رقصة الموت

عرفة بلقات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عرفة بلقات

اقتربتْ كثيرا من مائدته.. وأطلقت العنان لرقصاتها وهي تحوم حوله من كل الجهات كمجنونة لا تعرف التوقف.. حرك يده اليسرى في اتجاهها لإبعادها ثم أشاح بوجهه عنها، بينما امتدت يده اليمنى نحو كوب الشاي المنعنع.. ارتشف رشفته الأولى فعلق ما طفا من خفيف ورق الشاي والنعناع في فمه.. حرك عينيه في اتجاه محيطه، ثم تفل.. تولاه شعور غريب بالقدرة على الخفاء والتجلي.. وغلبه إحساس بالإدانة فسحق برجله ما تفله كمجرم يريد إخفاء معالم الجريمة، ثم تنحنح واعتدل في جلسته، وسرعان ما بدت على أساريره علامات ارتياح مشوبة بفكر شارد وهو يملأ بصره بالمدى البحري الذي يبدو من مقهى بعين بوعنان، كشريط أزرق، تسبقه مساحة واسعة من سهل مرتيل.. ولم يفته أن يتأمل حياته بكل تناقضاتها وآمالها وآلامها.. وبدا له أن هذه الحياة مغامرة كبيرة لا يكفي خوضها فقط، بل يجب أيضا خوضها بيقين لا يعرف الخوف من الموت.. تأمله في حياته يؤذيه.. لكن تفكيره لا يتوقف.. ورغم توالي النكسات يردد دائما:” لا يزال بالإمكان أبدع مما كان”.. يعرف أن الغزالي سيغضب منه. لكنه رجل لا يملك إلا إيمانه بذاته ورغبته في مستقبل أفضل.. أحس بغصة في حلقه.. بعض الآلام يجب ابتلاعها.. مد يده نحو كأس الشاي عسى رشفة منه تُذهِب غصته.. أخذ رشفة وهو يحرك عينيه في كل تجاه ” عدت ثانية؟ يا لك من عنيدة مثل أفكاري.. عنيدة جدا لدرجة أنك لا تبالين بأي مخاطر ولو كان فيها هلاكك.. لا يُقبل على عناد كهذا سوى نفس تجردت لتحقيق هدفها بيقين لا تراجع عنه.. بصراحة أغبطك على هذا اليقين.. لكنني أنصحك بإخلاء المكان.. لا تفسدي علي هدوئي.. أرجوك.. ربما أنك لا تعرفين أنني نادرا ما أصادف هذا السلام الداخلي فأكون أكثر شغفا بالصمت.. أعذرك.. أنت أيضا عليك أن تعذريني وتبتعدي.. كما أنك راقصة خرساء.. لا تتكلمين ولا تجدين في نفسك من الحاجة إلى الصمت ما أجده في نفسي.. كل همك هو أن تنازعيني صمتي بهذا اللف والدوران كأنك مصرة على إيذائي.. هيا تنحي جانبا، لقد بدأت تصيبينني بالقلق.. أي مخلوق أنت؟ أليس لديك ذرة من كرامة؟ طيب.. طيب.. هل أطلب لك كأس شاي على شرفك؟.. لكنني لست متأكدا أنك ستكونين هادئة.. سيكون جنونا أن أطلب لك كأس شاي.. ربما نعتني بالتحرش بك.. من يدري؟ الأمر أصبح ملتبسا..” ابتعدت قليلا وهي ترقص رقصاتها المعتادة وتتمايل على بعض الزبائن على بعد أمتار منه.. خيل إليه أنها غادرت.. أخذ نفسا عميقا وعاد إلى تأمله.. لكنها عادت ثانية فاستشاط غضبا ” قريبا ستبدأ الحرب بيني وبينك.. دعيني أرتشف كأس شايي وأغادر هذا المكان بسلام، فأنت لا تعرفين حلمي حين يتحول إلى غضب.. يا للعناد.. أقول لك سرا؟ لا..لا. أرجوك، لا تقتربي كثيرا.. هكذا أفضل..” وضع ذراعيه على المائدة، ومال بنصفه الأعلى عليها والتفت برأسه يمينا ويسارا ليتأكد ألا أحد من الرواد يتنصت إلى ما يقول أو يراقبه من بعيد.. لم تُعِرْ حرصه على الاستتار أي اهتمام.. وحامت حوله كما لو كانت تغريه بأن يراقصها رقصتها.. ” يا للفضيحة.. استمعي.. أنا أعرف أنك حريصة على لقمة العيش.. وربما تعشقين رقصاتك هذه من أجلها.. لكن إياك أن تكوني كفراشة تريد أن تعانق الضوء ولكنها لا تميز بين نور ونار.. كل الذين عشقوا الضوء كفراشة ماتوا.. أنت تعرفين جيدا؛ في حالة العشق يلتبس النور بالنار.. العاشقون الفراشيون.. ماذا يبقى من عشق فراشة حين تموت؟ هيا.. كفاك رقصا ودعيني أهمس لك بهذه الكلمات.. الخبرة الوحيدة للفراشة هي تجربة الموت.. ماذا يبقى من عشق الفراشة للضوء حين تحترق؟ هذا ما تفعلينه أنت.. لقمة العيش قاسية، تجربة الحياة مأساة أيضا، لكنها ضد الموت.. الخوف من الموت شيء رهيب لكن، يجب ألا يفسد الإقبال على الحياة.. هل تريدين أن يكون قدرك كقدر فراشة؟ هيا دعيني أرتشف كأس شايي وأغادر هذا المكان في سلام..” لم يبدُ أن كلامه كان مؤثرا.. العادة أقوى والطبع يغلب التطبع.. وفي حركة سريعة صعدت راقصة فوق مائدته، وارتشفت رشفة من كأس شايه..ثم مالت على خده، فخيل إليه أنها تريد أن تقبله.. هب واقفا لهول الموقف، وما كان منه إلا أن صفعها صفعة أردتها أرضا، فأغمي عليها..” حذرتك من أن الحرب بيني وبينك قريبة جدا ولم تتعظي.. نصحتك فلم تفهمي..قطعت علي أفكاري.. حرمتني من احتساء شايي.. حُلْتِ بيني وبين سلامي الداخلي.. تجاوزت كل الحدود..” تنبه إلى نظرات استياء بعض الزبائن الذين استهجنوا أن يصفع المسكينة ويرديها أرضا، فشعر بارتباك.. ألقى بجسده على الكرسي وهو لا يكاد يصدق أنه ارتكب خطأ في حق مخلوق يسعى من أجل لقمة عيشه، كان قبل قليل ينصحه ولا يريد له أن يكون مثل فراشة.. وأحس أن القيم التي يحملها لا تجاوز أفكاره، وأن مشترك الحياة سرعان ما يتهاوى أمام ذات لا تكاد تشعر إلا بذاتها..” يا للخجل.. أرادت فقط أن تحتسي رشفة من كأس الشاي.. من أدراني أنها كانت ظمأى وأن أنوثتها سمحت لها بالرشفة دون إذن.. ثم من أدراني حين مالت على خدي أنها كانت تريد أن تشكرني على الرشفة وعلى النصيحة ثم تمضي..؟” طأطأ رأسه واجما، وانتابه شعور عميق بالذنب فقرر أن يسعفها ليكفر عنه.. أيُّ ضوء يمكن أن يعانقه الإنسان ليكون إنسانا؟ أشياء بسيطة قد تصنع الفرق.. ماذا يزعجه أن تشاركه كأس شاي.. ماذا يزعجه أن تحوم حوله، أو أن ترتاح فوق كتفه، أو حتى أن تطنطن في أذنه بأسرارها.. قد لا يعرف ماذا تريد، لكن من المؤكد أن لديها ما تقوله.. لا وقت للأسف عندما تضيع الفرصة عن الإنسان ليكون إنسانا.. لا يبقى من الوقت إلا التأبين.. قام من مكانه وقرر أن يسعفها فلم يجدها..” أين اختفيت الآن؟.. أنت مثل نومي أتركه فيقبل وأدعوه فينأى.. لا بأس بدلالك.. لكن أظهري نفسك.. أريد فقط أن أطمئن عليك.. أريد فقط أن أقول لك إنني آسف.. هل فات الأوان.. ثم لماذا لا يبدي هؤلاء الزبائن أي حراك.. هل أسعفها أحدهم وأنا غارق في تأنيب الضمير؟ ” عاد إلى مكانه وقد تملكه شعور بأنه إنسان لا يحتمل.. وضع كأس شايه بين يديه ثم ارتشف منه رشفة أحس بطعم حلاوتها القريبة من العسل.. ثم تهور وارتشف رشفة كبيرة كأنه كان ينتظر بفارغ الصبر أن يهنأ بها، فإذا به يرمي بالكأس بعيدة ويتأوه ألما من لسعة في لسانه.. هذه المرة حدثته على طريقتها المعتادة.. غاصت في الكأس واختفت خلف وريقات النعناع، في انتظار لحظة الخلاص لا كفراشة حين تخرج من شرنقتها نحو الضوء، ولكن كنحلة لا تعرف الاستسلام في سبيل لقمة عيشها.. وخزت أسفل لسانه ثم ولت هاربة كرصاصة فارغة.. انتفخ لسانه كثيرا.. وحام حوله كل الزبائن.. شعر بالشماتة في نظراتهم.. وشعر بأن نفَسَهُ بدأ يضعف.. وأيقن أنه سيموت اختناقا.. بصعوبة تناهت إلى سمعه نداءات من هنا وهناك تطالب بإحضار سيارة إسعاف.. لم يعرها اهتماما.. وحدثته نفسه عما إذا كانت النحلة التي كان يخاطبها أكثر تشبثا منه بالحياة وأكثر منه نضالا من أجل لقمة العيش؟ لم يمهله حتفه ليجيب.. كان قد مات..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون