حب من أول نظرة

وفاء العمير
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وفاء العمير

عندما نظرت دليل إلى فواز أول مرة قررت سريعا أنه سيكون الزوج المناسب لها بكل تأكيد. كان موظفا جديدا في محل للساعات في السوق المركزي الذي تعمل فيه هي بائعة للملابس النسائية الجاهزة. لقد وقعت في حبه من النظرة الأولى، وتعلقت به حتى لم تعد ترى أحدا في هذا العالم سواه. في إحدى المرات ذهبت إليه في محله كي تعرّفه على نفسها. توقفت أمامه، وبدأ العرق يغزو كفيها، فسارعت إلى مسحهما بعباءتها، وشعرت بوجهها شاحبا كأنه ليمونة معصورة. قالت له بصوت خافت بالكاد خرج من حنجرتها: مساء الخير.

لكنه لم ينتبه لها، كان منشغلا بساعاته الكريهة، فاضطرت إلى رفع صوتها هذه المرة، بعد أن أمدت نفسها بالشجاعة الكافية، قالت: مساء الخير.

رفع رأسه نحوها بمشقة، وكأنما بوغت بها. صمت لوهلة طويلة، حتى ظنت بأنها لن تنتهي أبدا، وستستمر طيلة الأبدية، إلى نهاية العالم. عندما يئست أن يقول شيئا، قالت: أود أن أعرّفك على نفسي، اسمي دليل، وأنا زميلتك في السوق، أعمل في المحل المقابل لمحلك.

قال لها بنبرة باردة: أهلا أخت دليل، أرجو المعذرة، أنا الآن مشغول. ما كان عليك أن تتعبي نفسك بالمجيء إلى هنا.

لم تصدق ما سمعت، ودارت الأرض حولها، شعرت كأنه سيغمى عليها. استدارت بصمت، وعادت إلى محلها. كانت تسير كأنما فوق جمر مشتعل. حين وصلت إلى مقعدها في آخر المحل، ألقت بجسدها عليه متهالكة. اعتصر الألم قلبها، وكانت أنفاسها تخرج من صدرها مثل مدخنة قاطرة يتصاعد منها الدخان بكثافة.

في نهاية الدوام خرجت من بوابة السوق، تريد أن تستقل سيارة أجرة كي تعود إلى المنزل، عندما رأته خارجا من البوابة أيضا، ولكنه تجاهلها، وابتعد بخطوات سريعة نحو سيارته المركونة في الموقف. أدركت دليل تجاهله لها، ووقع ذلك عليها كالصاعقة، امتلأت عيناها بالدموع، وأحست بغصة في حلقها، ظلت واقفة في مكانها كما لو أنها تجمدت. لم تشأ العودة إلى المنزل، ماذا ينتظرها هناك سوى الوحدة، التي ستفرد ذراعيها لها وتحتضنها بقوة. قالت دليل لنفسها: سوف ينتهي ذلك الآن وإلى الأبد.

دون أن تشعر وجدت قدميها تتجهان نحو سيارة فواز. ما هذا الذي تفعله؟ تساءلت بحيرة واضطراب، رغم ذلك لم تتوقف عن مواصلة السير، تلاشى شعورها بقدميها، كأنما تتحركان بطريقة آلية. أحست في تلك اللحظة بأنها لم تكن هي، وكأن امرأة أخرى تسكنها، بينما هي تنفّذ أوامرها حرفيا. فتحت باب سيارة فواز بسرعة، وأخذت مكانها على المقعد بجواره. كان هو يتصفح هاتفه بينما يدير محرك السيارة. التفت نحوها مندهشا. شعرت بالرغبة في الخروج من السيارة، والعودة أدراجها. كانت تدرك أنها ترتكب خطأ فادحا، أنها كانت تتطفل على حياة هذا الشاب الغريب، وتفرض نفسها عليه، أنها لم تكن تتحلى ولو بالقدر الضئيل من الكرامة. كانت صدفة غريبة سماعها أغنية ترتفع من مذياع سيارة واقفة بجوارهما، كانت كلمات الأغنية تقول: ماكو فكّه، منك أنت ماكو فكّه، لو تلفّ الدنيا تلقاني وراك، أنا تلقاني في كل شارع وسكة، أمشي في ظلك وإحساسي معاك. 

وضعت يديها المرتعشتين على ركبتيها، وضغطت أظافرها بحدة في لحمها. شعرت بقلبها يكاد يخرج من صدرها، هل كانت تتنفس؟ هل كان ثمة هواء تزفره، وآخر تستنشقه؟ حاولت أن تهدئ من روعها. كان يمكن أن تكون هذه اللحظة أجمل لحظة في حياتها، لو أنهما كانا متزوجين، لو كانت علاقة حب جميلة تربط قلبيهما، لو أن جلوسها إلى جانبه في السيارة كان أمرا طبيعيا لأنها زوجته.

