ترتبط بخيط درامي متصاعد، يشد أجزاءها، ويمنحها قوة الدفع باتجاه تحقيق الهدف العام في المتابعة والكشف والنقد، منطلقا من قصص الشخصيات وحكاياتهم المتواترة، إلي قصة المجتمع عامة، وفي مرحلة تاريخية محددة، وبذلك تتسع الرؤية إلي مثل هذا الشغل حتى تكون الرواية بأجزائها التي غالبا ما تكون ثلاثية، قصة المجتمع بأسره بل الإنسانية جمعاء، فما دامت الحياة واحدة يجب أن تكون الرواية واحدة وإن تعددت أجزاءها، ولعل في أشهر الروايات العربية التي اشتغلت علي مصطلح رواية النهر (ثلاثية نجيب محفوظ، ومدن الملح لعبد الرحمن منيف، ورواية رباعية بحري لمحمد جبريل ورواية أرجوان للروائي التونسي محمد المختار جنات).
وهذا ما يشتغل عليه مبدعنا، فبعد أن قدم روايته الأولي (أول النهار) يقدم الجزء الثاني (ليل أوزير)، والجزء الثالث (وشم وحيد) أما الخيط الذي يشد العمل، فهو الدخول الحر والواعي في مسارات الحياة في أمكنة محددة مرموزة للكشف عن الظلم الذي لا ينتهي، والذي يتوالد كالذباب ولا يموت، ينتقل من الأب إلي الابن فهو وباء موروث الضعف والاستكانة، مقابل القدرة والقتل والجبروت .
وما (أوزير) إلا بلدة سواء أكانت واقعية أو متخيلة – وهي غالبا قرية بوسط الدلتا- فهي رمز الهدف الذي اشتغل المبدع عليه وغايته في الكشف والاكتشاف عن مساوئ بلدة أفرزت ثعابين استغلاليين استطاعوا بما وفرته الظروف لهم بأن يضعوا البلدة وناسها تحت سيطرتهم لقد أعاد (الحاج عمران) بناء قرية (أوزير) التي محاها الفيضان منذ أكثر من خمسين عاما، ظلت خلالها القرية مثالا للتسامح والعيش المشترك حتى آلت الأمور إلي حفيده عامر، الذي جرفته الملذات بعد أن حاول أغراب اغتياله، مما شكل فرصة ذهبية لمنصور القهوجي، لأن يستغل ما جري، فأوقع القرية في حجره، وبارتفاع سردي سريع جمع الخيوط كلها بيده ثم انتقلت إلي ابنه (خليفة ) علي مدي أربعين عاما كانت تشكل فترة الصراع بين قوة مستبدة عمياء، وبوادر وعي كلما حاول الناس امتلاكه سدة منصور عن طريق القتل والخطف والأعوان الدروب الموصلة إليه، ومع أنه من المفروض أن ينتهي كل ليل مهما امتد الظلم فيه إلي صبح مشرق حاملا علي راحتيه الحرية، فإن ليل أوزير الطويل لم ينبلج عن فجر مضيء وإنما عن كارثة أكلت كل شيء في أوزير التي تفرقت إلي مجموعة من الغجر أغاروا علي دار سيد أوزير (عامر ) فاستغل منصور القهوجي الفرصة وأعلن: إن تسليم سي عامر إلي هؤلاء الأغراب خيانة لعظام الترب، لأرواح آباء وأجداد، وإن هؤلاء أعداء سيقتلون السيد، وينهبون البلد وينتهكون حرمات النساء وينبشون القبور، مما ألهب النفوس، فأعملوا في الأغراب الشقارف والفؤوس والعصي غير منتبهين لرجاء سيد القرية الإبقاء علي أي منهم حيا ليعرف سر المباغتة، ولكن الفرحة بالنصر لم تنسهم رصاصة كادت تخطف روح السيد لولا فطنة منصور القهوجي في اللحظة المناسبة ليبدأ تنفيذ مشروعه في الاستيلاء علي القرية وسيدها المولع بالنساء عامة وبزوجته زهرة.
يغلق منصور قهوته حيث كان مشغولا بأمور لا يفصح عنها، لا يعود إلي داره إلا متأخرا، لا تهفو نفسه حتى إلي رؤية ابنه (خليفة) حيث وصل إليها أن زوجها ملازم لسيد أوزير لا يفارقه، تذهب لتشكوه وعندما دخلت دار عامر كان كل من فيها مشغول فطلبت منها إحداهن مد يد المساعدة “لم يخل وجه زوجها من بشاشة لا تفارق كل من في الدار، فاجأتها طريقة استقباله لها، لم يفاجئه حضورها بدا لها كأنه ينتظرها، سألها عن سبب تأخرها.
ـ من العصر وأنا أنتظر وصولك أوشكت أن تجيبه بالفعل، لامت قلبها الضعيف، ورأت أن تتجاهل الكلام الحلو من زوج مخادع يريد تدمير أعصابها وإفساد خططها فلا تشتكيه لسيد القرية، ص25 .
بدأ منصور بمراقبة المترددين علي دار عامر، وحفاظا علي أمنه أوصي منصور البناءين بتعلية سور الدار ومنع دخول أحد إلي الدار إلا بموعد سابق فأصبح منصور السيد يحكم بين المتخاصمين حسب هواه ص28 . وبدأ المركب يسير بما يريده منصور في غياب عامر الذي لم يبد اعتراضا، أزال القهوة وارتفع مكانها برجا للمراقبة، أمر موران المعماري ألا يبني دارا تزيد علي دورين، كما أمره بتعلية السور المحيط بأوزير، كما أمر (كارلو البندقي) بالبحث عن نبات يزرع علي حافة التربة المحيطة بزمام أوزير لاستيعاب مياه الفيضانات والسيول سرعان ما ارتفع السور والأبراج والنبات، واستحال علي أحد أن يدخل أوزير إلا عبر البوابات الثلاث، ومن مكانه الأعلى رصد المراقبين في الأبراج من لا يراه أحد باستثناء مؤذن جامع سيدي عمران الذي أناط به وخليفة تبليغ الناس بأشياء يرغب نشرها وإذاعتها علي أن يبحث عن شيخ أعمي ليؤذن في المسجد بحجة أن صوت العميان فيه نداوة وخشوع، وهم بحاجة إلي الخاشعين حتى يزول أعداء الله الفرنسيس، لقد حول الشيخ إلي مناد كان أول نداء له “من سي عامر لأهل أوزير الكرام، يستحلفكم بالله ألا تتأخروا في الغيطان، وبعد صلاة المغرب ممنوع الطلوع من بوابات البلد، وبعد صلاة العشاء تطفأ الفوانيس حتى تزول الغمة برحيل الفرنسيس “وجاء في النداء الثاني أن الفرنسيس عادوا، وربما يقتحمون أوزير في أي وقت، قال المؤذن في ختام النداء: ممنوع خروج الحريم أو إشعال الفوانيس في الشارع بعد المغرب، ويسخر عامر من النداء غير المعقول، فيسأل زهرة عن غباء منصور الذي لا يعي أن السماح بإشعال الفوانيس قبل المغرب لا يفيد أحدا، بل هو فعل المجانين، أما إشعالها داخل الدار في الليل فلا خطر منه”، ص37.
يستمر منصور في حصار عامر وبقاءه في قصره العالي، ووزع رجاله في منحنيات الشوارع والحارات المؤدية إلي دار عامر ومنع الناس المرور بها إلا جيران السيد.
تخرج زهرة بصحبة خادمتها إلي البحر فمن هناك ذهبت هند إلي حيث لا يعلم أحد، وقفت تتأمل النيل عسي أن يعوضها عن أهلها في المغرب، في طريق العودة نادتها المرأة مستغيثة، قالت: ابنها الرضيع يحتاج إلي لبن، وتخشي مخالفة الأوامر وإن خرجت فلن تعود كما لم يعد زوجها قبل أيام، ولما لم تسمح الأسياخ الحديدية بمرور رأس الصغير، أخرجت ثديها الأيمن والتقمه فم الرضيع، وتكشف أن منصور علي علم بكل ما جري معها، تطلب ابنتها عائشة التي راحت ترضها، وفي الصباح أخبرها عامر أن الفرنسيس عادوا مختبئين كما أوهمه منصور الذي أعلن علي لسان المؤذن بأن من لديه سلاح من الحرب الأولي عليه تسليمه ليوزع علي من يختارهم للذهاب إلي الحرب، ليخلي القرية من أي سلاح من الممكن أن يهدده يوما ما، وتزداد جرائمه فاستولي رجاله علي الكنيسة ومنع كارلو وموران في دخولها وفرض علي الفلاحين توريد خمس ثمار الحدائق وسمح لهما ببيع الثمار علي أن يدفعوا خمس الثمن وعمم ضريبة الخمس علي كل المزارعين.
تضم زهرة الطفل الرضيع إليها بعد أن سمته إبراهيم ليعيش مع عيشه ابنة زهرة ويحيى وإدريس ابنا عامر من زوجته المتوفاة، يطلب منصور من توفيق أن يهتم بتربية ابنه خليفة وتعليمه والعيش معه في طنطا وكراء مدرس خاص لتعليمه الحساب والكتابة وشيخ لتحفيظه القرآن ومدربا يجعله فارسا ص63، وبغياب توفيق أغلقت بوابتا أوزير القبلية والغربية.
يركز منصور علي المؤذن وإصدار الفتاوى حسب هداه وبما يخدم مصالحه وأن نصيب الخمس ضريبة وافق عليها إمام الجامع. ص69.
ويعلن أن سي عامر نوى الحج ودعا سبعة لزيارة النبي معه، وفي مولد السيد البدوي لمحت زهرة توفيقا وفي يده خليفة فعرفت أنه يشرف علي تعليمه في المدينة وفجأة يختفي الحارس المكلف برصد موران ويعلن منصور بأن الله سبحانه ساق لنا النصاري أعداء الإسلام بمعارف نجهلها في الوقت الذي كان رجال منصور يتابعون حجاج أوزير تكفيرا عن ذنوب ناس أوزير ويشير إلي النداهة التي تغوي الرجال ص100.
وتقول زهرة لعامر: إن منصوراً أصاب كثير من الناس بالجنون ص104 .
فأوضح عامر لمنصور أن هناك حروبا تعالج الحمقى وتشفي المعتوهين تساءل: هل ترمي الحروب الأكثر قسوة بكثير من العقلاء إلي الجنون ص104. فيري منصور بأن لعنة النصاري أصابت أوزير محاولا انتزاع أمر منه بطرد موران وكارلو الذي جاء بنبات نما شيطانيا في كل مكان، ص105.
ويقتل منصور توفيقا ويشيع بأن الجن قتلته لأنه أقام في أرضها وآذي صغارها الذين عبثوا بجثته، لكن آخرين قالوا: إن منصوراً قتله بخوف كان مهنة توفيق عندما كان رجله القوي، ص113 .
ويكبر الأولاد وهم لا يدرون ماذا جري وراء جدران قصر أبيهم ويطلب حسن عائشة وأقيمت الأفراح وجهز للعروسين غرفة واسعة ويروي الراوي بخفة دم لقاؤهما الأول وحين رأت ما اعتبرته وتدا في غير أرض هربت إلي أمها من حيرتها لم تجد البنت كلاما أشارت إلي ما بين فخذيها، ثم قالت بخوف وابتسامة لا تخفي العجب، قال لي: اخلعي هدومك وأنا رفضت، قعد علي الكرسي وطلع له من تحت هدومه وتدا، قرصتها زهرة في خدها، وأخذتها بعيدا وهمست في أذنه، ص129، في اليوم السابع تذكر حسن أباه وأمه فقد تذكر أنه يتيم ويأتي خليفة ابن منصور المستهتر الذي كان يريد عائشة لنفسه ليقدم التهنئة إلي العروسين، وتبحث عائشة عن حسن الذي اختفي فجأة في الفجر شوهد طافيا فوق مياه الترعة ويجد الإعياء عائشة وتواصل ضمورها وتكتشف أنها حامل، ص137 .
وتلد ابنة تسميها زهور ويفاجئ خليفة أباه بأنه يريد الزواج من عائشة ويعرف بأنه من دبر قتل حسن بواسطة أحد أعوانه ثم قتل من قتل حسن حتى تختفي معالم جريمته يفاجأ خليفة بعبارة مكتوبة على جدار منصور تقول..
وإن زمانا أنتم رؤساؤه/ لأهل لأن يخري عليه ويضرطا
فيحس بمرارة لاسيما بعد أن رآها الرجال وعلم الناس بها، فيأتي بعراف غجري وهدده إن لم يدل علي كاتب الكلمات بقطع رقبته فيدعي العراف أن من كتب العبارة هو أقرب الناس إليه فذهب ظنه إلي رجب خف الجمل فيأمره بوضع سم فوق الحروف قبل أن يلعقها ويبتلعها أو يبصق الحبر المسموم ينكر منصور علي ابنه سلوكه ووصفه بالرعونة وعدم تقدير العواقب رد خليفة وهو خائف:
ـ اضرب المربوط يخاف السايب.
ـ أدبه، اضربه بالفرقلة، لا تقتله بالسم، ولا تترك الكلاب تنهش لحمه.
ـ هو ورجالك استهانوا بي، نسوا أني كبرت، أنا في سنك يوم حكمت البلد .
تبسم منصور في أسي:
ـ كنت في سني، لكني ضحيت بجد، فديت بروحي سيد البلد.
سأله بتوجس واستنكار:
ـ وأنا لا أصلح؟
ـ أنت الأصلح.
وينصحه إن مات: “رد للناس حقوقهم قبل إعلان وفاتي حتى لا يفترسوك اعتذر عني، اطلب السماح فيحسوا أنهم في عهد جديد فيحبوك ويجتمعوا حولك، وينسوا بدايتك الشؤم “ص150.
تقام الأفراح في بيت عامر بمناسبة تزويج يحيى وإدريس وأغلق باب علي كل زوجين ويعتق عامر العبدين معلنا أنه “لا يبيت في داري عبد” في الوقت الذي كانت عائشة ترفض الزواج وتكفيها ابنتها زهور يشعر عامر بخيبة أمل ولديه في الزواج وبينما هو في تفكيره بما أصاب ولديه يأتيه أحد العبدين ليخبره أن رجالا يعرف وجوههم من أتباع خليفة خطفوا صاحبه ويبرر منصور فعلة ابنه بأن العبدين حاولا سرقة مراكب صيادين ضرب العبد وقبضا علي صاحبه، استمع عامر إلي كلام العبد مرة أخري ثم أقفاه في الدار، ص158 .
يقترح يحيى إبعاد خليفة وأبيه تحسر عامر علي أنه زرع منصورا ولا يمكنه اقتلاعه مرة واحدة، تنهد، وقال: “للدمامل جزء مقرف، سطحي، لو كشطته يا يحيى أو خدشته بظفرك يدميك، عليك بالصبر والحكمة حتى يطرد الجسم قيح الدمل لما تتكون طبقة جديدة في الجلد”، ص 159 .
وحتى يقطع منصور علي عامر أية فرصة للنيل منه، أتاهم نداء المؤذن قائلا:
“إن الطاعون ظهر في (سمنود والمحلة) وحذر الخروج من البلد ولو إلي السوق حتى زوال النعمة، ذكر أن إمام الجامع روي أن النبي قال: ” إذا ظهر الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا ظهر بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها ” .
علق يحيى : طاعون ؟ يا إدريس ” ص160 .
ويفاجئنا الراوي بموت عروس إدريس (سمعوا المؤذن يعلن موت أولي ضحايا الطاعون قبل أن يعرف الناس بموت العروس) التي غاب عن جنازتها إدريس، شاهدوه فوق الفرس، يشق الجموع غير مبال بالناس مخلفا وراءه غبارا يستقيم أو يلتوي مع تراب الوطن) ص163 .
إذا كان القسم الأول من الرواية الذي تمدد علي مساحة مئة وستين صفحة موزعة علي خمسة وعشرين فصلا كان بطلها الذي حمل عنوان القسم نفسه (منصور) فإن القسم الثاني جاء حاملا عنوان (إدريس) ليكون بطل الفصول الباقية في الرواية، فبعد غياب طويل يعود إدريس إلي أوزير مع زوجة وولد جالبا معه ثمرة فاكهة اسمها (مانجو) ويروي إدريس أخبار رحلته وكيف التقي بزوجته في عتاب وأساليب الهروب من الجهادية بقطع الإبهام وفقئ العين ويأتي خليفة يسلم عليه وتقدم له الفاكهة ويفاجأ إدريس بأن خليفة يعرف المانجة وأنه أمر بزراعتها مهددا بقطع لسان كل من يتحدث عنها ويري أن خليفة غير هائب في حضرة سيد أوزير وابنه ازداد امتلاء وصار أكرشي ص178
وهم في حوار حول ما جرى يأتي من يخبرهم بان منصور مات فيعلن متأثرا بموت أبيه وانه على استعداد لان يعيد الحقوق لأصحابها ويستغل إدريس وجوده في الجامع ويجابه الإمام في كثير من أقواله التي تناصر خليفة وريث الظلم والظالم .
في حين ينشغل الناس بإفطار أول يوم في رمضان، يحصى عامر السنين ويعود إلى مجابهه إمام الجامع فيما يقوله في كلام محترف يمشى عمرو بن العاص ويعود إلى الإنجيل يقرا فيه متحضرا عمرو بن العاص حتى ملك المدينة وينتقل إلي صفحات تالية تسجل ما فعله عبد الملك بن مروان، ص205، وما فعله ولده الأكبر (الوليد بن عبد الملك) يهتز كأنه يري عصيان (البشمور) في زمن الخليفة المأمون، ص207.
يتهم عامر ابنه إدريس بالغفلة إذ يوزع عافيته علي جبهتين، خليفة القهوجي وعمرو بن العاص، فيتفرق عنه الناس، ينضمون إلي صف خليفة، يقول:ـ
ـ خليفة هو الكفر يمشي علي قدمين، لا يصوم رمضان، ولكنه ما جاهر بمخالفة الناس، ص211 .
يأخذ إدريس زوجته صفية وعمران في أول الرحلة إلي الغيط بصحبة أمها ويروي كيف حاصره البرد في بلاد الروم ويطلب عامر منه أن يكتب كتابا لناظر الجهادية ثم يستدرك بأن الخطاب يجب أن يوجه إلي الباشا المعظم يسرد فيه ما أصاب القرية من ظلم خليفة وأبيه منصور. تحلو عائشة في عين خليفة ويقرر خطبتها من عامر، فبعد أن قال خليفة أنه يريد أن يكمل نصف دينه، يسأله عامر ساخرا:
ـ طمأنك إمام الجامع أن عندك نصف دين ؟
ـ الحمد لله .
ـ تعيش أربعين سنة بنصف دين، ولا تقلق .
ـ قسمة ونصيب، يعلق إدريس: تضمن ألا تكون المرأة نصف الكفر لا نصف الدين؟
يجيب بثقة: أضمن أن تكون الدين كله، لو من بيت كرم وأصول ص255 .
ويصل خبر إلي إدريس وخليفة أنهم فتحوا قبر منصور وصلبوه، ويرجح إدريس بأن خليفة هو من دبر ذلك كي ينتبه الناس إلي أن للبلد كبيرا إذ لم يعد البعض يبالي به وبرجاله ص 227 .
يؤكد عامر لإدريس أن يستعد للرحيل عن أوزير .
مرة أخرى هبت رياح الخماسين، تلقي إلي الدار بابن منصور ليخطب زهور يباغته عامر بدعوته ورجاله إلي الغداء فيتوجس خليفة خوفا متذكرا مذبحة القلعة ويطلب من رجاله أن يقتلوا كل من يطلب منهم نزع أسلحته .
يستقبلهم عامر ويصحبهم إدريس إلي الغرفة ويدس في جيب كل منهم ثمرة مانجو يوضح عامر أنه يستأذن خليفة لمشاركته غدا في مهمة سرية تطمئن القلوب ويحتفظون بأسلحتهم .
في الحارة يهيئ إدريس العربة لسفر طويل، مستدعياً عشرين من زملاء الكتاب لتوديعه، تضع الخادمة العلف أمام الفرس، تحمل الغداة أول رجال خليفة يدعوه إدريس للدخول، يقوده إبراهيم إلى غرفه بعيدة يحذره عامر أن يستغيث ويتوعده بتأمينه ما لم يحاول الفرار يستسلم ويتبعه الآخرون بينهم من يطيع وبعضهم يقاوم فتعالجه الخادمة في الخلف بضربه من يد الفأس، يتفقون على أن وصول العدد إلى ثلاثين كاف لإخبار الناس ومطالبة خليفة بتسليم نفسه ص241
يستعرض إدريس بعض الشكاوى فيجد أن ما يمتلكه خليفة لا يكفى رد جزءا مما استلبه، يقترح احدهم: دم خليفة يكفينا، ويهرع الناس فلا يجدون أثرا له فيهجمون علي بيت خليفة وينهبون كل ما فيها ومع الغروب يجهز الناس النصبة ويحتفلون بإعادة افتتاح القهوة.
ويتقاذفون السؤال: “أين الظالمون الغاصبون من الوشاة ومساعدي منصور وخليفة ومصاصي الأرزاق والأعمار؟
يجيب أحدهم: من تسلطوا علينا أربعين سنة وتجبروا ما كانوا والله شياطين نزلت من السماء، يعلق آخر: الشياطين تعشش في الرؤوس ولا تسكن السماء” ص246.
مع الغروب يحتل خليفة ورجاله قلعة منصور وأبراج المراقبة ويطلب عامر الذي بلغ التسعين من عمره أن يرحل فالمدن غير مؤمنة لكنها أقل نفاقا يكفي أن معك مالا وأهلا وامرأة مؤمنة بك.
يعجز الرجال في عبور البوابة المغلقة بقش وحطب مشتعل يحرق نبات أبو لبن الأخضر بصعوبة يدخلون الحارة يرون عامرا وزهرة قد تركا دارا تنهبها النيران، تقف علي قدمين ثابتتين بلا عصا، وزهرة تمسك بطرف شاله، تمسح به دموعا، وهو يقلب وجهه في سماء الله يناجيه، بيننا وبين نبوءة العرافة عشر سنين فلم توف بها قبل الأوان؟
تقعد زهرة، وتنظر إلي عامر، تري رأسه يشق السحاب، يسأله: أكان لابد أن تتطهر أوزير بحريق يأتي علي الناس والديار؟
تنهض زهرة بتثاقل تتعلق بيد عامر وهو يشير بيده الأخرى إلي السماء وطرف اللهب يقترب ص 252 .
مابين عامر المستهتر، ومنصور وابنه خليفة المستقلين وإدريس وإخوته قامت قصة (أوزير) القرية الهادئة التي نزلت وأهلها في حجر منصور وابنه ليعيثا فيها الفساد، والسيطرة، وقتل كل من يتنفس بغير هوائهما وأهوائهما، أو يشكون بخروجه عما فرضا، فارتفعت الأسوار وانتصبت الأبراج، وحوصرت دار سيد القرية، ووضعاه في إقامة جبرية غير معلنة، يراقبان حركاته وسكناته وكل من يدخل داره أو يخرج منها، لتشكل حالة ليست غريبة عن كثير من الحالات التي شهدتها أو تعيشها مناطق كثيرة، أفسح الخوف فيها والجهل كل المسالك المساعدة لطامع ذكي في الوصول إلي رأس السلطة، وهو يمارس أدهي صنوف المكر والدهاء، ففرض علي أهلها العزلة وابتكار الحجج ونشر الرعب مستغلا رجل الدين لنشر أفكاره فيطرح من أجل بقائه واستمراره فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان وهنا تبدو براعة المؤلف في طرح رموز روايته، وطرحها بالحالة والإحالة، من خلال مسرود روائي محكم بقي ماسكا خيوطه الأساسية، ليست الخيوط التقنية والسردية التي ربطت فصول الرواية الأربعين فقط، وإنما بما سبقها في الجزء الأول من مشروعه الروائي الطويل، وتاركا الخيط علي غاربه متماسكا وقويا ليدخل في نصية الجزء الثالث مشكلا تجربة روائية من تلك التجارب القليلة والصعبة في الوقت نفسه والمنتمية إلي مصطلح (رواية نهر) المحتاجة إلي أفق تخييلي واسع، وقدرة إبداعية واعية، وأدوات لغوية وأسلوبية خاصة، قادرة علي التوغل في تفاصيل حياة مجتمعية متكاملة وممتدة عبر أزمان متوالية وأمكنة متعددة، يجمعها هدف واحد هو الكشف عن مساوئ تلك الأزمان التي أسهمت في ظهور الطفيليين الأذكياء واستحواذهم علي السلطة بطرق مختلفة الجامع لها أنها غير شريفة.
وإذا كانت روايات النهر تعتمد علي الغوص في تفاصيل أجيال متعاقبة تنتمي إلي أسرة مجتمعية واحدة كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته فإن مبدعنا لم يكن معنيا بتفاصيل أسرة واحدة في مجتمع كبير تحيطه وتحكمه القوي المستقلة، ولذلك لم يتبن مكانا واحدا، أو أسرة معينة، بل اختار أمكنة مختلفة، وشخصيات متنوعة، وأحداثا مختلفة نشأت وتطورت ضمن مناخات متعددة، ولكنها متحدة في غايتها، وهي الكشف عن حالات الفساد والقوة والهيمنة والتوريث، وإخضاع العامة إلي السلطة الخاصة وقد استغلوا حتى الدين والتاريخ ورجال الدين في نشر مبادئهم وزرع بذور التفرقة بين الأطياف المجتمعية وهذا ما ميز مبدعنا في فعله التقني والموفق علي ثلاثيته الروائية الفاضحة والكاشفة لكل رموز الفساد والمفسدين، من خلال رموز لأرض افتراضية وشخصيات بأسماء مستعارة، وإن كانت سمائها غير غريبة علي واقعنا المعاصر وما أنتجه من حكام فاسدين وشعوب ضعيفة مشحونة بالحقد، مختنقة بالثورة، منتظرة أول شرارة لها حتى تنطلق سيلا يجرف من ظلمها واستغل خيراتها لسنوات زادت علي الأربعين ولعل من أهم ما يلفت النظر في رواية (ليل أوزير) تلك النهاية التي أحرقت القرية من دون أن تؤزم حالات الغضب المدفون في أعماقها لتدفعهم إلي ثورة حقيقية تقضي علي الظالم المستبد خليفة الذي بقي في القرية يشهد احتراقها بينما صاحب الأرض والسيادة الحقيقية خرج منها هاربا ولكنه ليس هروب الخائف المستسلم، بل هروب المؤمل ” تقعد زهرة وتنظر إلي عامر، تري رأسه يشق السحاب، يسأله: أكان لابد أن تتطهر أوزير بحريق يأتي علي الناس والديار؟”
تنهض زهرة بتثاقل، تتعلق بيد عامر، وهو يشير بيده الأخرى إلي السماء، وطرف اللهب يقترب ” ص252 .
لذلك لم يكن ليل أوزير الطويل الذي لم ينته بالفجر، وإنما بكارثة من النهايات المفتوحة علي الأمل مؤسسة لعلاقات جديدة ترك أبوابها مفتوحة لفصول الجزء الثالث من مشروعه الروائي الطويل الذي أضاف إلي مصطلحه تجربة روائية مهمة جديرة بالاهتمام لأنها شكلت رافدا مهما لهذا الفن الصعب الذي قل مبدعوه لاحتياجه لأدوات إبداعية خاصة لم تكن بعيدة عن متناول الروائي القدير سعد القرش.
……………………………………
1ـ سعد القرش قاص وروائي مبدع صدر له عدد من المجموعات القصصية والروايات التي كان من أهمها تلك الثلاثية الرائعة .
2ـ صدرت رواية ليل أوزير عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة عام 2008 .
3ـ صدرت رواية أول النهار الجزء الأول من الثلاثية عن الدار المصرية اللبنانية عام 2005، تناولت دراستها في دراسة سابقة.
اقرأ أيضاً: