شيرين فتحي
كانت تُمني روحها كل يوم بحبيب، تترك له مساحة خالية إلى جوارها باختيارها الجلوس على كنبة ميكروباص خالية تماما أو بالبحث عن مقعدين شاغرين ومتجاورين في الأتوبيس، كان ذلك يتم في كل رحلة صباحية إلى الكلية, على أمل أن يأتي الحبيب المنتظر في مرة ليشغل تلك المساحة الخاوية التي تركتها له على غرار قصص الأفلام القديمة ومشاهدها التي تحفظها عن ظهر قلب.
لم يتحقق الأمر إلا صبيحة أحد الأيام، وبينما كانت تستقل ميكروباصا إلى الجامعة كالعادة.. كانت كنبات الميكروباص الأولى مرصوصة على شكل صالون .. الكنبة الأولى مقلوبة، مما جعلها في مواجهة الكنبة التي كان من المفترض أن تليها.
لاحظته حين جلس إلى قبالتها ولم يرفع عينه عنها، تسمرت نظراته على وجهها الذي خلا يومها من أية زينة إلا من إيشارب حريري بلون وردي تناغم مع ثوبها الذي كان له نفس اللون, ساعد الإيشارب على إبراز استدارة وجهها، مضفيا على الملامح المنمقة ملائكية غير مألوفة.
من نظرة واحدة تسمرت عيناه على الوجه الهاديء، ولم يتمكن من إزاحة نظراته عنها. بالأدق لم تكن عدة نظرات.. بل نظرة واحدة وطويلة, امتدت طوال المسافة التي قطعها السائق بعربته. لم يُدر بالا لسخرية صديقيه اللذين حاولا كثيرا إستمالته نحوهما بأي حديث قبل أن يفشلا ويبدأا في تكييل السخرية له من حالة الشرود الكامل التي انتابته.
بينما هي تحاشت النظر إليه طوال الطريق. رغم وعيها التام بكل ما كان يحدث.. أشرعت عيناها في النافذة وتابعت الطريق الذي حفظته طيلة سنوات خمسة ككل يوم وكأن شيئا لم يحدث.. لم ترح قلبه المعلق بنظرة ولا حتى وأحد الصديقين يشده من كتفه.. ويعيد ضبط اتجاه وجهه الميمم تجاهها أثناء نزوله من الميكروباص قبلها بدقائق بعدما أخبره صديقه أكثر من مرة أنهما بصدد الوصول إلى نقطة النزول حيث سيستقلو مواصلة أخرى لتحملهم إلى كليتهم البعيدة حيث يدرسون بعيدا عن محيط الجامعة، بينما نقطة نزولها لم تكن قد لاحت بعد.
لم تنظر له حتى ولو من باب الفضول وصديقه يسحبه بالقوة من قميصه, قبل أن يغلق باب الميكروباص خلفه غير آبه بتأوهات الصديق الذي شعر كما لو أن الباب أثناء انغلاقه كان يدهس قطعة من روحه…
لم يدرك الشاب يومها أنه قد أتى بعد فوات الآوان .. وأن المساحة التي احتلها في الكنبة المقابلة لم تكن خاوية أبدا .. لقد أتى ببساطة بعدما لم تعد تشغل بالها مسألة المساحات الخالية برمتها، لأنه وأخيرا كان قد ظهر هذا الذي لم يحتل مساحة المقعد المجاور أو المقابل فقط.. بل احتل كل المساحات الخالية من حولها في هذا العالم, على الرغم من أنه لم يجاورها في أي مقعدٍ قط. لكنه غدا فجأة كل العالم.. وكل ما عداه من بشر ومقاعد أصبحوا مجرد كتلة هائلة من الفراغ البحت.