كيس لب

رشا سنبل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رشا سنبل

خطت فاتن بإحدى قدميها على الرصيف.. فانتشلتها سيارة وأطاحت بها على الأرض، كانت ليلة قفز لذهنها فكرة شراء قِرطاس من اللب، حيث مقلة رجب، تلك التي في الجهة المقابلة من الطريق، منطقة تختلط فيها الأصوات، لتصنع ضجيجًا معقدًا كنسيج حديدي حول الأذن.

حين عادت فاتن من العمل، تناولت غذاءها، باذنجان وفلفل أخضر، مقليان، حشرت بعض منهما في رغيف عيش بلدي، وبعض أوراق من الجرجير، جلست لترتاح من تعب العمل، تنهدت ارتياحًا وسط هدوء البيت النادر، من سكون صوت أمها الأجش، المرتفع، المليء بالبصاق، كادت ترشف فاتن من كوب شاي أعدته، حينها طرأت فكرة شراء قرطاس اللب، حيث أعدت نفسها لسهرة على فيلم جديد، لبطلها المفضل، أمها تغط في النوم، وأخيها مثل كل الليالي خارج المنزل، ووالدها ممدد في مقبرته بأول طريق الفيوم!

منذ صغرها وتستقبل حواسها الضوضاء والزحام والصراخ بشكل طبيعي، حتى اليوم الذي زارت فيه زميلة لها في جامعتها، تسكن في حي راقٍ جديد، لطم الهدوء حواس فاتن، تباعد الصور والمسافات أعطاها الفرصة لاستيعاب أجزاء المشهد المليئة بالتفاصيل! بينما الضيق والزحام كما في حيها السكني، يجعلا كل شيء مشتبك، تستحيل فك مفردات صوره، يختلط كل شيء فيه حد التماهي، ليٌسقط معه فاتن في عمق الاستسلام!

وقت وضعت زميلتها صينية الشاي وكعك البرتقال، واستأذنت لدقائق، تأملت فيهم فاتن المكان بتريث، ليتفتح عقلها عن حياة لم تعرف بوجود مثلها من قبل، وحين عودة زميلتها، همست فاتن الكلمات برقة لم يخبُرها لسانها من قبل:

  • شكرا ليكِ.  

لم تعرف من أين خرج صوتها الناعم، حركة رأسها التي تمايلت برقة، تصرفت كأنها تربت مع زميلتها في نفس المنزل منذ صغرها.. بلعت فاتن ريقها، تجرأت، فطلبت منها ما ذهبت له! وظيفة في مطعم والدة زميلتها الفخم، فبعد أن عمل والد فاتن كموظف حكومي، لخمسة وأربعين عامًا كاملًا، أصابه راتب المعاش الهزيل بيأس عظيم، فقررت زوجته الحل:

  • أوعى تشيل هم أبدًا، هانتصرف..!

هكذا حسمت الأم الأمر بصوت حازم، خلعت آخر قطعة مذهبة بيدها، اشترت بثمنها ملابس ومستلزمات لفرش البيوت، وباعتها لأخريات بالتقسيط المريح، عملت فاتن نادلة في مطعم، تملكه والدة زميلتها، أما كريم أخاها الأكبر، بعد أن كان لا يعرف غير الجلوس على كرسي المقهي، وقف طوال الليل للعمل في شركة خاصة كفرد أمن، وحينما اطمئن الأب على دخل أسرته، رحل بهدوء..

 ليلة قررت فاتن النزول لشراء اللب من المقلة، ارتدت عباءة أمها السوداء، وضعت خفها البلاستيكي في قدميها النحيلتين، وتركت كوب الشاي الساخن على المنضدة، فقدت فاتن القدرة على تحديد ما حدث.. لف الصمت محيطها، حضر هدوء غريب لم تعتاده، ووجدت نفسها وسط أناس لا تعرفهم، واجمون، عيونهم متحجرة، حينما همت بالكلام لم تجد في وجهها فم، ليس لها أذن، وعيناها تنظران قدر اتساعهما.. جمد الخوف جسدها كصوتها، رأت العيون التي تحدق بها بدون ملامح أخرى، مرعبة، وتحمل تساؤلات لا نهائية، عن تواجدها بين تلك الأجساد المخشبة، لمحت بينهم إمرأة تشبه أم زميلتها تحدق بها كجثة محنطة.. “أين نظرتها المدللة، أين صوتها الملائكي!” قالت فاتن برعب لداخلها الذي كاد يتمزق.. أرادت فاتن الحديث، فلم تستطع، رغبت في سماع أي صوت ولو مواء قطة، كتلك القطة التي تطعمها على سلم المنزل، وتتشاجر معها أمها كل يوم بسببها، كأحد موجبات العراك التي لا تنتهي، بدأ الوجوم يتحرك، يحيط بفاتن، يضيق حولها دائرته، وسط صمتهم وملامح فمهم الممسوحة، اقتربوا منها، أرادت أن تصرخ فيهم أن ابتعدوا، لكن فمها غير موجود، أياديهم اقتربت من جسدها، أظافرهم المحماة تكاد تطلها لتنهش بها، حاولت الوقوف فلم يطعها جسدها المخشب، أيقنت أن أمها هى الوحيدة القادرة على ابعادهم عنها، بصوتها المرتفع الذي لا يحجبه شيء، حاولت النداء عليها، لا فائدة، أرادت في تلك اللحظة، رؤية وجه أمها الذي تملؤه التجاعيد، أن تشم رائحتها الفواحة بالتعب، أن تسمع صوتها الأجش المرتفع، فألح الخوف يلف شرنقته المحكمة حولها، أغمضت عينيها فرأت صورة أمها، صعد صدرها وهبط بقوة، والدائرة الواجمة الملتفة حولها تلامس جسدها الملقى، فخرج صوتها منطلقًا بقوة:

  • يا ماما..

صرخت فاتن بأعلى ما تستطيع، لتجد نفسها ملقاة على الأرض، الكل يبتسم، يتكلم:

  • الحمد لله فاقت، قومي يا بنتي نشفتي ريقنا..

 فتحت فاتن عينيها، لتجد نفسها ممدة على الرصيف المقابل لمقلة رجب، تلك المقلة التي في الجانب الآخر من الشارع، وعم رجب يربت على كتفها:

  • ست فاتن!

 جلست فاتن وهى تنظم نفسها، تلمس وجهها وفمها، وانسابت دموعها:

  • عايزة حاجة يا ست فاتن!
  • عم رجب.. كنت عايزة.. عايزة كيس لب.           

 

 

مقالات من نفس القسم