وحيدة تدق الأجراس

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهال النجّار 

(1)

أخبرني أحدهم أن ثمة أصوات تخرج من غرفة المشرحة، وأنها ليست أصواتُ صراخ، بل أصوات حكي شخوصٍ أحياء. كان يجب عليّ تفقد الأمر، دلفتُ بخطوات ثابتة، شعرتُ بصقيع يغمر أنحاء جسدي كافة. تحسستُ يدي. اطمأننت لوجود الخاتم، انتقلت إلى صدري، تحسسته، ما زال قلبي ينبض لكنه بغتة طار عني في الهواء حين كنت فرحة بخاتمي. جميع الناس قلوبٌ راقدة عدا الأحياء منهم قلوبهم تطير.

رأيته يدور بحجرة المشرحة محمولًا على جناحين أبيضين كتلال الضوء. الغرفة قاتمة عدا قلبي يختزل النور كله، وكانت القلوب تتكوم منفردة كلٌ على سرير منفصل، وأخرى داخل ثلاجات مهيئة، مغطاه بالنايلون، متجمدة، تتفشى منها رائحة الفورمالين، جميعها مقطعة إلى أشلاء، ربما كانت حقلًا لتجارب الدارسين، الحمد لله لم يكن قلبي حقلًا لتجاربهم، كل شيء هنا ساكن، فقط قلبي يتبادل الدقات مع ساعة الحائط، تلك التي اخترقت أذني تن تن تن.

لا شيء هنا يتحرك سوى عقربين وقلبي. تفحصت المكان وكتبتُ تقريرًا لرئيسي بالمشفى بأن الأمور جميعها على ما يرام.

 

(2)

اجتزت الساعة من وقتها.. يومين، عامين، وربما دقيقتين، لا أتذكر.. أنا شاردة أحملق في خاتم الخطبة الذي انكسر، كل العالم يدور كاستدارة الخاتم. رأسي يدور. عقلي يدور. قلبي يدور في متاهاتٍ لستُ أعرف لها منتهى. أمشي بطرقٍ وعرة لا أدرك لها كنهًا. لا أشعرُ بحاجتي لشيء، أي شيء. فقدت رغبتي بالمحيط وبالحياة. أختنق من الزحام، يزعجني العابرون الذين يأكلهم نحوي الفضول، أود لو أطلق صراح النور، ويستحوزون عليه كله. ليتهم يصدقون أني لا أرغب في شيء.

مرة أخرى صوت جديد، حكي جديد، يخرج من غرفة المشرحة، جميع من بالمشفى يتملكهم الذعر. أخبروني بأهمية تفقد الأمر عاجلًا غير آجل. دلفتُ مجددًا. تفقدتُ ما تفقدته سابقًا، وفعلتُ ما فعلته في المرةِ الأولى، هذه المرة أيضًا كل شيء على ما يرام، حتى بدَر إلى ذهني أن أحدهم يتلاعب بي، أو يرغب في إصابة عقلي مثلًا.

 أنا لا أقبل بالتلاعب؛ لذلك قمتُ بمجازفة خطرة، وضعتُ عصابة على عيني، وحجرًا على قلبي، فلا رؤية لأشياء مريبة، ولا خوف يسكن جوفي. اخترتُ سريرًا فارغًا من الجثث، وأمرتُ جثتي بأن ارقدي عليه بسلام: أطفأت الأنوار وانتظرت، وإذا بحديثٍ يدور.

– أين أنت يا صاحبي العقرب الكبير، هل غفوت؟ ألم تقل إن الزمن لا يجب أن يغفو؟

– يغفو الجميع، والزمن يصحو ويعمل ولا يئن أو يتعب، ولا يتقاعد، وليس له حصص من الراحة، اطمئن، ما زلتُ على عهد الصحو يا صديقي.

– ماذا لو تقاعسنا عن العمل بعض يوم، نحن عقربا ساعة في غرفةٍ سكانها أموات، والموتى لا يشعرون بالزمن.

– ليتنا نستطيع، ولكن لا مناص إن نحن فعلناها، كل ساعات الكون تتصل ببعضها البعض، جميعها مقيدة في حلقةٍ واحدة.

– حسنًا سأغفو منفردًا.

– إياك، يا مجنون.

أنت

أيها العقرب المراهق

يا ويلي..

 بغتة أبهتني ما سمعت، حتى إني تملصتُ من السرير بثقلٍ شديد، رحتُ أجوب مناحي المشفى كافة. شعور موحش أن تتهالك في أركان اللاشيء، أن ينسحب عنك الزمن، ويسرقه أحدهم، ليسكن كل محيطك ذاك السكوت، فتنعزل كليًا، روحًا وجسدًا وحسًا، لا أحد هنا يشعر بخوفك، فقط تشعر بثقل يسكن أنحاءك. كنتُ أشبه وحيدة تدق الأجراس، خاصة بعد تعدد محاولاتي لإصلاح كل ساعات المشفى، ألا أن جميعها بكماء. تذكرتُ قولة العقرب الصغير “الموتى لا يشعرون بالزمن”. هرولتُ نحو غرفة المشرحة، وإذا بجثتي راقدة.

 ولكن كيف!! هل مت أنا؟ أم أن قلبي انكسر، كما الخاتم تمامًا، هل أنا جننت؟!

لا، ربما كنت أحلم، أنا أحلم لا محالة، لستُ أدري، لستُ أدري أي شيء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وقاصّة مصرية، من مجموعتها القصصية “لا لناهية للأنثى”.. الحاصلة على المركز الثاني في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة 2024

مقالات من نفس القسم