أيام الشمس المشرقة: نفايات بشرية تستمر فى الحياة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.محمد برادة

تستـحق رواية ميـرال الطـحاوى الجديدة: «أيـّـامُ الشـمس الـمُشرقة» (دار الـعيـن، 2022) الـقراءة والاعـتبار، لأنـها تستوحي فضاءً وبـشـرا ووقائـع لـها امـتداد وطـيـد في الأسـئلة المُـحرجة التي تـواجهها الإنسانية في مـرحلةٍ تـرغمها على إعـــــادة الـنظر في الـقـيم الكـونية وفى مـدى فـعاليتـها، وليس هذا المُـنجَـز الروائي غـريبا على صاحبة «الخــباء».

و«الـبـاذنـجــانـة الـزرقاء» التي تـميّـز إبـداعُها بالخصوصية في الـرّصــد ونــسْـج التـخـيـيـل، يُـحيلُ عنوان الرواية على منـطقة تــقـع في الساحـل الغربي للـولايات المتحدة غـير بعيد من البحـر، لكنها ذات تضاريس جغرافية تُـعــرّضُــها لـهجمات الــطبـيـــــعـة وتـسَــلّــلِ النازحين الباحثين عن الـعمل والـمـأوى، ومن ثـمّ، يـكون اسم الشمس المشرقة مُـنـاقـضا لـشروطها الطبيعية التي تجـعل منها مـدينة حـدوديـة، شـبه مـهجورة. وهذا الفضاء المُـلتبس والمتعدّد المستويات الذي يحتوى أحداث الرواية، يضطلع بـدورٍ مهـمّ في الـتـزاوج مع معظم السكـان، وبـخاصّة النساء والرجال الذين هاجـروا إليه من مناطق بـعيدة في آسـيا والشرق الأوسـط.
ومن خلال فصول وفـقرات الرواية، نـدرك أن استـحضار فـضاءاتٍ مُتـبايـنة من مناطق الشمس المشرقة والبلدات المجــاورة، هو عنـصـر أساس في بناء الرواية وإبراز التفاعل بين أنماط الشخصيات والفضاء الذي يـسكــنونه ويـتحركون ضمن الـدوائــر المحيطة بـه.
ونلاحظ في الآن نـفسه، أن هناك تـوازيا بين هذا العنـصر في الـبـنية الروائية وبيـن السـرد الذي يـبدأ من الحـاضـر، أى من تـواجُد الشخصيات المهاجرة فى منطقة الشمس المشرقة، ثم يـنتـقل إلى رسـم ملامح مــن ماضيها قبل وصولها إلى المـهجـر؛ وبعد ذلك يعود السـرد إلى الحاضـر الذي تـتـحرك فيه الأحداث التى تـربـط بــيـــــن شخـصيات الرواية. بـعبارة ثانية، يُــراوح الـسّـرد في «أيام الشمس المشـرقة» بين الماضي والحاضـر من دون إشــارة أو اسـتحضار للــمـستـقبل. وهذا عنصـر له علاقة بـتـحديد الدلالة والرؤية إلى العالم في هذه الرواية، كما سنـبـيّـن لاحِــقــا.

تـشــتمل الرواية على خمسة فصول، كل واحد منها يـتضمن عناوين فـرعية تسمح بالانتقـال من فترة إلى أخرى ، ومـــن فضاء إلى آخــر. ويـبدو أن الغــرض من هذا الـبنـاء هو جـعل الـسّـرد مـتـقـطـعا، مُـتـنقـلا بسـهولة من الماضى إلى الحاضر ومن فضاء إلى آخــر.
ومن ثــمّ، يـغدو نـص الرواية بـمثابة فـسـيْــفـساء تشتـمل على نــقط ضـوءٍ مـركزية؛ وعلى القارئ أنْ يُــجـمّـع الفقرات والفصول والشخصيات لـيُـضفـى على الرواية أبـعاد رؤيـتها الدلالية. لأجـل ذلك لا تكفى القراءة الانـسيابية لهذه الرواية، بل هى فى حاجة إلى مســاهـمة الـقارئ فى لـمْـلـمَة الـفقـرات والفصول ضمن فضاء «الشمس المشرقة» الشاسع والـبـلْـدات المجاورة.
و مسار الشخصيات المتباينة، والحوارات الموحية، لكى تـبرز دلالة الرواية ورؤيـتـها الــمحبوكة عـبْـر مستويات لـغوية مـتـعددة ، وسرديات متشابكة، تعمل جميعها على إبـراز رؤية نابعة من حاضر وماضى الشخصيات الروائية الوافدة من أقطار بعيدة ، يحدوها الأمل فى حياة أفضل.

مــزبلة مـليئـة بـجُـثـث الأحياء
على رغـم تـعدّد الشخصيات وتـمايُـز أوضاعها الاعتـبارية ومستوياتها الاجتماعية، فـإنّ شخصية «نِـعَـم الخـبّاز»المصريــة تُـعلـن عن وجودها طوال صفحات الرواية، لأنّ لها علاقـات بمـعظم شخصيات الرواية.
وهـى لا تـتـذكر تماما كيف وصلتْ إلى بلدة الشمس المشرقة، متخـطّيـة كل العـقبات:». . فقد قالتْ إن الله عـوّضَـها عن طفولتها الشـقيّة خيْـرا، فحـذف بها إلى تـلـك البلاد مُصادفة؛ فقـد جاءتْ كـراعيةٍ للعجائـز، وعملتْ فى بيوت العـجَـزة فى المـنتجعات الشمالية لسنواتٍ لم تـعدْ تذكـرها». جاءت نِـعَم إلى بلدة الشمس المشرقة حاملة معها نُــدوبا عميقة فى الشقّ الأيمن من وجهها.
ما جعلها تـفتـقــــر إلى الجـــمال وتعـوّضُه باســتــثــارةِ الشفقة لدى مَنْ تعمل عندهم أو تـرتبط بصداقتهم. وعلى رغم ذلك، استطاعت نِــعَم أن تــتـزوج مـــنْ مهاجر عربى هو أحمد الوكيل، وأن تُـنجب منه ولـديْن:الـبِكْـر الذى انـتحر، والثانى عمر الذى قـطع الصلــة بأمــه واختفــــى مثلما اختفى الأب ذات صباح ولم يـعدْ قـطّ. لكن نِعَم الخباز كان لها تعلـق كبير بالحياة ورغبات وعواطــف تحــرص على إشــبـاعها، مـا جعلها تـستأنف الرحلة وحدها مستـعينة بـمهـنتها الخــدَـمـيّة التى أتاحتْ لها أن تـربط علاقات واسعة ، خــاصة مع المهاجرين العرب.
وهى رغم شـروطها الفيزيقية غير الـمُـسـعفـة، تأمل فى أن تعيش قصة حبّ وأن تحسّ أنها مرغوب فيها. وعلى ضوء هذه التـوهمات ، كانت تختار صديقاتها وأصدقاءها؛ وإذا وجدتْ أن تلك العلاقة لن تـملأ الفراغ الذى تُـعانى منـه، تـفسـخ العلاقة. مع ذلك، استطاعتْ نِـعَم أن تحافظ على صداقـتـيْـن طوال الزمـن الذى استغــرقـتْـه الرواية:الأولى مــــع نجوى سالم النازحة من مصر، والصداقة الثانية مع سـليم الـنجّار الذى ينتمى إلى لبنان.
ولـه جـذور تمتدّ إلى فلـســطين. والمثير للـدهشة، هو أن نِـعَم رغْـم تكوينها المحدود، نجحتْ فى عـقد صداقات مع مَنْ ينتـمون إلى مستوى اجتماعى وثقافى أعلى منها. هكذا نجد أن نجوى حاصلة على إجازة جامعية وهاجرت إلى أمريكا لإنـجاز الدكتوراه، وعندما فشلتْ أصبحت موظفــة فــى إدارة شؤون النازحين؛ وقد اختارتها نِــعَـم لتصبح صديقتها وأنـيسـتــها فى ديار الـغـربة.

والصديق الثانى الذى نجحت نِـعــم فى ان تفرض نفسها عليه هو سليم النجار المتعدّد الشخصيات والعلائق والمطامح. تـتـوزّع اهتماماته بين الــفـن والكــتابــــة وبلورة افكار ثقافية وسياسية مُـتصلة بالمـنــفى.. أما حياتُه العاطفية والجنسية فـمُـوزّعة بين «علياء الدورى» الأرستـــقــراطية المالِكة لـقـصْـرٍ فى منطـقة المُـترَفـين.
والتى تلجأ إلى مساعدة سـليم كـلما اشتـاقتْ إلى مَنْ يُـؤنسـها. وسليم النجار كأنما يعــيش مُـنتظرا تلك المواعيد التى تـتـفضّل بها عـلياء من حين لآخــر. هذه العلاقة الـغريبة بين الشخصيات الثلاث نقرأ تصويرا لها فى الرواية على هذا النحو:. . «كانت نجوى تريد التـخلص من الـفـقْـد والانتظار والتـرقـّـب.
ولا تعتقد أن ما تبقى لها من عمر ووقتٍ يمكن أن تقضيه فى البحث عن أحد. كانت فقط راغبة فى الهـرب والجلوس على الأرجوحة بانتظار أنْ تعـبر نِـــعَــم الخباز وتنطلق بها فى تلك الشاحنة ثم تجلس بجانبها بانتظار ذلك الرجل الذى يسمى نفسه «سـليـمو» ليـتحدث عن أحــلامــه وأساطيره التى تؤكّد وحدته وبُؤسه(. . . )تودّ أن تعود تلك الأيام المبهجة التى يجلس فيها ثلاثتهم على الرصيف نفسه.
ويقتسمون الضحكات ويُراقبون بأسـىً هؤلاء الوافدين الجُدد، الجائلين حديثا، غريـبى الأطوار هؤلاء الغرباء المتسللين الباحـثين عن خـلفيةٍ مناسبة لالـتقاطِ الصور.. » ص 271. هذه العلاقة بين شخصيات الرواية القائمة على تناقض الطبائع واخـتـلاف المــستـويات المعرفية تـجدُ تـبريرا لها فى أن بـلدة الشمس المشرقة والمناطق المجاورة لها، هى قِــبْلة للمهاجرين والباحثين عن عمل ولقمـة خُــبز. ثم إن ضرورة التعايُش هى التى تضـطرّهم إلى ربط أواصر الصداقة مهما كان شكلها. لكنْ، إلى جانب هذه الشخصيات الثلاث، هناك عـيّـنة من الشخوص المحظوظة التى حصلت على وضعٍ اعتـبارى مـرموق.
وأمّــنـتْ رفاهية العيش فى مــنـاطق سـكنية مـترفة، أو فى فضاء المؤسسات الجامعية والإدارية. ومعظم شخصيات هذا الصنف تـوسّلتْ بالغشّ والفهلوة وممارســة الـدونجـوانية، على نحو ما فـعله الدكتور يوسف الأزهـرى، رئيس قسم التاريخ والاجتماع والدراسات الإسلامية، الذى اعـتاد أن يـرمىَ شـباكه على الطالبات، قبل أن توقعه الطالبة زهـرة فى شبكة الزواج وتـقتسم معه مسؤولية إدارة الـقسم.
على هذا النحو، نجد صـنفيْـن من الشخصيات والفضاءات فى الرواية:صنف يُجسّد أغلبية المهاجرين والمتسـلـلين إلى الشمس المشرقة والبلدات المجاورة لها، ويمـثله كل من نِـعَم الـخبّاز ونجوى سالم وسليم النجار؛ وصنف من الذين اندمجوا واستفادوا من وظائفهم وتـحايلهم ، مثل الإمام أبو عبد القادر، ويوسف الأزهـرى، وعلياء الدوري.
ولاشك أن هذه الشخصيات المتنوعة تستـكمل ملامحها وخصوصيتها من خلال الحـيّـز الفضائى الذى تسكنه والذى تخصص له الكاتبة صفحاتٍ من الوصف تبرزُ تضاريس العلاقات وهى تطوف بنا عبر الشمس المشرقة، وحديقة الأرواح، وسُـرّة الأرض ، وتـلّة سـَنام الـجمل، والربع الخالي. ذلك أن وصف الــفــضاء يُــضفى إضاءة على الشخصيات الروائية والعلاقات القائمة بيـنها.
إلا أن الجانب الأكبر من الوصف يُسـلط على المناطق والشخوص والأحداث المتصلة بما أسـمَـتْهُ الكاتبة «مَــزْبـلة جـثـث الأحياء»، حيث كل شيء مـزيف وفاقـد لنكهـته الإنسانية. لأجــل ذلك، يمكن أن نعتـبر الرؤية الدلالية فى الرواية متصلة بتلك التفاصيل التى تـرسم حياة مهاجرين هُــمْ أشـبه ما يكونون بـنُــفاياتٍ بشرية ، تجعل من الشمس المشرقة ، على حـدّ ما عـبّر عنه سليم النجار: «مُـجــرد شـرَكٍ رأســـمالى.
واستــغلالى وغـيـر آدمى(. . . ) مَـنْ قال إننا تَـحررنا من العبودية؟انظرى إلى هؤلاء المتـسلـلين، عمال المزارع الذين يفقــــدون حياتهم فى الوصول إلى تلك الأرض؛ ماذا يـريد الرأسمالى أكثـر من ذلك، عـبيـدا متـطوعـين يـركضون بحثا عن سـيّـد؟عـبيـد هُـمْ مجـرد عـبيـد»ص 252. هذه الرؤية الانتـقادية، السّـوداوية التى وردت على لسان سليم النجار، نجد ما يُعـزّزُها فى الفصل الأخير الذى يحمل عنوان «عـيْنُ الحياة»، حيث يُـطالعنا مشهدٌ لِـمركبٍ جَـنَحَ على بُـعد أميال قليلة من مدخل الخليج، وعلى مَتــنه عشرون شخصا. لكن حـرَسَ الشواطئ رفض السماح للمركب بالبقاء، وفـرض عليه الرحيل.

وبعد أن أقــلع المركب، فُوجـئـتْ فِــرقُ الإنــقاذ بـأجسادٍ صغيرة : «تـطفو فى سُـتـراتِ النجاة الصفراء مثـل فـقـاعات بالـونية يـقـذفـها المـدّ والجـزر، بــعـيـدا عن الشاطئ، وصـراخ الصغار يختلط بـنُــواح كــلاب البـحر وهى تـطرد جـِــراءها وتـتـعــمّد إلــقاءها قــسْـرا ًفـى الماء» ص. 278.
لـقد استطاعت ميرال الطحاوى، مـن مهجرها فى الولايات المتحدة،أن تـلتـقط بـعـيـن نافذةٍ ومهـارة روائـيــة مقنـعة، مجموعة من التناقضات التى تكشف عـورة أقوى دولة فى العالم تـعتـنق «الديمقراطية» فى دستورها، إلا أنها فى الوقت ذاته تُــبـرّر التفاوت وتسمح بتـحويل البشـر إلى نُــفاياتٍ وفـقـاعاتٍ يـتـقاذفها الـمـدّ والجــزر.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم