“إنجيل مها”.. عندما يستدعي الحاضر الماضي

إنجيل مها
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عـزة مـازن

في روايته الخامسة والأحدث “إنجيل مها” يلقي الدكتور “حسن هند” بخيوط السرد المتشابكة، التي تبدأ من ثورة يناير 2011 وتنسل عائدة إلى بدايات القرن العشرين. تستنطق الرواية أهم الأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بها مصر، منذ العصر الملكي وحتى قيام ثورة يناير ودور جماعة الإخوان في الإستيلاء على الثورة. يتبادل السرد بين عهدين، العهد الجديد والعهد القديم، في محاولة لكشف أسباب اندلاع ثورة يناير وسرد تاريخ جماعة الإخوان في تخريب الاقتصاد المصري ومحاولتهم الدؤوبة للدخول في المشهد السياسي المصري، منذ بداية القرن، لصالح جماعتهم، وعلى حساب مصر والمصريين.

تُستهل الرواية  بتمهيد، “11 فبراير 2011″، بصوت الراوي عن مها، حفيدة السنهوتي باشا، تحتفل بعامها الخامس والعشرين وسط المتظاهرين: “مها حفيدة حلمي السنهوتي باشا سليل أسرة الباشوات تبدأ عامها الخامس والعشرين، أرادت الاحتفال بعيد ميلادها في ميدان التحرير بين المتظاهرين، لا أحد يعرفها، قالت لنفسها “يجب أن تكون معي أمي ثريا السنهوتي، يجب أن يحضرا ناسين أنهما أبناء باشوات، يجب أن نتطهر من أدران الماضي.. مما فعله الأجداد، يجب أن نخرج من بحيرة الثورة المقدسة أطفالًا مولودين بلا ماض ولا حتى ثانية واحدة من الماضي يا أبي”. وهنا تتجمع خيوط الحكاية في تكثيف بالغ وغموض يتكشف على مدى السرد، حيث تنفرج الخطوط في تبادل بين عهدين، الجديد والقديم، مستهلًا بالعهد الجديد وخروج مها إلى الميدان متسلحة بأحلامها ونقاء روحها: “سارت وسط الحشود تتحاشى تحرشًا محتملًا حتى وصلت إلى كتلة بشرية وسط الميدان وشعرت بالإعياء والاختناق ووجدت يدًا تنتشلها وتلمسها برفق شديد، كانت يد شاب طويل نحيل تعلو وجهه علامة صلاة واضحة ولحيته تصل إلى منتصف صدره، وفجأة قفزت إلى ذهنها عبارة أغرقتها في الضحك “أين التحرش”، وخاصة أن من ينقذها شاب يبدو من سمته أنه سلفي”! يرتدي الشاب قناع االحنو والرقة، الذي يخفي انتماءه إلى جماعة الإخوان، فتنخدع مها برقته وسماحته وتتساءل: “كيف أتخلص من الشاب الودود الذي يعاملني كحمامة ويرفق بي ويبدي سماحة تختلف عن نظيره الذي اعتدى علىَ بالبيض في الماضي؟! هل سيظل وديعًا؟ هل تستمر هذه الروح أم سيتغير كل شىء حين تميل لهم الكفة” ؟

ينتقل السرد إلى التمهيد الثاني، بصوت الراوي، ومشاعر حلمي باشا السنهوتي المختلطة تجاه ثورة يوليو 1952 في أيامها الأولى: “كان حلمي باشا السنهوتي يشرف على إعداد حقائبه للسفر إلى فرنسا لقضاء الصيف مثل كل عام حين أذاع الراديو قيام الجيش بحركة مباركة، دعا بيان الجيش الشعب للهدوء وقال “لقد قمنا بتطهير أنفسنا”. ولم يستطع حلمي باشا تحديد موقفه.. كل ما فعله أن أعطى أوامره بتأجيل السفر حتى يحدد موقفه في شركات بنك مصر وأملاكه وأملاك زوجته وأمر زوجته والمربية، ألا يتركا ابنته الرضيعة والوحيدة ثريا التي أنجبها في عمر الأربعين”. وكأنما ثورة تستدعي أخرى، فتصبح ثورة يناير انطلاقاً للحديث عن العهد الجديد والظروف السياسية والاقتصادية التي أدت إلى قيام هذه الثورة، وتنفرج الخطوط متوجهة نحو الماضي فتستدعي ثورة يوليو 1952 وما سبقها في العهد القديم من تفاصيل سياسية واقتصادية سبقت قيام تلك الثورة في العهد القديم وأدت إليها.

تنقسم الرواية إلى 29 جزءًا، يتناوب السرد في كل منها بين العهدين الجديد والقديم، في استدعاء للأحداث بينهما في سلاسة مدهشة، وإن كانت متشذرة، يغيب عنها التسلسل التاريخي، إلا أن تفاصيلها تظهر في النهاية في لوحة مكتملة المعالم.  يدور السرد في العهد الجديد بلسان الراوي العليم، بينما يتناول حلمي السنهوتي دفة الحكي بضمير المتكلم، ليكتشف القارىء قرب النهاية أنها مذكراته التي تركها، وعثر عليها ابنه حسن السنهوتي في مكتبته.

في الجزء الثاني وتحت عنوان “العهد الجديد” يعود السرد إلى لسان الراوي، ليغوص عميقًا في نفس الشاب الإخواني أحمد عطية، الذي يعاني مشاعر الاضطهاد وتتملكه رغبة دفينة في الانتقام. في منامه يطارده حلم مزعج يرى فيه نفسه صبيًا “يصحو من نومه مبكرًا في الصباح ليذهب للعمل في حقل السنهوتي باشا، يمر مع أبيه ببيوت العمال الذين يجمعون القطن في حقل السنهوتي، يوقف العمال أمام الحقل وينزلون بخطوة منتظمة ليتسلم كل منهم خط القطن الذي يجمع القطن منه” . ويتساءل: “لماذا يصحو فزعًا من هذا الحلم على صورة وجهه متقلصًا من الألم منذ قابل مها حفيدة السنهوتي باشا في ميدان التحرير؟ عرفها للوهلة الأولى.. إنها صورة طبق الأصل من جدها الباشا الذي كانت صورته تتصدر جدار منزل السنهوتي باشا بالقرية”. على مدى الرواية تنفرج خيوط السرد وتتشابك لتتكشف العلاقة بين أحمد عطية ووالد مها، الإخواني الذي يعمل لصالح جماعته، وأمها ثريا السنهوتي، “العروسة في مسرح العرائس” التي كانت تتخيل أنها تمسك بكل الخيوط ولكن العكس هو الصحيح”. منذ قابل أحمد عطية مها في ميدان التحرير، يطارده الحلم بصور مختلفة مخلفًا مشاعر الألم واحتقار الذات: “صورة الحلم تتكرر كل يوم بصورة مختلفة ولكن المحصلة والمعنى واحد، يتقلص الوجه وتنهمر الدموع من عينيه كصنبور مياه. من أين تأتي كل هذه الدموع؟ إلا أنه رأى عددًا من العقود يظهر على الشاشة كعرض لفيلم وثائقي، عقود بيع عمارات سكنية.. أراضي فضاء.. أراضي زراعية.. كلها باسم “أحمد عطية” ولكنها لصالح الشيخ والد مها ولحسابه. رضى بأن يكون من “الكواحل”.. هكذا قال لنفسه وابتسم بغم مكتوب “رضيت بأن أكون كحولًا لصالح آخرين من أجل لقمة العيش”.

كان السنهوتي صديقاً لقطبين من أهم الأقطاب السياسية في العهد القديم، السنهوري والهضيبي. يصفهما السنهوتي في مذكراته بأنهما “قائدين.. كل منهما يمسك بجناح.. الأول في جناح السلطة والثاني يقود جماعة تمتلك جانبًا كبيرًا من الشعب ويحميها جزء من السلطة ومدعومة من الإنجليز”. ويذكر السنهوتي أيضًا اغتيال الإخوان للنقراشي، واعتناق الهضيبي لمبادىء الإخوان الذي يصل إلى حد العقيدة. في زيارة إلى منزل الهضيبي يحكي للسنهوري عن زيارة حسن البنا المفاجأة له بعد اغتيال النقراشي وتعاطفه الشديد مع الرجل. يكتب السنهوري في مذكراته معلقًا: “انصرفت من منزل الهضيبي مهمومًا من أجله، وقلت لنفسي “هل نسى الهضيبي أنه قاضٍ؟” وربما يكون البنا مراقبًا وخفت أن أحذره لأنه يظن أن انتماءه للإخوان شىء ينتمي إلى العقيدة  لا يحق لأحد مناقشته فيه”. وبالفعل يتولى الهضيبي رئاسة الجماعة بعد رحيل حسن البنا.

“التاريخ يعيد نفسه” عبارة تتكرر في مذكرات السنهوتي، ويؤكدها الضابط ماهر في تقريره عن حسن السنهوتي، الذي يستغله الإخوان، ممثلين في زوج أخته ، في التلاعب بالاقتصاد المصري لصالح الجماعة. يحذر الضابط ماهر حسن من غدر الجماعة إذا اكتشفوا تجسسه عليهم: “أنت لا تعرفهم.. “التاريخ يعيد نفسه”.. وسترى”. كان حسن السنهوتي وأخته ثريا استسلما لاستغلال زوج ثريا الإخواني لهما في مشروعاته الإقتصادية المشبوه التي تضر بالاقتصاد المصري لصالح الجماعة، بعد نهب ميراثهما. على طرفي النقيض يقف حسن مع أبيه السنهوتي، رجل الاقتصاد الذي كافح في سبيل اقتصاد مصري حر في ظل الاحتلال. بعد أن اكتشف حسن ما يدبره له زوج أخته العجوز، أخذ “يحاسب نفسه حساب الملكين، ويؤنب نفسه لأنه شعرة في بحر هذا الذئب، فكيف أخطأ هذا الخطأ الجسيم”؟ وقف حسن أمام صورة أبيه يعاتبه على مواقفه النزيهة، التي كانت نهايتها أن تركهم فقراء، وفي حديثه مع النفس يتضح الفرق بين صاحب المبادىء الذي يبني، والضعيف الذي يسمح أن يكون أداة وألعوبة في يد من يهدم: “وقف ونظر إلى صورة أبيه في إطارها الذهبي، وقال له “أنت من صنع بنا ما نحن فيه.. من أنزلنا هذه الهاوية ورضى لنا بالهوان، أنت رجل مزاجي.. لم تقترح الإصلاح الزراعي وتسع لتطبيقه، لماذا لم تستفد مثل جيهان أبو العلا بكل أوراق اللعبة في يدك (….) التحقت ببنك مصر في عصره الذهبي وكنت تسافر كعضو قانوني في اللجان التي تشتري الماكينات للمصانع.. ومنها ماكينات شركة مصر لحلج الأقطان، وكانت تمنحك الشركات الأجنبية التي تصنع وتصدر الماكينات عمولات كعُرف تجاري، وحال عودتك كنت تضع القيمة المالية للعمولة في خزانة الشركة بطلب مكتوب تودعه يد طلعت حرب شخصيًا” ويواصل كيف استعان به أصحاب مصانع غزل الأقطان للسفر لشراء آلات الغزل وحلج الأقطان: “كنت تسافر ولا تحصل على أي عمولات بدعوى أن ذلك الاتجاه يسير في صالح الوطن ولمحاربة الإنجليز (….) كنت صديقًا لقطبين من أقطاب السياسة السنهوري والهضيبي، ولم تستثمر علاقتك بهما في تحقيق أي ربح مادي”. في مقارنة صارخة يذكر حسن كيف صار على النقيض من أبيه: “أتعلم يا أبي أني سرت على نفس الخط الذي رسمته ولكن بالممحاة؟ يا أبي أنا سمسار.. أبيع السوق المصرية للشركات متعددة الجنسيات (….) يا أبي إن الشعيرات الدموية تنقل الدم إلى الأوردة والشرايين ثم تنتقل إلى القلب، وهكذا تنتقل الأموال إلى الخارج. ولكن ماذا أفعل يا أبي؟ لقد صرت وحيدًا يا أبي؛ أختي أممها الشيخ العجوز الذي سرق أموالنا بتوكيلات صحيحة بعد أن وضعنا ثقتنا فيه على مدار سنوات.. قلنا إن هذا الذي يبدي التقى والورع أفضل ممن أخذوا أموالنا في الإصلاح الزراعي والتأميمات، إنها قصة دائرية معقدة.. ولكن إلى متى”.

في أحداث الإتحادية تسقط كل أقنعة الإخوان. في الجزء الثامن والعشرين “العهد الجديد.. أوراق الغرفة 2013 تستيقظ مها لتجد نفسها في المستشفى ملفوفة بالضمادات “تحاول أن تعدل من وضع جسدها فتصرخ.. ألم شديد في كتفها، تفاجأ بأن يدها معلقة مع كتفها في جبيرة من الجبس.. تشعر بأنها خرجت من زلزال قضى عليها”. ولم يكن ذلك الزلزال سوى هجوم ميلشيات الإخوان على على المتجمعين في ساحة قصر الاتحادية احتجاجًا على الإعلان الدستوري الذي أصدره محمد مرسي، الرئيس الإخواني أنذاك كي “يحصن كل قراراته من الطعن عليها قضائيًا..”. شاهدت مها محمد عطية “يقود زملاءه للاعتداء عليها وشاهدته سابقًا يرمي القنابل على المتظاهرين في شارع محمد محمود، وسمعت من أمها والضابط ماهر – كل على حدة – أنه يتم استخدامه من والدها مثل الكَحول الذي يبيع ويشتري باسمه لصالح الشيخ، وتفجرت فضيحة علاقاته النسائية بسيدات متزوجات وغير متزوجات(…)”. في قصر الاتحادية “تلاقت عيناهما وهو يومئ لزملائه بالاعتداء عليها، وصرف نظره سريعًا بعيدًا عنها كأنه لا يراها، وتركهم يركلونها بالأرجل ثم يضربها أحدهم بسكين كبير في كتفها”.

تنتهي الرواية بمها تقود سيارتها خارجة من المستشفى وتتأمل ماحدث، فتشعر “إنها الآن تقف على الأعراف، فقد تم تحويل الزيت “السيولة الثورية إلى خرسانة مسلحة، ولكنها لا تعبر عنها أو زملائها، فقد أخذ مرسي وجماعته كل شىء.. وكأنهم روبوتات تم إبعادهم عن المشهد وتفكيكهم كقطع غيار. قالت لنفسها “لابد أن تعود الروح، لسنا آليين.. لابد أن يعود الصفصاف والنخيل”. وبالفعل تقرر “أن تقوم بتوصيل جهاز الكمبيوتر بالتيار الكهربائي وتعيد تشغيل ويندوز الثورة.. وتقوم بتجميع زملائها لإعادة تنفيذ ما خرجوا من أجله أو ما بدؤوا فيه يوم 25 يناير”. بتلك العبارات الختامية يومئ السرد إلى ثورة 30 يونيو وإنقاذ مصر من حكم الإخوان.

 “إنجيل مها” رواية مدهشة، تتناول تفاصيل جوهرية في العهدين الجديد والقديم. جاء الإنتقال بين العهدين في سلاسة تمزج بين الواقعي والمتخيل. يكشف السرد قدرة الكاتب، الدكتور حسن هند، وتمرسه في الغوص عميقًا داخل الشخوص وتصوير العلاقات العاطفية والإنسانية المتشابكة، ممتزجة بأحداث تاريخية مفصلية في تاريخ مصر، فقدم عملًا إبداعيًا ممتعًا وثريًا وكاشفًا، تتكشف جوانبه المتعددة وطبقاته المتوارية مع كل قراءة جديدة.

 

مقالات من نفس القسم