سمعته يقول بصوت مرتجف: ماذا تفعلين هنا؟ لو سمحت انزلي من السيارة.

قالت بصوت خافت مرتبك: أرجوك، لا داعِ للغضب. كل ما أريده هو أن توصلني إلى منزلي. ليس لديَّ سيارة، وأخشى أن أستقل سيارة تاكسي في هذا الوقت المتأخر من الليل.

شعرت بالفرح لأنها تمكنت من التعبير بطريقة جيدة ومقنعة، لم تكن تتوقعها. كان وجهه واجما وجادا. راح يحدق بثبات عبر زجاج النافذة الأمامية إلى شيء غير مرئي. اعتقدت بأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قالته، لكنه فجأة أدار محرك السيارة، وتحركت السيارة ببطء، ودخلت وسط الزحام الشديد.

في اليوم التالي جاء حمد أخو دليل مندفعا إلى داخل السوق وهو في حالة اهتياج شديد، كي يرى إذا كانت دليل حضرت إلى العمل هذا اليوم. يرافقه حارس الأمن محمد، عندما وصلا عند باب محلها وجداه مغلقا. قال حمد وكأنه يوجه الكلام لنفسه أكثر مما يوجهه إلى محمد: لم تأتِ إلى العمل، ولم تعد إلى المنزل ليلة البارحة. 

نظر محمد إليه ثم إلى الباب الموصد في قلق وحيرة، وقال له: يجب عليك أن تبلغ الشرطة بأمر اختفائها.

لكن حمد شعر بأنه لو فعل ذلك فسيبدو اختفاؤها حقيقيا، وهو لم يكن مستعدا لذلك، فغادر المكان لا يألو على شيء. لم يستطع محمد نسيان الأمر، كان حدسه البوليسي قد دلّه إلى وجود خطب ما، فذهب إلى غرفة المراقبة، واطّلع على شريط الكاميرا المثبتة خارج السوق، فشاهد دليل تركب سيارة الموظف فواز. توجه محمد من فوره إلى محل فواز، ووجده مغلقا أيضا، فارتاب في الأمر. حكّ الشعيرات السوداء القليلة في ذقنه، ورفع حاجبيه المتقاربين. قام ببعض الخطوات لمعرفة عنوان منزل فواز. وعندما حصل عليه اتجه بسيارته إلى هناك. طرق باب المنزل، فخرج إليه رجل كبير في السن.

سأله محمد: هل فواز موجود؟

أجابه الرجل في دهشة: لا يوجد أحد لدينا بهذا الاسم.

أدرك محمد أن فوازا قد أعطى جهة عمله عنوانا خاطئا، مما كان مدعاة إلى الشك أكثر من السابق. كانت هذه هي الفرصة التي ينتظرها محمد كي يقوم بدور الشرطي الذي لطالما حلم أن يكونه. قام بعدة تحريات حتى تمكن من العثور على مكان إقامته. كان يعيش في منزل يقبع بعيدا عن الأحياء السكنية، منزل منعزل في حي شبه خال من الناس، وأمام المنزل أرض واسعة تطل على شارع لا تمر منه السيارات. قرر أن يقوم بمراقبة فواز، فطلب إجازة من عمله كي يتفرغ لذلك، ولم يخبر أحدا بما ينوي فعله، حتى حمد شقيق دليل، الذي حبس نفسه في منزله وهو يأمل أن تعود دليل إلى المنزل في أي وقت. شاهد محمد فوازا يخرج من منزله، ويركب سيارته ثم يسير بها في الشارع الطويل المهجور. تبعه بسيارته، فرآه يذهب إلى المغسلة لتنظيف ملابسه، ثم يقوم بالتبضع في السوبرماركت، وعاد بعد ذلك إلى المنزل. ظل محمد يراقبه يومين متتاليين، وفي اليوم الثالث عند منعطف صغير قرب الشارع المهجور فوجئ محمد بسيارة فواز تتوقف إلى جانب سيارته، وينزل منها، ثم يتوجه نحوه. انحنى على نافذة السيارة وطلب منه أن يترجل، ففعل محمد ذلك. قال له فواز: هل تعتقد أنني لم ألاحظك وأنت تقوم بملاحقتي؟ قل لي ماذا تريد؟

شعر محمد بالارتباك، فقال له: لا أريد شيئا، أنت مخطئ، أنا لا ألاحقك.

فجأة أشهر فواز سكينا في وجه محمد وهو يقبض على رقبته بقوة. قال له وهو يصرُّ على أسنانه: أعلم أنك تلاحقني، وأعلم السبب أيضا.

أمسك محمد بيده التي تحمل السكين، وحاول انتزاعها منه، فدارت بينهما معركة حامية في ذلك المكان الذي لا يُسمَع فيه سوى صوت الريح.

في لمح البصر شعر محمد بالسكين تنغرس في بطنه، وسقط ميتا فوق الإسفلت، مضرجا بدمائه. سحبه فواز من ذراعيه، ووضعه في سيارته، ثم توجه به نحو منطقة نائية، ودفنه هناك. عاد إلى منزله. استحم وتناول غداءه. ثم أخذ غداء دليل إليها في الغرفة المجاورة. فكَّ وثاق يديها، ودعاها بنظرة منه إلى تناول الغداء. حاولت أن تجعل أنفاسها تهدأ عندما اقترب منها. تذكرت قطعة القماش المبللة بمادة مخدرة التي فاجأها بوضعها على أنفها عندما كانت تنظر عبر نافذة السيارة إلى الخارج، ثم استيقظت بعد ذلك، وقد وجدت نفسها في هذه الغرفة مقيدة اليدين والقدمين.

سألته: لماذا تفعل ذلك؟

لم يجبها في بادئ الأمر، واكتفى بالصمت، وذلك التعبير المتجهم على وجهه. ثم في لحظة ما قال لها باندفاع: أنت تستحقين ذلك، أنت مثل كل الفتيات حقيرة وتافهة. كلكن تافهات وخائنات لا يؤتمن لكنَّ.

في اليوم الثالث نسي أن يكبل يديها وقدميها، فنهضت واتجهت صوب باب الغرفة، أطلّت برأسها فوجدته نائما على الكنبة. مشت متسللة على أصابع قدميها، اقتربت منه، وحدقت به، كم كانت متيمة به، لكنها تشعر الآن بأنها تمقته أكثر من أي شخص آخر في العالم. شرعت تفتش في جيوبه عن مفتاح السيارة. لم تكن تعرف القيادة ولكنها ستحاول. كانت مضطرة لذلك. تحرك جسده قليلا فامتلأ قلبها رعبا، وجمدت يداها، كادت تتوقف عن التنفس. عندما كفّ جسده عن الحركة عادت تنبش من جديد، إلى أن عثرت أخيرا على المفتاح. أسرعت خارجة من المنزل إلى الشارع. ركبت سيارته المتوقفة أمام المنزل، أمسكت بالمقود بيدين مرتجفتين، ولأنها كانت تجهل أصول القيادة فقد شعرت بالتخبط والاضطراب، ضغطت على منبه السيارة دون أن تعلم، فارتفع ضجيجه عاليا، تملكها الذعر من أن يصل صوته إلى مسامع فواز. وبالفعل عندما التفتت وجدته يقف عند الباب، هرع راكضا نحوها بأقدام حافية، والشرر يتطاير من عينيه. فتح باب السيارة وجرّها من شعرها إلى الخارج، حاولت أن تتملص منه، فأبعدته بيديها بكل ما تملك من قوة. لكنه شدّ ذراعيها خلف ظهرها بإحدى يديه، وباليد الأخرى حاول أن يخنقها. أحست بعظام حنجرتها تطقطق، وبأنفاسها تتثاقل في صدرها، وبالهواء ينفصل عنها. في لحظة ساورها يقين بأنها ستموت على يد الشخص الذي لطالما حلمت بأن تنال حبه وإعجابه، جعلها ذلك تمتلئ بمشاعر الغضب، فرفعت قدمها وضربته بين فخذيه. أفلتها متألما، ووضع يديه على مكان الألم، انتهزت الفرصة كي تهرب منه، لكنه عاد وأمسك بها، جاهدت كي تفلت منه فسقط كلاهما على الأرض، أحكم قبضته حول عنقها، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أحست كأنها تعيش في كابوس ستستيقظ منه سريعا، يستحيل أن يحدث لها كل هذا، انهمرت الدموع على خديها، هذه هي النهاية إذن. فجأة لمست أصابع يدها الممدودة قطعة من الحجر ملقاة على الأرض. بعد عدة محاولات تمكنت من الإمساك بالحجر، وأطبقت كفها عليه بشدة، ثم هوت به على رأسه فشجّته. تكوم على نفسه، والدم ينزف من رأسه. نهضت على قدميها، نظرت إليه، وهوت بقطعة الحجر على رأسه مرة أخرى، حتى همد جسمه تماما، ولم تعد تندّ منه أية حركة. ألقت بالحجر من يدها وهي تحدق بصمت في الجسد المسجى على الأرض. ثم تقدمت بخطوات بطيئة منهكة، تشق طريقها وسط الشارع العريض المهجور عائدة إلى المنزل.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون