“قصة قصيرة جدًا”.. شاعر يرثى نفسه ويتحضر بالقصيدة للغياب
«تكفي كتابة عملٍ مبدعٍ واحد ليخلّد ذكرك» يقول عبد الرحمن منيف صاحب مدن الملح وهو يؤكد على أن الكتابة فعل خلود وليس فناء، الشعراء لا يفنون بالموت، هو ما حاول الشاعر الراحل إبراهيم الشيخ (1991 ــــــــ2015) إثباته تفصيليًا في ديوانه الأول والأخير "قصة قصيرة جدًا" الذي صدر في معرض القاهرة الدولى للكتاب منذ أيام بيد أسرته بعدما تركه مخطوطًا وإرثًا وحيدًا لقصته القصيرة.
"الموت لا يوجع الموتى بل الأحياء" يقول محمود درويش، لعل مقدمة الديوان التى كتبتها أسرة إبراهيم الشيخ تكشف لنا فجيعة وفاته في حادث سير، وما تركه الشاعر الشاب من أثر على كل من عرفه، وكل من يقرأه كتجربة واعدة سرقت الأقدار مستقبلها.
عبر قصائد متعددة، يرثى الشاعر نفسه حتى أن آخر ما كتبه كانت قصيدة بعنوان"موال الصبر"
عد الخطاوى بصبر
فى طريق مالوش آخر
واحجز لروحك قبر
بضريح رخام فاخر
وقولى كسبان إيه..
أو قولى ليه مسافر
فى القصيدة الأولى في الديوان / الأخيرة للشاعر، يؤسس لمرثية طويلة تنطلق منها إلى باقى قصائده فهاهو يحجز لنفسه قبرًا رخاميًا يسعه ولا يسع القصيدة التي تكمل مسيرته الصغيرة، حتى إنه يسأل نفسه عن سبب سفره، "قولي ليه مسافر"، تلك الرحلة الأزلية من الحياة إلى الموت نقلها من الوحى إلى النص.
يواصل الشاعر في قصيدته الثانية ، شعر المراثي حتى إنه يسميها "حالة وداع" أول كلامي كان يجوز برضه آخر كلام/ وهى عبارة مركزية لحالة الديوان كله، فأول كلام الشاعر الراحل شعرًا كان آخر كلامه أيضًا.
فى قصيدته زهد يقول الشاعر:
فى الزهد فى الأشياء
كل المفاتن سواء
والرفض هوا الرمز
مين اللي قال إن الحرام بيلذ
يا رافض الأشياء
الزهد شئ م العز
كنتيجة طبيعية، لشعوره بقرب الأجل، تأتى قصيدة الزهد، التى تستلهم بيت لأبن عبد ربه الأندلسى أحد أشهر شعراء الزهد فى العصر العباسي القصيدة التى واجهت انتشار الخلاعة والمجون حين قال "هي الدار ما الآمــال إلا فجائع عليها ولا اللـذات إلا مصــائب"، وفى قصيدة بعنوان آخر ورقة فى الدفتر، تلحظ تكرار لفظة آخر على نحو متسارع ومتلاحق في ديوان قصير لتؤكد فكرة الوداع التى امتطاها الشاعر منذ قصيدته الأولى/الأخيرة، يقول في قصيدته غربة " مش عارف فين العيب بالظبط لكن عارف إننا قربت"
بين قصائد الديوان أيضًا، قصيدة أهداها الشاعر لأخته "نوسة" التي عكفت على جمع القصائد عقب وفاته وإصدار العمل، وهى قصيدة مفسرة إذ تكشف عن مدى العلاقة التى جمعتهما حتى إنه يمر على غرفتها يفتقد غيابها كلما مر بها يقول "الدنيا فضيت .. كما لو إنها أهلي، وباب أوضتها منين ما يعدي يندهلي"
حضور العائلة في الديوان، لا يقف عند شقيقته بل يتخطاها إلى جدته "أم عاطف" التي توفيت بعد رحيله بشهور، مثلما يشير هامش الكتاب، ولكنها إذ تحضر كعمود أساسي فى الأسرة لا ينسى الشاعر أن يتنبأ بموتها بروحه الشفيفة وكأنه عراف الموت فيقول "يمكن تروحي يا أم عاطف لكن الأكيد إن زرعك لن يروح".
إلى جانب النصوص، فإن الشاعر عمد إلى الفصل بينهما بقصائد أو مقطوعات صغيرة أطلق عليها لفظ فاصل وكأنه يفض اشتباكًا بين نصوصه رغم تناغمها، إلا إنه إذ يحاول أن يخلق فاصلًا كالفواصل الموسيقية لا ينسى التأكيد على حضور الموت فيقول فى الفاصل الأول "يموت ما يلقى كفاته ولا يقروا على قبره سورة، ولا يمشى ورا نعشه سقا ولا حتى عابر سبيل"، وفى الفاصل الثاني يختتمه بالعبارة "لو العقول فيصت ناخد منين عبرة" وهى امتداد لدلالة الفاصل الأول فى البحث عن العبر والأمثال وربما الموت والحياة الأخرى بشكل يتجاوز عمر الشاعر الصغير بكثير
فى الفواصل التالية التي تمتد طوال الديوان، يتحايل الشاعر على موته المؤكد ويجبر نفسه على الرضا بالمقسوم كما يؤكد فى الفاصل التاسع بقوله "يارب يا عالم إني منيش ظالم وتملى أبات مظلوم أرزقني قولة الحق وشيل من دماغي الـلأ وراضيني بالمقسوم".
بعد عدة فواصل ينتقل الشاعر إلى حالة الثورة التي عاشها جيله كله بأحلامها وميدانيها وهتافاتها ، في قصيدته حالة ثورة يقول "مصر اللي ياما كشرتلي ف حسنها، هتبصلي، بعدما عشش فى الضفاير عنكبوت"، ثم يستكمل الشاعر قصائده بعناوين سياسية أقرب للهتافات التى كانت دارجة فى الميادين آنذاك من بينها "الحرية للجدعان"، و"العسكري" و"دولة العواجيز"،و"ثورة بلا هتاف"، ولكنه فى غمار ذلك لا ينسى التلويح بالموت أو بالعبرة من ورائه يقول فى قصيدته "كرسى" يا أيها البائس الدنيا مش بفلوس نزلتها بلبوص هتسيبها مش لابس هتروحله متكفن هتموت وهتعفن ياما القبور بتلم يا جيل يا راضع سم اتمسكوا بالحلم وإياك تبيع نفسك".
وفى قصيدته الأخيرة فى الديوان التي يسميها أصل الحكاية، يختتم الشاعر حكايا موته بالشعر كمن كان يتداوى به "في كلمة تنفع دوا وكلمة تنفع سيف وكلمة زى الرصاصة وكلمة ريحها خفيف، الكلمة جايز تعيش لو حد صدقها"، وكأنه يسطر بالشعر حكاية قدر لها أن تعيش مكتوبة لندرك خسارة موهبة واعية لم يستأذن الموت فى قنصها.