فارس محفوظ
يحدث أنك لم تفارق عزيزا فراقًا بحجم موتٍ أو خيانة، ولا يمنع هذا عن قلبك الانفطار حين تقرأ نصًّا هذه رِقّته عند توديع حبيب. ديوان البهاء حسين تفيض عن سطوره المأساة، لكنها، مع ذلك، أزمةٌ في غاية الشِّعر.
نقرأ عن حبيبٍ مقتنياتُهُ: سحابٌ وبعض العذوبة، تلك التي تبقى طويلا منبئةً بوجوده وإن غاب، إرثه: لمسةٌ على يد، وعناية تُصيّرنا أطفالًا، ومَعِدة تكنّ الامتنان، أو قُبلة على خد عصفور. والموت -كما يراه الشاعر- بائعٌ متجول، بينما الفقد، العنصر الأبرز في اللوحة ( حتى خُيِّل لي في بعض أوقات قراءته أن الديوان كلَّه مرثية، للحبيب والأبناء والأصدقاء حينا، والشاعر لنفسه أحيانا)، استحال هُويةً؛ فمَن كان يحسب أن ينظر إلى شخصٍ لا يعرفه فيعرفه؛ لأنه فقدَ جيهان!
كما يمكنك أن تنظر -ههنا- الحرمان في عيني أرملة، لكن، هل فكرت أن بقرة تجترّ حنينك؟ الشِّعر وحده يسمح لك بالحقد على حيوانات تمارس حبها بحرية.
وعلى الرغم من كل تلك الأخيلة الضاربة بجذورها في تربة الجمال الخصبة، فكل قصيدة، بل كل عبارة، لا تبعُد عن تمثّل الواقع تمثُّلًا موازيًا، الواقع العادي الذي قد لا يستنبط منه غير الشعراء كل هذا القدر من الجمال. فنقرأ عن نساء عاديات، لكنهن الشِّعر ذاته. نقرأ أيضًا عن حياة أُسرية معتادة، لكنها بيت القصيد. وبدون مثالية زائفة يفتح لنا الشاعر شبّاكًا على زوجين يتعاركان على تسجيل عقد البيت باسم مَن فيهما، وعلى مشهد في محكمة الأسرة، وعلى موت الأصدقاء بانتهاء علاقتنا الفيسبوكية معهم، كأنما يفرض سيرياليةً، لا على الشِّعر وحده، بل على الواقع ذاته الذي يتمثّله في شعره:
«مات لي أصدقاء كثيرون
لأنني حذفتهم من حسابي
ورحتُ أتمشى على صفحاتهم بالماوس
كأنني أمثل بجثثهم
أو أنكّل بالذكريات».
كذلك، وبلا مخادعة، نقرأ عن مُحب أدمن الحب لا المحبوب. وعن آخر أحبّ حُبًا كاملًا لا يخجل معه أن يكون حبّه عيانيًّا، يمثله جسدٌ بلا عيب -في نظره بالطبع، لا في عالم المُثل، غير أنّا، إذا فحصنا ما بجُعبة مُحبٍّ عن حبيبه، لخال لنا أنّا نتحدّث عن عام المُثُل!
كما لا يدعنا الشاعر من دون تصوير مشاهد الخيانة، لكننا، ويا للعجب! نجد أن مساحةً من التعاطف قد تسللت إلى وعينا دون أن نحس، مع هذا الخائن الآسف. وهذا اعترافه:
«أظن لو أننا تزوجنا
كنت ستحرسين قبلاتنا
المصحف الصغير، البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي
غير أني مشيتُ معك وراء جسدي
ومشيت معها عاريًا
من جسدي وقلبي».
بسلاسة يضعنا الشاعر أمام القوانين الحاكمة لتصرفاتنا، تلك التي لا نريد الاعتراف بها، أمام الدستور البشري الذي نتنصّل من سريانه علينا كما على الجميع، لأننا لا نرى الضعف حين يكون منا ولا نحاكمه إلا إذا بدر عن الآخر.
وأمام القيمة الاستثنائية للأشياء البسيطة كأكياس البلاستيك والستائر، نرى أنه من الممكن عقد علاقات حية معها، واجترار تعاطفها:
«يعزّ عليّ أن الوردة المرسومة، في ستارة المطبخ، سوف تجف
لأن حبيبتي غابت».
أسمع، منذ بداية الديوان، من عمٍّ طيب، فيضَ ذكرياته قبل ربع قرن، أتنصّت برفق، أحزن وأفرح، وأتمنى مع كل نهاية قصيدة أن أكون هذا العم -بما عاش جميعًا- يومًا ما. واحتفاءً بالقصائد الاثنتي عشر، عاودتُ قراءتها، حتى أربط الرؤى التي خِلتُها اثنتي عشرة كذلك، لأصلَ في النهاية أن الرؤية واحدة، تظلل على الديوان من بدايته وحتى آخر سطر فيه. رؤية محكمة متماسكة وناضجة، إذ لا تأنف، مع تماسكها، تطوّرًا في مصلحتها، عبر الصفحات.
ففي قصيدة يتساءل:
«مَن فطمَ يدكِ من يدي؟».
وأمكث بملاحظتي تلك: لمَ اليد تحديدًا، في مركزية كل تلك الأحداث؟ حتى أحوز الجواب في قصيدة أخرى، تبعُد ستين صفحة على الأقل:
«كنتُ أضع كل عواطفي في يدي».
في (عِجل يلهو..) نجده يُقرّ:
«ما أجمل الحب حتى في الهاتف؟
المهم ألا يكون فمُك عاطلًا عن القبلات
مثل فمي».
أمّا حين يحرِّق الوقتُ شوقًا مزيدًا، نسمع بقصور الحب في الهاتف في (سألوِّح لك من النافذة يوم الخميس):
«الهاتف لا يمكِّنك من ارتجال حضن
الصوتُ ليس خيطًا يلضم شقّين بإبرة».
«الفمُ البعيد لا يُطفئ الشوق».
«كلُّ ما يقوله صوتُك هو الحقيقة يا إيمان
غير أن الأجساد تقتات على الحب
لا تجيد الانتظار ” .
وفي كلتا الحالتين: التراسل والتطور الذي يحكمه الوجدان، يتسلّل المعنى من بين أصابع يد الديوان، في أناة تكبت الشوق حينًا، وصدمات تؤججه حينًا أخرى، فلا يسع القارئ إلا الانتهاء من قراءته في جلسة واحدة، والذي قرأه لا يسعه سوى العودة إليه مرة أخرى، ليتكشّف له المزيد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، الديوان صادر عن الهيئة العامة للكتاب