عرض ونقد: د.خالد عاشور
تنتمي هذه الدراسة إلى لون من الدراسات دارت وتدور حول أدب نجيب محفوظ يمكن أن نطلق عليها الدراسات الأفقية لأدب الرجل في مقابل دراسات أخرى رأسية.
ويقصد بالدراسة الرأسية تلك التي تختار عملًا واحدًا أو حلقة من حلقات محفوظ الإبداعية وتدرسها دراسة نقدية أو غير نقدية، ككتاب محمود الربيعي: “في قراءة الرواية – نماذج من نجيب محفوظ” أو كتاب لطيفة الزيات: “الصورة والمثال”، أو كتاب عبد المحسن طه بدر: “الرؤية والأداة”، وغيرها
أما الدراسات الأفقية فهي تلك التي تختار ظاهرة ما من الظواهر الإبداعية وتروح ترصدها في عموم أدب الرجل منذ إبداعاته الأولى حتى آخر ما خط قلم الرجل، مثل الدراسة التي نحن بصددها اليوم، والتي تأتي في آثار دراسات مشابهة كدراسة فوزية العشماوي: “المرأة في أدب نجيب محفوظ” ودراسات مصطفى بيومي: “الموظف في أدب محفوظ” و”الإخوان المسلمون في أدب محفوظ” ومثل دراسات أخرى عن “رجل الدين في أدب نجيب محفوظ” وغير ذلك من دراسات هي أشبه بمن يغير عدسة الكاميرا التي ينظر منها إلى أدب الرجل أو زاوية الرؤية من خلال الشخصية التي يختارها أو الظاهرة التي يدرسها في أدب محفوظ. ولكن هذه الدراسات تتفاوت في قيمتها الأكاديمية والنقدية، فمعظمها يقع في فخ التبسيط والمسح المباشر لهذه الشخصية في أدب محفوظ فقط دون أبعاد فلسفية أو عمق كاف.
لكن دراسة الدكتور محمد حسام إسماعيل تكتسب خصوصية. وخصوصيتها تعود لأمرين :
الأول: أن الزاوية التي اختارها الدكتور محمد لدراسة أدب محفوظ زاوية جديدة تمامًا لم يسبقه إليها أحد، وهي شخصية الصحفي وعالم الصحافة، بما ينطوي عليه هذا العالم وبما تتسم به هذه الشخصية من جدل وإثارة وغموض وغرابة ومفاجآت غير متوقعة… وهي زاوية لا شك أن دراستها ستنطوي على الشئ ذاته…
يقول المؤلف : “وثمة صفات لمهنة إلاعلام والصحافة جعلت لها مثل هذه الأهمية في أدب نجيب محفوظ منها أنها مهنة ظاهرة للرأي العام أكثر من غيرها ومؤثرة فيه للغاية، وهي مهنة يبدو فيها التناقض بين القول والفعل أوضح من غيرها، وهي مهنة يتوقع الناس من ممارسيها الأخلاق المهنية والشخصية وتخفق هذه التوقعات في الأغلب ثم هي مهنة فيها مغريات شتى تسهل السقوط”
وهو ما يدفعنا فعلًا لأن نسأل كيف نظر أديب في حجم نجيب محفوظ وقيمته الكبيرة واتساع رؤيته لشخصية الصحفي؟
وهو يطرح هذا السؤال في مفتتح دراسته في فصل قصير بعنوان : لماذا ندرس صورة الصحفي في الأدب؟
وهو يرجع هذا إلى عشقه للأدب، وتأثره بأدب نجيب محفوظ.
أما الأمر الثاني : فهو المنهج الذي سار عليه دكتور محمد حسام الدين في دراسته لتلك الشخصية في أدب محفوظ… وهو منهج يقوم على ثلاثة خطوط رئيسية متداخلة يكشف لنا المؤلف من خلالها تجليات شخصية الصحفي في عالم محفوظ الروائي والقصصي وكيف جسَّد الرجل عالم الصحافة كمهنة وحرفة وعلاقتها بالمجتمع من حولها سلبًا وإيجابًا في إطار النسيج الفني لكل رواية.
لكن تناول الدكتور محمد لأدب الرجل من خلال هذا المنظور تشعر معه بأنك إزاء عمل واحد تتبدل فيه ملامح تلك الشخصية وتتغير حسب أحوال الروائي والرواية
هذه الخطوط الثلاثة هي : الخط التاريخي التوثيقي والخط النقدي التحليلي والخط الإسقاطي الاستدعائي
الخط التاريخي التوثيقي: قصد منه المؤلف أن يعرض لجانب من تاريخ الصحافة المصرية على هامش دراسته للروايات التي ورد فيها ذكر الصحفي وهو جانب يغلب على المؤلف فيه شخصيته الأكاديمية باعتباره أستاذ للصحافة بكلية الإعلام
فمثلًا يحرص المؤلف في جهد توثيقي على أن يتحقق من أسماء الصحف التي وردت في بعض الروايات ومدى قربها من الواقع أو بعدها عنه:
يفعل ذلك عند تعرضه لرواية القاهرة الجديدة وشخصية أحمد بدير الصحفي الوفدي لكن نجيب محفوظ لم يسم الصحيفة التي كان يعمل بها بدير. وهنا يبرز دور الدكتور محمد ليطلعنا على جانب من تاريخ الصحافة المصرية في الثلاثينيات ويُجري تحقيقًا سريعا نعرف منه أن أشهر الصحف الوفدية التي كانت موجودة هي البلاغ وكوكب الشرق والجهاد وروزاليوسف وهناك صحف أقل شهرة هي اليوم والمؤيد والصرخة والوادي ومصر.
أما مجلة النجمة التي كان يعمل بها محجوب عبد الدايم بناء على توصية من سالم الإخشيدي بلدياته فهو محض خيال من محفوظ بناء هلى التحقيق الذي أجراه المؤلف بالرجوع لتاريخ الصحافة في ذلك الوقت. وكذلك صحيفة الفكر التي يعمل بها كمال عبد الجواد وإن كان يرجح أنها أقرب إلى المجلة الجديدة التي أصرها سلامة موسى عام ١٩٣٠
وفي خان الخليلي أيضًا ينطلق المؤلف من حوار قصير بين أحمد عاكف والمعلم نونو يقول له: “هل أنت صحفي فيجيب أحمد عاكف: وهبني أجبت بالإيجاب فيرد نونو مستحيل أنت ابن ناس طيبين”
ينطلق من هذا الحوار لنعرف منه كيف كانت الصحافة مهنة خسيسة ووضيعة في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ فمهنة الجورنالجي مثلها مثل مهنة المشخصاتي لا تقبل شهادتهم أمام المحاكم ولا تصاهرهم العائلات الشريفة وواقعة الشيخ علي يوسف شاهد على ذلك عندما رفعت ضده قضية تطليق من قبل صهره والد زوجته نقيب الأشراف ليفرق بينه وبين ابنته، لأنه يمتهن مهنة المشتغلون بها يتجسسون على عورات الناس ويفضحون ما أمر الله بستره من الخطاياهم.
وفي تحليله لرواية اللص والكلاب يأخذنا المؤلف في رحلة نطّلع فيها على الخلفية التاريخية والسياسية التي تلون تلك الفترة من تاريخ الصحافة فترة الستينيات والحقبة الناصرية وما إلى ذلك
نأتي إلى الخط الثاني: وهو الخط النقدي التحليلي
والحقيقة أنني اكتشفت في الدكتور محمد ناقدًا خفيًا أو متخفيًا وراء ثيابه الأكاديمية والصحفية، وللدكتور محمد أن يضيف إلى ألقابه المتعددة لقب الناقد الأدبي غير متهيب ولا متردد، فالرجل لديه حس نقدي عالي ربما نشأ لديه من طول معايشة لأدب نجيب محفوظ كما قال هو في مقدمة الكتاب
وقد صقل لديه ذلك الحس الدراسة الأكاديمية لعدد من نظريات الدرس الأدبي
فالمؤلف يُحدد في مقدمة الكتاب المنهج النقدي الذي سوف يتبعه في دراسته لشخصية الصحفي في أدب محفوظ وهو المنهج الاجتماعي أو علم اجتماع الأدب وكلامه عن هذا المنهج يشي بإحاطة تامة بأصول المذهب وأسسه النظرية عند لوسيان جولدمان خاصة نظريته المعروفة باسم رؤية العالم
لكني توقفت عند تحليل الدكتور محمد لرواية ثرثرة انطلاقًا من شخصية سمارة بهجت والتي حملت عنوان “الصحفي الملتزم في مواجهة العبث”
يبدأ الناقد هنا برصد مسار الحركة في الرواية ثم يقدم ما سماه تحليل الثنائيات المتعارضة الذي يقدم من خلاله تحليلًا نقديًا بديعا للرواية هو أقرب للتحليل السيميولوجي لكن بتمثل ناضج لا ينساق وراء الإحصائيات المعقدة والجداول الغامضة :
يقول المؤلف: “في الثنائيات المتعارضة يتم تخفيض كل العلاقات المعقدة داخل نظام العلامات في تفسير واحد متصل بين قيمتين أو شيئين متعارضين وبينما تحضر مجموعة من الصفات في أحدهما تغيب في الأخرى، وقد اخترع نظام العلامان هذه الثنائيات المتعارضة أو المتقابلة للتبسيط ولتسهيل عملية الاتصال
على سبيل المثال ترتكز ثنائية الضوء / الظلام على غياب الضوء في الكلمة الثانية
أولى الثنائيات المتعارضة هي الجدية مقابل العبث وهي الثنائية التي تتكرر في أكثر من موضع من الرواية
وثانية الثنائيات هي أن سمارة شخصية مبدئية في مقابل كونها خطرة مشكوك في دوافع زيارتها للعوامة
وتتعدد الثنائيات فسمارة تعبر عن ذاتها الحقيقية في مقالاتها مقابل أن تناقض القول مع الفعل صفة أساسية للمثقفين عامة وللصحفيين خاصة
الاحتفاظ بالوعي مقابل الانسطال
الإيمان الشعائري مقابل الإيمان النافع
الشعور بالذنب حيال الأخطاء مقابل التبلد وتبرير الأخطاء…. الخ”
تحليل الدكتور محمد للرواية في ضوء هذه النظرية تحليل ممتع مفيد يُلقي أضواء جديدة على ثرثرة، من خلال تمثل جيد لهذه النظرية وحسن توظيف لها
وكم نحن بحاجة لمثل هذا الفهم المستوعب للنظريات الغربية في النقد الأدبي بدلًا من الوقوع في أحابيل النظريات وغموضها دون انتقاء ودون فهم لدرجة مبالغ فيها وصلت لحالة الموضة
وإذا أردت دليلًا على ما أقول فانظر إلى الرسائل الجامعية وموضوعاتها التي تقع أسيرة للنظرية وإسقاطها على الأعمال الأدبية دون فهم ودون تذوق جمالي، مما يحيل هذه الرسائل والدراسات إلى أوراق جافة لا حياة فيها، مما نفَّر الناس من قراءة النقد الأدبي
وأنا أنصح الدكتور محمد بدخول النقد الأدبي فهو مؤهل لذلك تمامًا
الخط الثالث: هو الخط الإسقاطي الاستدعائي
ومن خلاله يقوم المؤلف بعملية إسقاط على الواقع واستدعاء الواقع المعيش الآن لتفسيره من خلال تجليات شخصية الصحفي في أدب نجيب محفوظ
يقول المؤلف في مقدمة دراسته:” ولكن النماذج الصحفية في أدب نجيب محفوظ لا تخبرنا فقط عن خواص زمنية بالمهنة وقت كتابة الرواية أو القصة بل تتجاوز ذلك إلى الثابت عبر الزمن ألا وهي الثقافة٠٠٠ وهو ما جعل نقاد وباحثي أدب نجيب محفوظ يرون مثلًا أن بعض نماذج رواية المرايا التي نشرت عام ١٩٧١ تعيش بيننا حتى الآن رغم رحيل من كتب عنهم الروائي ثم رحيله هو ومرور نصف قرن على كتابة الرواية لأن هذه هي العناصر الثقافية شبه الثابتة التي رصدها محفوظ بعبقريته وموهبته وهذه هي خصوصية الخطاب الأدبي الراقي
فمثلا سيتكرر في حياة مصر الاجتماعية صنف من الصحفيين مثله مثل المجرمين الذين يفلتون بجرائمهم كشخصية الصحفي رؤوف علوان في اللص والكلاب“
ثم يمضي المؤلف في لمحاته الإسقاطية لوصل الماضي بالحاضر، ففي تحليله لرواية القاهرة الجديدة يربط بين جهاد توفيق دياب كواحد من أعلام الصحافة الحرة في عهود الاستبداد السياسي في الثلاثينيات وبين جريدة المصري اليوم كحلقة من حلقات نضال هذه الأسرة وتلك الشجرة اليانعة المستمرة في العطاء على مدى ما يقارب المائة عام وهي الصحفية التي يتركز فيها هامش الحرية المسموح في الإعلام المصري كله. على حد تعبير المؤلف
وفي تحليله لرواية السكرية ومصير أحمد شوكت الشيوعي يرتد الدكتور محمد إلى الحاضر فيسرد حانبا من تاريخ اليسار المصري داخل السجون، ثم يقول :
“وأعلق فأقول: ألا يتعرض الاشتراكيون الثوريون وأعضاء حزب التحالف الشعبي المصري الآن في السحون المصرية لبعض الذي تعرض لهم رفاقهم القدامى من الحزب الشيوعي إلى حدتو منذ الأربعينيات وحتى الستينيات؟ وأتذكر في هذا السياق المناضلة ماهينور المصري والشهيدة الأخرى شيماء الصباغ التي قضت بطلقة خرطوش في ذكرى ٢٥ يناير ٢٠١٥ والعشرات الذين يتجمدون من البرد في سجن العقرب. ألا تعطي هذه الحقائق مشروعية لصورة الصحفي الاشتراكي في أدب نجيب محفوظ المستمرة ملامحها حتى الآن؟”
وفي رواية اللص والكلاب هناك مساحة كبيرة للإسقاط يستغلها المؤلف؛ فنجاة رؤوف المجرم من انتقام سعيد ونجاة المجرمين ما هي إلا دلالة على قوة وسائلهم لحماية أنفسهم وحماية مكاسبهم… ثم يقول مسقطًا : وكلما توصلت لهذه النتيجة تبرز أمامي نخبة عصر مبارك الصحفية وقبلها عصر السادات ومن قبلهم عصر جمال عبد الناصر، تلك النخب التي تمثل نموذج المجرم الذي يفلت بجرائمه الذي لا يعاقب على خيانته، ذلك الذي يمكن أن نراه في نموذج الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي لعب دورًا حيويا مكينًا في هزائم عبد الناصر، ونراه في نخبة السادات ومنهم أنيس منصور الذي تحول لمستشار لشركات توظيف الأموال في عصر مبارك ثم نخبة مبارك الصحفية التي لم تمس رغم مخالفاتها وجرائمها والتي كانت تدير المؤسسات كأنها عزب خاصة لهم في الأهرام والأخبار وغيرها
ثم يربط بين وقت صدور اللص والكلاب سنة ١٩٦١ بعد صدور قانون تنظيم الصحافة ويقدم تقييما لهذا القانون، فيقول:” والمتأمل لحال الإعلام المصري في السنوات العشر الأخيرة على الأقل يرى أكثر من رؤوف علوان رأي العين منهم من وقف على منصات ٢٥ يناير ليخطب في الجماهير الثائرة وانتهى به الأمر صاحب برنامج توك شو يؤيد فيه كل سياسة أو قرار أو قانون يهدر ما حلمت به هذه الجماهير”.
ويتكرر الأمر في الشحاذ أو ما يسميه إعلام اللب والفشار الذي يجسده شخصية مصطفى المنياوي فيراه المؤلف تجسيدًا روائيًا لشخصية أنيس منصور في الواقع وما يكتبه والانتشار اللافت وغير المفهوم لمقالاته وكتاباته في الصحف والإذاعة والتليفزيون.
هذا الخط الإسقاطي الاستدعائي كان يوفق الكاتب فيه أحيانًا كثيرة وفي الغالب لا يرفصها النص فنصوص نجيب محفوظ عابرة للأزمان فعلًا وهي من الثراء بحيث تحمل وتتحمل دلالات كثيرة كتلك التي استنطقها منها المؤلف.