عوالم آني إرنو

آني إرنو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جهاد الرنتيسي

يقتضي الالمام بأدب الفرنسية آني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل، التقاط الثيمات التي تشكل عوالمها، ويعاد على اساسها انتاج كتاباتها، التي تدور حول قضايا ومفاهيم محددة.

على الرغم من المنحى التحرري الذي تأخذه تلك الكتابة، وهو غير جديد على كاتبات فرنسيات مثل مرغريت دوراس، ومرغريت يورسنار، لم تخرج إرنو في كتابتها المستمدة من تجربتها الشخصية عن سياقات الثورة الجنسية في مطلع ستينيات القرن الماضي، التي كانت في زمنها شكلا من اشكال التحديث، وارتبطت بالتمرد على واقع ذلك الزمن.

تتحدث في روايتها “العار” مثلا عن اوضاع اجتماعية واقتصادية انسلخت عنها، وانتقلت بالتالي من الشعور بالدونية للنظر الى ماضيها نظرة فوقية، فتراه غارقا في الرماد، موغلا بدوافع العار والخجل، ومن خلال الصورة الاثنوغرافية التي رسمتها لمكان وناس ذلك الزمن يأخذ الماضي شكل الوجود في العالم الادني، يتكشف بوضوح لدى مقارنته مع عوالم اكثر ثراء، تتعامل معه باعتباره نمط حياة سابقة، حالة معاشة وتراكمية، وينسحب ذلك على العلاقات بين البشر.

وتقدم في روايتها “المكان” التي تتناول قصة والدها، اعترافات ضمنية وعلنية، بنقمتها على الثقافة الشعبية، واندفاعها نحو القفز الى العالم البرجوازي الاكثر تحررا ـ حسب رؤيتها ـ هربا من البيئة الفقيرة التي عاشت فيها طفولتها وفتوتها.

جاء في مقدمتها الى القارئ العربي انها كانت متأرجحة بين وضعين خلال تخطيطها لكتابة الرواية، اولهما وصف الثقافة الشعبية دون اشارة الى الاستلاب الاقتصادي، ولا يرى ثانيهما في هذه الثقافة سوى التعاسة وتدهور الثقافة الحقيقية، لتصل الى انها  فضلت ان تكون المحايدة، وعند البحث عن الحياد يجد المدقق في الرواية مسخرة  لحالة وعي، وواقع معيشي و اجتماعي، مقابل اشارات الى رقي طبقات اخرى، ونجاحات  في تجاوز الرداءة التي تمثلها مناخات الاوساط الشعبية التي ينتمي لها الاب بالانتقال للعيش في مناخات مختلفة.

تحدد الرواية بشكل او باخر فهم ارنو للمسألة الطبقية، المبني على كيفية التسلق من واقع طبقي الى اخر، دون الانزلاق الى قوانين صراع الطبقات، مما يعني تسطيح الفكرة التي تتعامل معها، والابقاء عليها محشورة في دائرة الذهنية الراسمالية .

تجاوزت اعترافات الروائية هذا الحد، فلم تخف شعورها بالخيانة الطبقية، واستخدامها لغة القبيلة المهيمنة للحديث عن العالم المسود الذي انتمى اليه الاب وجاءت منه، الامر الذي يعني تمردها على طبقتها وليس الطبقة المستغِلّة في مجتمع الطبقات.

تقود هذه الفرضية الى اخرى، مرتبطة بجرأة الحديث عن الجنس في رواياتها، فلم تكن يومياتها الاقرب الى الاباحية سوى بعض طقوس الانسلاخ الطبقي، وابرز شروط الانزلاق للطبقة البرجوازية.

وفي محاولة واضحة لتعزية الذات عما اعتبرته في اعترافاتها فعلا خيانيا، وربما لتبرير فعل الانسلاخ الطبقي، تتوقع إرنو ان حلم ابيها كان وجودها في العالم الذي عامله باحتقار.

لم يمنع موضوع الرواية الذي يدور حول الاب الايحاءات الجنسية مثل رؤيتها عضوه التناسلي  للمرة الاولى بعد وفاته، تذكرها حيضها وبلوغها بعد الدفن، مصادفته يقرأ كتابا اباحيا ذات يوم، فم زوجة الجار المقاول الذي يشبه مؤخرة الدجاجة.

تضيء رواية “امرأة” على هامش آخر، وهو جذر احتقار إرنو للعوالم الدنيا، الذي ظهر حالة موروثة من امها، التي كانت تقول بكبرياء انها لم تولد في الريف رغم اصولها الفلاحية، تشعر بالتحضر لانها تعمل في مصنع كبير مقارنة بالريفيات راعيات البقر رغم انها كانت تعيش كاشباه القرويين على صعيد العلاقات الاجتماعية، وفي المراهقة تحولت العلاقة بين الابنة و الام الى صراع بعدما وقفت الثانية عائقا امام التحرر الجنسي، ومن ثم كان التحرر الجنسي شرطا لانسلاخ الابنة عن الطبقة، فيما  امتلكت الام في وقت متأخر من حياتها العِلم المترسخ عند النساء البرجوازيات، اي الاعتناء المثالي بالاعماق، الذي لم يحل دون اصابتها بالزهايمر، التي كانت محور رواية “لم أخرج من ليلي” المكتوبة بلغة اليوميات.

لم يتح الانسلاخ حالة من الاستقرار لدى آني إرنو، فهي تبحث عن المزيد منه، رغم ما اعتقدت انها حققته بالتمرد الذي اتاحته الثورة الجنسية، الامر الذي توضحه رواية “الشاب” رغم قلة عدد صفحاتها.

نقل مترجم الرواية عن ارنو شكواها خلال مقابلة صحفية من “الضوابط الاجتماعية التي تبقى ضاغطة حتى في مجتمعات متحررة مثل المجتمع الفرنسي” لتكشف بذلك عن رغبة الذهاب الى ما بعد التحرر.

في الطرح ايحاءات باخفاق النموذج الفرنسي في الوصول الى التحرر الذي يدور في ذهن الكاتبة، ولم يجد له ارضية اجتماعية بعد، مما يعيدنا الى بؤس الحداثة الذي افرز ما بعد حداثة اكثر بؤسا.

يظهر البؤس واضحا في نمط علاقة الروائية مع الشاب الذي يصغرها بثلاثين عاما، فهو قائم حسب اعترافها على تحكمها، بل هيمنتها على مسار العلاقة، بفعل قدراتها  المالية وفقر عشيقها وصغر سنه، وفي نهاية المطاف يدفعها حرصها على تجنب استعادة اصولها الشعبية للابتعاد عن العشيق، فقد كانت مع زوجها السابق ابنة الشعب وصارت مع عشيقها برجوازية، مما يعني ان الذهاب الى ما بعد العشق، او الاستمرار مع عشيق فقير يسوقها الى مطارح اخرى ادنى مما بلغته، وفي جميع الاحوال يأخذ الانتقال من الطبقة الدنيا الى العليا منحى  اللذة الجنسية.

تتحدث في جانب اخر من الرواية عن شعور يداهمها بأنها لم تغادر قط السرير، نفس السرير منذ الثامنة عشرة، ولكن في اماكن اخرى ومع رجال مختلفين، ومع ذلك لا يمكن تمييز بعضهم عن بعض، مما يقرب نموذج امرأة ما بعد التحرر من بنات الليل.

ينعكس فهمها لما بعد التحرر على كتابتها، فهي تقول بانها غالبا ما مارست الجنس لتجبر نفسها على الكتابة، بمعنى انها تصنع الحدث لتكتب عنه، او تستعيد حدثا اخر في حياتها، ولا تكتب الحدث لانه يستحق الكتابة، مما يضعنا امام سؤال حول ما اذا كان المقصود تجريب في الكتابة ام التجريب في العلاقات الانسانية.

تدعو في روايتها “شغف بسيط” الى ميل الكتابة للانطباع الذي يولده المشهد الجنسي في فيلم اباحي، قلق، دهشة، وتعليق للحكم الاخلاقي، وفي مثل هذه الدعوة، التي جاءت في الصفحات الاولى، تهيئة لمشاهدة فيلم اباحي.

وبذلك يقتضي تقييم الرواية التي تحولت الى فيلم اخرجته اللبنانية دانيال عربيد مقاربات بينها وبين الافلام الاباحية ـ لمعرفة مدى الاقتراب والابتعاد عما هو مطلوب ـ والالمام بما توفره قنوات ومواقع الجنس، للتأكد من منافسة الكتابة لافضل المعروض في تلك المواقع.

الجنس في منظور آني، كما اشارت في روايتها كسر لروتين الحياة، تعبير عن خوف من تتابع الايام دون انتظار الاشياء، والغرض من كتابتها للرواية عرض شغفها دون شرحه، حتى لا يظهر وكأنه غلطة تحتاج للتبرير.

تصور رواية “مذكرات فتاة” الصراع بين الرغبة وطغيان التربية الريفية،  وتكاد ان تنتهي عند هذه النقطة، لولا انتقال المؤلفة من فائض الكلام في رواياتها السابقة الى النص الفضفاض، المترامي الاطراف، دون حاجة لذلك، رغم قلة عدد صفحاته.

تبتعد إرنو عن الخيال وهي تحاول جمع شظايا ذاكرتها وتفكيك الفتاة التي كانتها، تحاول الهرب من اسلوب كتابة اليوميات السهل، لتراوح بين التداعيات والمذكرات، وتظل اليوميات تطل برأسها دون قصد، وربما بحكم العادة، بين الحين والاخر.

بدت خلال تفكيكها الفتاة التي كانتها قبل 56 عاما مسكونة بالنوستالجيا، رغم محاولتها الابقاء على مسافة بين زمنين، واسقاط وعيها الراهن على وعي سابق، واشاراتها العابرة الى تطور النظرة للجنس في فرنسا.

تلجأ الروائية للتقريرية المملة مع افلات خيوط الرواية من بين اصابعها، لكن تجاوز الاحداث للتابوهات في بعض الاجزاء، ونبش المكبوت لدى القراء يساعد على تجرع الملل.

لا تغيب النرجسية التي يظهرها عنوان رواية “الحدث” التي تدور حول اجهاض إرنو في شبابها عن تفاصيل السرد، الذي يضع القارئ امام كائن يدور الكون حول رغباته، يقرأ العالم من خلال غرائزه، ولا يترك فرصة للاحتفاء بذاته.

تشير الروائية في نصها الذي لا يبتعد كثيرا عن عوالم اليوميات الى انزعاجها من عادة بعض الفتيات رواية حياتهن اليومية بكل تفاصيلها، لكنها لا تتوانى عن اعادة انتاج   تفاصيل حياتها الجنسية في الروايات التي تكتبها، ومكنتها من الحصول على جائزة نوبل، وظلت الجرأة “الايروتيكية” في النص دون اخفاء اضطراب الشخصية المحورية، الذي عبرت عنه بوضوح، حين ظهر فعل الحب غريزيا خاليا من العواطف في بعض الاحيان، حيث احتفظت بعلاقتها مع والد الجنين بقرار ناجم عن خوفها من الوقوع في فراغ عاطفي، وليس نتيجة لوجود مشاعر حقيقية، وكانت في الوقت ذاته راغبة في بلبلة الشريك الذي لا يقدم مساعدة حقيقية في اجهاضها.

تساعد محاولة الروائية وضع مسافة بينها وبين الفتاة التي كانتها، المكان الذي عاشت فيه، والاماكن التي ارتادتها في زمن ما، في رسم صورة للمجتمع الفرنسي بعد الثورة الجنسية وافرازاتها الاجتماعية، مما يعطيه قدرا من الاهمية، قد لا يتوفر في نصوص اخرى.

تتناول إرنو في رواية “احتلال” غيرتها من غريمتها، ينطوي العمل على تفاصيل ساذجة لنهاية علاقة، اكثر مما يغوص في ذات مصابة بالغيرة، لا يخلو من جرأة الحديث عن الاعضاء التناسلية، ويبقى اكثر سطحية من ان يثير الخلاف.

ظل اهل الجنوب ـ بما في ذلك العرب والمسلمين ـ دون التفكير في مطارحتهم الغرام، كائنات اكثر غرابة من الاوروبي الشرقي في الزمن الشيوعي، الذي تمارس معه الحب، و تفسر تخلفه باعتباره اختلالات ثقافية، فيما يتحول التخلف الى تعبير عن فروقات اجتماعية تظهر في سلوكيات الطبقات الدنيا اذا كان الامر مرتبطا بالغرب.

تسترسل الروائية في مقارناتها، فهي كانت محرومة في طفولتها لانها فقيرة، يقابل فقر طفولتها فقر عشيقها وشعبه، مما يعني تعميم الفقر على دول المنظومة الاشتراكية، واسقاط حقيقة توفر الحاجات الاساسية لشعوبها، ولذلك تفسير واحد اذا احسنا الظن، وهو تأثرها بديماغوجيا مجتمع الرفاه.

نتيجة لهذه الفروقات، ظل عشيق إرنو الدبلوماسي القادم من الاتحاد السوفيتي غريبا عنها، رغم شغفها به ـ الذي يصل الى الهوس ـ وممارستها الحب معه،  وبلا مناسبة، الحقت الرواية بفصلين قصيرين، اقرب الى التحقيق الصحفي، تناول احدهما زيارة الى المانيا الشرقية، التي رأتها بُعيد انهيار جدار برلين عالقة بين زمنين، وتخيلتها اقرب الى مدن السياحة الغربية حين يأخذ النظام الراسمالي مداه فيها، وبشكل تلقائي يقود اسقاط الفصلين القصيرين على الرواية الى فرضية توظيف الروائية علاقتها الجنسية مع عشيقها الاوروبي الشرقي في بناء تصور ملتبس لحياة مواطني المنظومة الاشتراكية والتحولات التي طرأت على بلادهم والعالم فيما بعد.

في رواية “إمرأة” تشبّه الروائية تعامل الام ـ الذي تراه متخلفا ـ مع تحرر الابنة، بقطع البظر عند الافريقيات، وتحاول ايصال فكرتها بمشهد السيطرة  الاقرب الى التوحش على الفتاة الافريقية المراد ختنها.

من الواضح التقاط آني إرنو فكرة روايتها “انظر الى الأضواء يا حبيبي” من رواية “من أجل سعادة النساء” لمواطنها إميل زولا، التي تتحدث عن الانتقال الى عالم المتجر الشامل، لا تخلو الرواية من اشارات الى استحقاق الوافدين المسلمين والعرب لاوروبا تعاطف المجتمع الاوروبي، وتفهمه لثقافاتهم، لكن النظرة تبقى فوقية محكومة بالشفقة.

خلال وصفها ليومياتها في احد متاجر باريس الضخمة، بدت إرنو اكثر وضوحا في الجمع بين الخطاب والموضوع الاستهلاكيين، واللافت للنظر في الرواية انها تحاول المزاوجة بين الاحتفاء بالنمط الاستهلاكي ونقده.

تَعامَل المتلقي العربي بحماسة تصل الى حد الاندفاع مع أدب إرنو المغرق في سطحيته،  بعد الاعلان عن جائزة نوبل، كان عامل الحصول على الجائزة حاضرا اكثر من  مقومات المنتج الادبي للروائية، الذي تستهلكه الفئات العمرية الشابة في فرنسا، ولم يكن خافيا حضور خلفيات حديثها عن الانحياز للقضية الفلسطينية ونزعاتها اليسارية عند المتفاعلين، فيما غابت في الاجواء الكرنفالية تنوعات واطياف وتلاوين اليسار الاوروبي، وتباينات نظرته لدول الجنوب والعرب والمسلمين، بما في ذلك قضية الشعب الفلسطيني.

………………………………

  • روائي أردني

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم