قصص وروايات

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

مقهى بسيط، يُوَزِّع كراسيه على جانبَى شارع صغير يبدو مثل وَهْم أو فكرة، وتتفرَّع منه حكايات وفنون متعددة، فى واحدة من تلك التَفَرُّعات تجلس معًا رواية إيروتيك ورواية رومانسية وقصة واقعية حول طاولة صغيرة، فوقها ثلاثة أكواب من القهوة، علبة سجائر، ولاّعة، سلسلة مفاتيح، وفى الكرسى الرابع كتابان أو ثلاثة، ومجلة أدبية، وكيس شفاف بحجم الكفّ تنفرط منه أشكال صغيرة من حلوى مُلوَّنة.

بدأت الرواية الايروتيك بالعبث سريعًا فى الكتب، ونطقَتْ عنوان أحدها بعد أن غيَّرَتْ ترتيب حروف الكلمة الأولى من كلماته الثلاث، فجعلَتْه يبدو كمذكِّرة لتعليم فنون الجسد، ابتسمَت القصة الواقعية وغيَّرَتْ ترتيب حروف الكلمة الثانية، ليكون العنوان اسمًا لشارع تسكنه العصابات، وكانت القصة الرومانسية ترشف قهوتها فى نفس طويل بلا صوت، وتُرَدِّد داخل عقلها جُملَة تَصْلُح اسمًا لقطعة موسيقية، حَصُلَتْ عليه بعد أن غيَّرَت ترتيب حروف الكلمة الثالثة، ولَمَّا مدَّت يدها لتعيد قهوتها إلى الطاولة، لمَحَت رواية ضخمة، وبها بعض التَرَهُّل، قادمة من أحد تَفَرُّعات الشارع، فقالت بصوت مرتفع: “موسيقا”، دون أن يكون معروفًا إنْ كانت “موسيقا” هذه لها علاقة بشىء تفكر فيه أم بالرواية الضخمة.

 التفتَت القصة الواقعية إلى الرواية الضخمة، وقالت شيئًا عن ملابسها الفوضوية، وأنها تبدو دومًا وكأنها خرجت لتوِّها من معركة، ورفعَت الرواية الايروتيك صوتها بما معناه أن فوضاها جميلة، ولَمَّا لاحظَت الرواية الضخمة نظراتهن، توقعَّت أنهن يتكلَّمْن عنها، فاتجهت إليهن بهدوء، ووقفَت بإحدى قدميها فوق قدم الايروتيك وضغطَتْها بقوة، وجمَعَتْ ثِقَلَها كله فى هذه النقطة، والايرويتك تحاول أن تتحمَّل الألم وتنظر إليها مبتسمة، فتضغطُها الضخمةُ بقوة أكبر، وتأمرها: “قولى آآه”، والايروتيك تبتسم، تضغطها الضخمة أكثر: “قولى آآه”، وكرَّرَتْها مرة ثالثة بضغط ثالث، قالتها الايرويتك أخيرًا: “آآآييياآآآه”، ممطوطة ومعووجة كأنها تقولها فى سرير، ضغطَتْ الضخمة من جديد: “قوليها بجَدّ يا ملدوعة”، ضرَبَتْها الايرويتك على فخذها الضخم وقالت: “قلنا آآآآه.. خلاص”، كانت “آآآآآه” بجَدّ صادقة، ضحكَتْ الرواية الضخمة، ورفعَت قدمها، والتفتَت إلى كيس الحلوى، عبثَتْ فيه بتأن، واختارت فيلًا صغيرًا أَدخلَت زلُّومته كلها فى فمه لتمصُّها، وقبل أن تنصرف جذَبَت برفق خصلة من شَعر الرومانسية، ولطَشَت كتف الواقعية بكفَّها، فتأوَّهَت الأولى آهة خاطفة وضحكَت، ورفعَت الثانية صوتها لتقول “شكرًا بجَدّ”، وكانت الايروتيك قد سحبَت قدمها من حذائها القماش تتحسَّس ألمها، وتُبعثِر شتائمها بطريقة مُضحِكَة، وبدا ما فَعَلَتْه بهن الرواية الضخمة مزيجًا من المداعبة والعقاب.

 تركَتْهُن، وتوقفَتْ عند طاولة بجوار شجرة صغيرة، تُلقى بكتبها وحقيبتها إلى كرسى فارغ، وتُلملم بعض ترهلاتها لتحبسها تحت ملابسها، تجلس وتبحث بعينيها عند أحد تفرُّعات الشارع، ظهَرَت هناك رواية قادمة، تبدو فى نفس حجمها وعمرها، لكن بقوام متماسك دون ترهلات، ما يجعلها تبدو أصغر عمرًا، ويساعدها ذلك فى الحصول على نسبة أعلى من المغازلات، إلا أن الرواية المترهلة ورغم أىّ شىء، كانت تحصل على نسبة أعلى منها بكثير فى مناسبات مميزة، وشوارع لها مزاج خاص.

ترفع المُترَهِّلة ذراعها لتلْفِتَ نظر صديقتها صاحبة القوام المتماسك، فتتجه إليها وهى تنزلق بين الكراسى المتزاحمة، ولَمَّا تَصل تَسحب كرسيًّا من طاولة مُجاوِرة، وتسألها إنْ كانت صادَفَت الفرقة الموسيقية التى ظلَّت تجول وسط المدينة طوال النهار، وهو ما كانت تتكلَّم عنه خلفهما رواية قصيرة معروفة بجرأتها مع قصة طويلة معروفة بحبها للعبة تنس الطاولة، كانتا تتكلَّمان بحماس جَعَلَ متماسكة القوام تلتفت إليهما، وتقول إنها بحثت عن الفرقة فى كل شوارع وسط المدينة ولم تجدها، تدخلت المترهلة بأنها كانت تسمع عزف الفرقة طوال الوقت لكنها لم تعثر عليها، فتؤكد لهما القصة الطويلة أنها وصديقتها ظلتا تدوران مع الفرقة طوال النهار، حتى إن بعض العازفين سمحوا لهما باستعمال آلاتهم الموسيقية، فالتفتت إليها رواية معروفة بخيالها الجامح، لتقول إن الفرقة ليست إلا وَهْم موسيقى، فقد ظلت تطاردها طوال النهار دون أن تصل إليها، فقط، كانت تراها من بعيد فى شارع ما، ولَمَّا تتجه إليها تتلاشى وتراها فى نقطة أبعد داخل نفس الشارع، وهكذا ظلت تفعل معها فى كل شوارع وسط المدينة دون وصول، ثم تَشْرِد بعينيها وتقول إن هذا قد أعجبها وأمتعها كثيرًا.

 بينما كُنّ يتبادلن الأسئلة والأفكار حول الفرقة الموسيقية، وتَصْدُر عنهن حركات بالوجه والشعر، وإشارات باليد واللسان، كأنهن مجنونات، واهمات، حقيقيات، صادقات، كاذبات، ظهرت القصة “ومضة” فى مَدْخل أحد تفرُّعات الشارع، وهى تبحث بعينيها عن مكان خالٍ ومناسب لمزاجها، كانت صديقاتها قد أطلقن عليها لقب “ومضة” دون أن يعرفن اسمها الحقيقى، أو إنْ كان لها اسم آخر بالأساس، يناسبها جدًا أن تكون “ومضة”، فكلامها مختصر، مشحون، وفى نفس الوقت ليس مقتضبًا، خطواتها قصيرة وسريعة، ومقاسات أعضاء جسمها هى أصغر مقاس طبيعى لمن هن فى عمرها، رغم ذلك أو بسببه، فإن هذه الأعضاء واضحة وفعَّالة.

الكثيرات يلاحظن “ومضة” خلال اللحظات التى تقف فيها، وتُبادلهن الإشارات الخفيفة بأطراف أصابعها الرفيعة الحادة قبل أن تتجه للثلاث: الرواية الايروتيك، والرواية الرومانسية، والقصة الواقعية، فتتوقف بينهن، تداعبهن وهى تقول: “الحلوات اللعينات”، وتعبث بأطراف أصابعها فى كيس الحلوى الشفاف، وتضع فى حبة على شكل نجمة فمها، وتحتفظ بنجمة أخرى بين أصبعيها، وتتجه إلى المكان الذى اختارته، فتحصل مؤخرة فخذها على صفعة خفيفة من القصة الواقعية.

تجلس “ومضة” فى ظلام شجرة شابة، قريبة من طاولة تتجمَّع حولها بعض القصص والروايات، كُنَّ ينظرن لرواية تتكلم إليهن بطريقة مخيفة بعض الشىء، إلا أن “بعض الشىء” هذا سرعان ما يتحول إلى شىء كامل، لم تكن الرواية تتعمد أن ترعبهن، فهى مرعبة بطبيعتها، وليس ذلك بسبب ملامحها، فهى بالفعل جميلة، لكنها التفاصيل، الأداء الطبيعى، نبرة الصوت، الطريقة التى تنظر بها، مفرداتها الشخصية والكلامية، طريقة صياغتها للجملة، وحركات يديها التى تبدو بها وكأنها تُشكّل وجوهًا مرعبة أو تشوهها، كان بإمكانها أن تعزلهن عن كل هذا الزحام وتملؤهن رعبًا دون أن تقصد، هى تعرف تأثيرها، وفى نفس الوقت لا تتعمد أن تكون مرعبة، تستمتع بكون تلك طبيعتها، لكنها تتعمد أحيانًا أن ترعبهن، وعندها لا تعرف القصص والروايات إن كُنّ يردن الهرب أم البقاء، حتى من تهرب فإنها لا تفعل ذلك بشكل حقيقى، وإنما تظل عالقة فى المكان، كأنها داخل حلم مرعب وتحاول أن تجرى فتلتصق قدماها بالأرض، تحاول أن تصرخ فلا يخرج صوتها.

فى جانب آخر من الشارع، ذلك الجانب الأقرب لشوارع المدينة، والذى تأتى منه فى معظم الأحوال القصص والروايات التى تدخل المكان للمرة الأولى، كانت تقف قصة جديدة، وقد بدا عليها أنها عثرت أخيرًا على المكان بعد بحث ربما يكون طويلاً، ولاحَظَتْها بعض القصص والروايات القدامى، فأطلقن تعليقات تصلح أن تكون للمداعبة والعقاب معًا، كما يمكن أن تكون عن أىّ شىء، وفى الوقت نفسه لا يمكن أن تكون عن شىء أو أحد غير تلك القصة الجديدة، التى فهمت تعليقاتهن، وأرادت أن تتعامل معها كأنها تَخُصُّها، فكانت تنظر بقوة فى عيون القصص والروايات القدامى، وبدت لهن متماسكة واثقة فى نفسها، حتى إنها لم تجلس إلى أول طاولة صادفتها، إنما اخترقتهن وهى تضرب بيدها على ظهر بعض الكراسى ليُفْسِحْن لها، حتى وصلت إلى مكان يسمح لعينيها أن تغطيا أكبر مساحة ممكنة، فأخرجت مفاتيحها، سجائرها، وهاتفها، ووضعتهم أمامها على الطاولة، ونادت عامل المقهى بصوت مرتفع وطلبت قهوة قوية، هكذا تعمَّدَت أن تصفها بوضوح “قوية”، ومعها كوب ماء بارد، ثم تمشَّت بعينيها على كثيرات، وبحثَت عمن أطلقن التعليقات، إلا أن الجميع كُنّ مشغولات بأشياء أخرى، فقط، قصة واحدة كانت تراقبها بإعجاب من مسافة طاولتين، كانت تلك المُعجبَة قد ظهرت فى المقهى منذ أكثر من أسبوع، وما زالت تدخله شبه مُتَسلِّلة، وتجلس إلى طاولة ليست بعيدة أو قريبة من الأخريات، دون أن تجرؤ على البدء بمحادثة إحداهن، تنتظر حادثة ما، حادثة “قوية” ربما حتى تفعل ذلك.

يدور عامل المقهى بين القصص والروايات بالمشروبات والدخان، ليس فى حاجة إلى أن تطلب إحداهن منه شيئًا، فهو يعرف المشروب المُفَضَّل لكل واحدة، أو ما تحب أن تبدأ به ليلتها على الأقل، فقط القصة أو الرواية التى تأتى المقهى للمرة الأولى، يمكنها أن تطلب، لن يزعجها بالسؤال، فقط سيراقبها أثناء حَرَكَتِه، وإذا لاحظ أنها تبحث عنه سيَمُرُّ قريبًا منها ليمنحها الفرصة، يمكن لأيَّة واحدة أن تجلس كيفما تحب دون أن تطلب شيئًا، لن يزعج هذا أىّ أحد، يعرف أسماء الكثيرات منهن، ويصنع معهن علاقات لطيفة تسمح أن يسألهن عن أحوالهن العامة، وبعض أمورهن الشخصية، وعن الصديقات اللاتى لا يظهرن لعدة أيام، لا يتوقف عن الحركة طوال الوقت إلا لحظات قليلة، ومع الدخول فى الليل تزداد القصص والروايات، ويُحَوِّلن الشارع إلى حلم يتحرك فيه عامل المقهى، ولا يخرج منه إلا لَمَّا يذهب للبوفيه ليأتى بالمشروبات والدخان، فيظَلُّ طوال الليل بين دخول الحلم والخروج منه، ويكون الأمر ممتعًا ومربكًا ووهميًا له، ثم من وقت لآخر يحب أن يتوقف للحظات فى باب المقهى ويراقبهن، فتبتسم عيناه بذلك الوهم الجميل وهو يَرَاهُنَّ مثل حلمٍ صاحٍ.

كانت القصة “عبثية” قد توقفت منذ قليل عند طاولة الثلاث: الإيرويتك، والرومانسية، والواقعية، وبين لحظة وأخرى تلتقط “عبثية” تختار قطعة صغيرة من كيس الحلوى الشفاف، فتمصُّها سريعًا بصوت تتعمَّد أن يكون مسموعًا كجزء من متعتها، وتحكى أثناء ذلك شيئًا رأته فى الطريق، ربما يكون حادثًا صغيرًا، أو مجرد مرور لبعض الأشخاص، إلا أنها تحكيه مرات متتالية بطرق مختلفة، ومن نقاط بداية ونهاية عديدة، فيبدو مُحَيِّرًا وجديدًا وبلا نهاية أو بداية فى كل مرة، كان يمكنها أن تفعل ذلك لساعات، خاصة وأن طريقتها لا تخلو من مرح خاص، سخرية بعيدة النظر، وجنون مُحَبَّب يلهو بالأشياء، فيرفعها فى الهواء، ثم يلامس بها الأرض بخِفَّة.

 لَمَّا اكتفت “عبثية” من الحلوى توقفت عن الحكى، والتفتت إلى عامل المقهى الذى تصادف مروره بجوارها، وفرقعَت له بأصبعيها وابتسامتها، فهزَّ رأسه إيجابًا وقال وهو يكمل طريقه “حالاً..”، التفتَت “عبثيَّة” إلى “الثلاث” وقالت شيئًا عن فرقة موسيقية تجول وسط المدينة منذ الصباح، ولَمَّا سألتها “الواقعية” إنْ كانت قد رأتها بالفعل، هزَّت كتفيها بما يمكن أن يُفْهَم منه أنها غير متأكدة، أو لا يُفهم منه شىء، والتقطت حبَّتَى حلوى إحداهما على شكل درفيل والأخرى كمنجة، واتجهت إلى طاولة بعيدة خالية ظهَرَت فجأة، كأنما كانت تخبِّئ نفسها لأجلها، لمحت “عبثيَّة” فى طريقها إحدى صديقاتها جالسة بمفردها وسط الزحام، فألقت فى حجرها الدرفيل وقالت بمرح: “تعالى يا عجائبية”، لملمت “العجائبية” أشياءها، ربما ليست أشياء، وإنما تفاصيل، هى ربما نفس الأشياء العادية التى يمكن أن تكون فى أىّ مكان ومع أيَّة واحدة، إلا أنها تضيف إليها تفاصيلاً تُخْرِجها عن كونها أشياء، وتنزع عنها صفة عادية، وتجعلها تفاصيل ذات خصوصية ومزاج غريب، تفعل “العجائبية” ذلك فى كل مفردات حياتها، حتى أنها من الممكن أن تَقْلِب كيان جملة عادية بكلمة تبتكرها، يمكنها أن تدفع حكاية ما إلى الجنون برتوشها المفاجئة، وتلك الجُمَل والمعانى التى تظهر للوجود بسببها، ربما هو أسلوبها بالأساس، ولمْسَتها الخاصة.

 تجلس “العجائبية” مع صديقتها “العبثية” إلى الطاولة التى تُخبِّئ نفسها، وربما كانتا تنتظران تلك الرواية التى ظهرت فجأة من بقعة مُعتِمة صغيرة، كأنما خَرَجَت من قبعة ساحر، وتمشى كأنها نصف حقيقية، أو مشهد يطفو على الأرض، وشىء سحرى يحوم حولها أو تسبح هى فيه، ولَمَّا تُفرقِع لها “العبثية” بأصابعها، تلتفت إليها الرواية وتشير بأنها ستأتى بعد لحظة، هل كانت تحتاج تلك اللحظة لتمُرَّ على كيس الحلوى الشفاف؟ وهناك ستجد رواية “التاريخيَّة”، واقفة وبيدها حبَّة حلوى على شكل تنين برأسين، معروف عن “تاريخية” أنها لا تعرف تاريخ ميلادها، أو أنها تُغَيِّره كل مرة دون أن يعرف أحد إنْ كانت تعرفه بالفِعْل أم لا، هى لا تعرف أبدًا تاريخ اليوم الحالى الذى تعيشه أبدًا، فى الوقت نفسه، وبمجرَّد أن يَذْكُر أحدهم لها أىَّ تاريخ عشوائى، يمكنها أن تصنع لهذا التاريخ حكايات هى مزيج من خيالها وواقعٍ ما، فتجعل التاريخ العشوائى واقعيًّا وخياليًّا معًا، وهو ما تفعله الآن بعد أن سألَتْها “العبثيَّة” عن تاريخ صلاحية كيس الحلوى.

تتنقل القصص والروايات من طاولة إلى أخرى طوال الوقت، يتبادلن الأماكن، فيظَهَرْن جميعًا كصديقات، أو أن هناك خيط يمُرُّ بينهن ويتقاطع إلى ما لا نهاية، يرشفن قطرات صغيرة من أكواب بعضهن بعضًا، يتصفَّحن الكتب والمجلات، يتبادلن الحبَّات والأشكال الحلوة، والمالحة، تتناثر الضحكات، التعليقات، الدخان، يتبادلن بعض قِطَع الملابس الصغيرة، والأغراض البسيطة، الصحف، المجلات، الأوراق، الأفلام، الموسيقا، يتشاركن فى أكلات خفيفة، ويبدو المكان كأنه عالمهن، واقعهن، حلمهن، وَهْمهن، أو أنهن مَنْ يصنع هذا الواقع الخاص، الحلم الخاص، الوهم الخاص، هنا، يجعلن من الواقع موجة هواء تطفو بارتفاع قاماتهن، ويصنعن من الحلم عالمًا ملموسًا يتحرك فى المسافة التى يشغلها الشارع، ويجلس معهن على الكراسى حتى آخر الليل على الأقل.

هل يبدو الشارع منتميًا إلى المقهى، أم أن المقهى ينتمى إلى الشارع؟ هل يمنح الشارع بمكانه الماكر، وبساطته، وفنونه، خصوصية للمقهى، ويجعله رائجًا ومُستَعْمَلاً، أم أن المقهى بوجوده الذى يبدو عفويًّا ومُخَطَطًا له فى نفس الوقت هو ما يمنح الشارع خصوصيته؟

رغم كل الأسئلة المُحَيِّرة عن علاقة المقهى والشارع، إلا أنها لا تكون موجودة فى غياب القصص والروايات، ويكون الأمر أشَدُّ جفاء بينهما نهارًا، تحديدًا فى النصف الأول منه، حيث لا تظهر القصص والروايات إلا نادرًا، وإنْ ظهَرَت فإنها لا تكون على طبيعتها بشكل كامل، عندها لا يكون للشارع أو المقهى أىّ خصوصية، ولا يبدو أن أحدهما مهتمًا بالآخر، يظهران مُهْمَلَيْن، غير مُستَعْمَلَيْن، وغير رائجَيْن.

ولَمَّا يأتى الليل، وتظهر القصص والروايات، ويملأن الشارع، عندها فقط يصير المقهى والشارع رائجَيْن، وراغبَيْن فى بعضيهما بعضًا، ويكون واضحًا أنهما معًا ينتميان إلى القصص والروايات، هى التى تصنع وجودهما، وتمنحهما الخصوصية، وتجعلهما فكرة واحدة. 

ينتهى كيس الحلوى الشفاف أخيرًا، وربما مَرَّت الفرقة الموسيقية المتجوِّلة فى شوارع قريبة، ولمَحَتْها بعض القصص والروايات، أو سمعنَ موسيقاها، ربما جاءت الفرقة وقدَّمَت عَرْضًا خاصًا للمكان.

 فى كل الأحوال ستظهر الكثير من الأفكار فى الشارع وعلى الطاولات، وتقفز من رءوس القصص والروايات إلى أكواب القهوة والشاى، وتطير مع الدخان والضحكات، تتساقط وتتصاعد إلى ما لا نهاية، تسبح أحلام وأوهام كثيرة فى المكان، تطير إلى الهواء وتملؤه، حتى أنه يستدعى أصدقاء له، ليساعدونه على استيعاب كل هذه الأحلام والأفكار، التى تُغَيِّر أشكالها وألوانها بين لحظة وأخرى، لكنهم لا يستطيعون مهما استدعوا أصدقاءً آخرين، وفى النهاية يطلب الهواء من أصدقائه الذين استدعاهم أن يفعلوا مثله، ويتركوا أنفسهم لتلك الأحلام والأفكار.

فى وَهْمٍ ما، واقعٍ ما، حُلْمٍ ما، تبدأ القصص والروايات مُغادَرَة المقهى واحدة بعد أخرى، أو فى جماعات صغيرة، كأنهن حلم يتلاشى أو يتمشَّى فى الجوار قليلاً، إلا أن ظلالهن تبقى بالمكان، روائحهن، كلامهن، نظراتهن، ضحكاتهن، حكاياتهن، آثار أنفاسهن على الأكواب، وخطواتهن فى الشوارع، يظَلُّ جزء من أرواحهن عالق بالهواء، ويظَلُّ الهواء عالقًا به، يبقى الحلم مُمَدَّدًا على الكراسى حتى بعد أن يتم تجميعها داخل المقهى، وهناك، فى وَهْمٍ ما، واقِعٍ ما، حُلْمٍ ما، يظَلُّ مقهى وشارع وليل فى انتظار قصص وروايات.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون