الكتَابَة خَارِجَ الشَّكْل: مَاضِي القَصِيـدَة، رَاهِنُ الشِّـعر

صلاح بوسريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صَـلاح بُوسـريف

لِي أَن أخْتَرِعَ التَّـارِيخ

وَلَـهُ أَن يُذْعِنَ لِي”

 (رِفْعَت سَلّام)

(1)

الشِّعْرُ يَجْرِي خارِجَ المِعْيَار. ليْسَ هَذَا وَضْع الشِّعْرِ اليَوْمَ، فَقَط، بل إنَّهُ جاءَ، مُنذُ بِدَايَاتِهِ، عَارِيًا، لا يَقْبَل غَيْرَ العَراء. هذا ما يُمْكِنُ أن نَلْمَسَهُ، بِوُضُوحٍ، في كِتَاباتِ البِدَاياتِ، كَمَا وَصَلَتْنَا، علَى الأقَل. وأعْنِي بهذه البِدَاياتِ، «أسْطُورَة جَلْجَامِش»، الَّتِي وُجِدَتْ مَحْفُورَةً على الطِّينِ المَشْوِيِّ، في ما تَمَّ العُثُورُ عَلَيْهِ مِن لُقى ثَمِينَة، في مَكْتَبَةَ المَلِك الآشُورِيّ، آشُور بانِيبال، الَّذِي كَانَ عاشِقًا للقِرَاءةِ، أو كَان مُشَجِّعًا لَهَا، وحَرِيصًا عَلَى جَمْعِ الألْواحِ الطِّينِيَة، التي هِي كُتُبٌ، بِما تَشْتَمِل عليه مِن نُصُوصٍ وِكِتاباتٍ، بَيْنَها، هذه المَلْحَمَة الشِّعْرِيَة، التي هِيَ أَوَّل مَا وَصَلَنَا مِن شِعْرٍ، أوْ مَا عَرَفْناهُ مِن شِعْرٍ إلى اليَوْم.

الشِّعْرُ، بِهَذَا المَعْنَى، كَانَ كِتابَةً تَحْرِصُ علَى جَمَالِيَةِ اللُّغَةِ، وعَلَى جَمَالِيَةِ التَّصْوِير والتَّخْييلِ، وعلَى مُوسِيقَى الكَلِمَاتِ، وإيقَاعَاتِهَا. ما نَقْرَأُهُ في «ملْحَمَة جلْجامِش»، يَشِي بِبِناءٍ شِعْرِيّ رَمْزِيّ، ذِي نَفَسٍ مَلْحَمِيٍّ. لا مَكَانَ للغِنَائِيَة، هُنَا، رَغْمَ وُجُودِ مقاطِع، فِيها «جلْجَامِش»، كَانَ الصَّوْتَ الوَحِيدَ المُتَكَلِّمَ، نَفْسُهُ يَغْمُرُها الحُزْنُ والشَّجَي، لِمَا ألمَّ بِصَاحِبِه «أنكِيدُو»، الَّذِي قَتَلَهُ الثَّوْرُ الوَحْشِيّ. فهذا الصَّوْتُ المُفْرَدُ، لَمْ يَكُن مَعْزُولًا عَنِ النَّسِيج العَامّ للنَّصِّ، أو للعَمَل الشِّعْرِيّ L’œuvre poétique، بالأحْرَى.

هذا النَّصّ الأوَّل، أو نَصّ البِدَاياتِ، إذا ما اقْتَرَضْنا تعْبِيرَ نِيتْشهْ، كَان نَسِيجًا، أيْ كَانَ نَصًّا مُتَشَابِكًا، فيه تَتَجَاوَبُ الأصْواتُ، وَتَتَصَادَى، وفِيهِ كَانتِ اللُّغَةُ، تَأْسِيسًا جَدِيدًا لِلْوُجُودِ، أو بعبارةٍ أُخْرَى، فَهْمًا مُغَايِرًا، لِمَعْنَى أَن يُوجَدَ الإنسانُ، مَهْما كَانَ دَمُهُ[1] رَغْمَ ما يَجْرِي في دَمِهِ مِن فَنَاءٍ.

فَقُوَّةُ، هَذَا النَّصّ المُؤَسِّس، تَكْمُنُ فِي طَبِيعَةِ اكْتِشافِهِ لِرُؤيَةٍ جديدَةٍ للوُجُودِ، مِن جِهَةٍ، ولِلتَّعْبِير عَن هذه الرُّؤيَةِ، بِكَلامٍ، هُوَ غَيْر الكَلام، أو بِما لَمْ يَكُن يَجْرِي في التَّدَاوُل العَامّ.

هُنَا، بالذَّاتِ، تَتَبَدَّى شِعْرِيَةُ الاخْتِلافِ، ويَتَبَدَّى ذَلِكَ العَراء الَّذِي بِهِ اخْتَار الشَّاعِر المَجْهُول، أن يَقُولَ صِيغَةَ وشَكْلَ الوُجُودِ، كَما أدْرَكَهُ وَفَهِمَهُ. فهُوَ رَاوَغَ المألُوفَ، لأنَّهُ، رُبَّما، وَجَدَ طَبِيعَةَ الرُّؤْيَةِ، بِما فِيها مِن حِسٍّ مَأْسَاوِيّ، تَفُوقُ السُّرُودَ التي تَلْهَجُ بِها ألْسِنَةُ النَّاسِ، في زَمَنِهِ. فتَوْسِيعُ العِبارَةِ، لا يُمْكِنُهُ أن يَكُونَ فِي مُسْتَوَى الرُّؤْيَةِ، إلَّا بهَذا المَجَاز، والتَّرْكِيبِ الجَدِيدَيْن، وهَذَا البُعْد الفَلْسَفِيّ الرَّمْزِيّ، الَّذِي بِهِ بَدَأ الشِّعْرُ وُجُودَهُ، حَتَّى قَبْلَ ظُهُور الفَلْسَفَة نَفْسِها. اذَن، فالشِّعْر، مُنذُ بِدَاياتِهِ، كَانَ يَجْرِي خَارِجَ المِعْيارِ، وهو، في طَبِيعَتِه وَجَوْهَرِهِ، جَاءَ مُنشَرِحًا، المَجْهُولُ، واللَّانِهَائِيّ، هُو أرْضُه الَّتِي فِيها يَخُوضُ عَراءَهُ.

(2)

أبْدَأُ بِهَذَا الكَلامِ، لِأَخْرُجَ بالقَارِِئ، مِنَ مُسْبَقَاتِ المَعانِي والمَفَاهِيمِ الَّتِي تَعوَّدَ أن يَنظُرَ بِهَا إلى الشِّعْر، خُصُوصًا، اليَوْم. فالنَّصّ الَّذِي بَاتَ يَكْتُبُهُ ثُلَّةٌ مِنَ الشُّعَراء المُعاصِرِينَ، مِمَّن جَاؤُوا بَعْدَ «رُواد» ما سُمِّيَ، جِزَافًا، بـ «الشِّعْر الحُرّ» أو «شعر التَّفْعِيلَة»، مِثْل، سليم بَرَكات، قاسِم حَدَّاد، رِفْعَتْ سَلّام، عبد المُنعِم رَمَضان، محمد السرغيني، عبد الله زريقة، هُوَ نَصّ مُغايِرٌ، نَصّ وَسَّعَ الشِّعْرَ، ووسَّعَ دَوالَّهُ، كَما غَيَّرَ فِي فَهْمِ الشِّعْرِ، والنَّظَر فِيهِ.

هَؤُلاء، وغيرهم، وهُم قَلِيلُونَ، خَرَجُوا بالشِّعْر، من «القَصِيدَةِ»، إلَى «النَّصِّ»، بِمَا تَعْنِيهِ الكَلِمَةُ، فِي أَصْلِها اللَّاتِيني، مِن نَسْج، وحِيَاكَةٍ، وتَطْرِيزٍ، وتَشْبِيك خُيُوط الثَّوْب، فِيما بَيْنَها، لِتَصِيرَ ثَوْبًا، بِنَاؤُهُ في نَسْجِهِ، الَّذِي هُو عَمَلُ اليَدِ، أو الأصابِعِ الَّتِي تَشْتَغِلُ عَلَى فَضَاءٍ، لا عَلَى فَراغٍ وهَواء، كَما هُوَ شَأنُ الشَّفَاهَةِ واللَّفْظِ والإنشَادِ. في وَضعِ الخِطابِ.

إنَّنا، في هَذِه التَّجارب الشِّعْرِيَة، تَمْثيلًا، نَسْتَعِيدُ عَرَاءَ البِدَاياتِ، أو نَسْتَعِيدُ، إذَا شِئْنَا، مَفْهُومَ النَّصّ، وبِنَاءَهُ، وما يَحْتَمِلُهُ مِن تَفْضِيَةٍ Spacialisation واشْتِغَالٍ عَلَى الصَّفْحَةِ، باعْتِبَارِها دَالًّا من بَيْن دَوَال العَمَل الشِّعْرِي، رَغْمَ أنَّ بَعْض هؤلاء الَّذِين ذَكَرْتُهُم، يَنقُصُهُم هَذَا الشَّرْط، في اسْتِدْراج الكِتابَة، فِي مُقَابِلِ الشَّفَاهَةِ، الَّتِي هِي البِنيَةُ الأُمّ، المُسْتَحْكِمَةُ فِي «القَصِيدَة»، في سِياقِها الشِّعْرِي العَرَبِي، الَّذِي هو اسْتِمْرارٌ لِماضٍ، لَمْ يَمْضِ، رَغْم ما ادَّعاهُ بَعْضُ أَقْطَاب الحَدَاثَة، في بَيَاناتِهِم، من انتِقالٍ إلى زَمَن «الكِتَابَة»[2] في مَا هُمْ لَمْ يَنتَبِهُوا إلَى مَا ظَلَّ مُقِيمًا فِي شِعْرِهِم من مَاضٍ، أو مَا ظَلَّ فِيهِ مِن سُلْطَةِ هَذَا المَاضِي وظِلالِه، أَعْنِي، بِنيَة اللِّسَانِ، والكَلامِ، أو الشَّفَاهَةِ الَّتِي هِي فِي تَكْوِينِهِم الثَّقافِيّ، وَفِي مَا تَشَرَّبُوهُ مِن لِسَانٍ، أوْ فِي مَا بَدا لَهُم، نَصًّا، وكِتَابَةً.

(3)

رفعت سَلام، وَاحِدٌ من الشُّعَراء العَربِ المُعَاصِرِين، مِمَّن وَعَوْا الكِتَابَةَ، باعْتِبارِها شَرْطًا شِعْرِيًّا جَمالِيًّا، وأيضًا، باعْتِبارهَا من خَوَاصِّ الحَدَاثَةِ، الَّتِي هِي حَدٌّ مِن هَيْمَنَةِ الشَّفَاهَةِ واللِّسَان، في الشِّعْر، ووَضْع الشِّعْر في سِيَاقِهِ الكِتَابِيّ؛ وأعْنِي، تحْدِيدًا، الصَّفْحَة الَّتِي هِيَ تَوْزِيعٌ دَلالِيّ، ودَالّ، لا يُمْكِنُ نِسْيانُهُ أو تَجَاهُلُه، أو التَّغاضِي عَنهُ فِي قِراءَةِ النَّصّ، وفِي تَأَمُّلِه؛ لأنَّ قِراءَة الخَطَّ، أو السَّواد وَحْدَهُ، هُوَ قِراءَةٌ عَمْياء، لا تُساعِدُ على فَهْمِ طَبِيعَةِ البَيَاضِ، أو الفَرَاغِ، وما يُخْفِيهِ مِن إشاراتٍ، أو أبْعاد سِيمْيائِيَة، تأمُّلُها، ووَضْعُها فِي مَرْمَى النَّصِّ، وفِي مَرْمَى القِراءَةِ، يُتِيحُ اكْتِناهَ ما لا يُدْلِي بِهِ النَّصّ، أو ما يَقُولُهُ مُوَارَبَةً وفِي الخَفَاء. فالنَّصّ، في الكِتَابَةِ، هو إخْفاءٌ وَطَمْسٌ، وهُوَ مُحاوَلَةٌ دَائِبَةٌ لِمَحْوِ الأثَر، أو مُوارَتِهِ، وَوَضْعِهِ فِي حالَةِ كُمُونٍ، حَتَّى لا يَصِير النَّصُّ قِطْعَةَ مِلْحٍ، تَذُوبُ في الفَمِ، ما إن نَضَعَهَا علَى اللِّسَانِ، كَمَا يَحْدُثُ فِي الشَّفَاهَةِ، أو فِي “القَصِيدَة”.

بِدَايَةً مِن من دِيوانِه الثَّانِي «إشْرَاقَاتِ رِفْعَت سلام»، يَشْرَعُ رفعت في خَوْضِ مُغَامَرَةَ الكِتَابَةِ، بِوَضْعِ الصَّفْحَةِ في مُواجَهَةِ القَارِئ، وَفِي اسْتِنفَارِ حَواسِّهِ كامِلَةً، كَمَا فِي عَمَلِهِ الشِّعْرِيّ «حَجَرٌ يَطْفُو عَلَى المَاء»، الَّذِي أَصْبَحَتْ فِيهِ الصَّفْحَةُ مُتَشَابِكَةً، لا تَكْتَفِي بالخَطِّيِّ المَكْتُوبِ، بَلْ دَخَلَ عَلَيْها الرَّسْمُ والتَّصْوِيرُ، بِما يُكِنُّهُ فِي النَّصّ مِن رُمُوزٍ ودَلالاتٍ، وأبْعاد سِيمْيائِيَة، تَشِي بِتَشَابُكِ الدَّوالِّ، وتَجَاوُرِهَا؛ لا دَالَ يُلْغِي الآخَر أو يُخْفِيهِ، بَلْ إِنَّ كُلّ دَالٍّ هُوَ شَرْطٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الدَّوال، وَوُجُودِهُ رَهِين بِوُجُودِ هَذِه الدَّوال؛ لأنَّه فِي جَوْهَرِهِ، وُجُودٌ بالتَّجاوُرِ والتَّنافُر، فِي نَفْسِ الآن.

كَما أنَّ الكِتَابَةَ عِندَ رِفْعَت سَلّام، تَشْرَعُ فِي الذَّهَابِ صَوْبَ النَّصّ العَبْر نَوْعِي[3] الَّذِي يَنفَتِحُ عَلَى كُل أشْكال الكِتَابَةِ وأنواعِهَا، ولا يَبْقَى أسِيرَ حُدُود «القَصِيدَةِ» الَّتِي هِيَ مُغْلَقَة، مُحَدَّدَة بِصُورَةٍ مُسْبَقَة، ولا تَقْبَلُ غَيْرَها مِمَّا لَيْسَ مِن خَواصِّهَا اللِّسانِيَة، أو ما لا يَدْخُلُ في أنماطِ خِطَابِهَا[4]، وجِنسِها أو نَوْعِها، المُؤَسَّس على تَمْييزِ الشِّعْرِ عَنِ النَّثْرِ، ووَضْعِ الشَّفَاهَةِ، أو التَّلفُّظِ في جَوْهَرِ بِنيَتِها، أو شِعْرِيَتِها[5] فنَحْنُ، هُنا، إزَاءَ جِوَارٍ وحِوَارٍ بَيْنَ أنواعٍ كِتَابِيَةٍ، فِي تَجاوُرِهَا، هَذَا يَطْفُو الشِّعْرُ فِي غَيْرِ ما كَانَ مِعيارًا، أو قَاعِدَةً وقَانُونًا، بَل إنَّ الشِّعرَ يَعُودُ إلَى بِدايَاتِهِ، إلَى تِلكَ العَينِ الأُولَى التي مِنهَا خَرَجَ ماؤُهُ، بِما سَمَّاهُ جِيرار جُنِيتْ، بـ”جَامِع النَّص“.

فـ«القَصِيدَة» اكْتَفَتْ بِأَن تَكُونَ ذات بِنيَةَ شَفَاهِيَة تَلَفُّظِيَة، وطبِيعَةُ تَسْمِيَتِهَا في اللُّغَةِ وفي المَفْهُومِ، تَقُومُ عَلَى أسَاسَ هَذِهِ البِنيَة، بِمَا فِيها مِن تَوَازٍ بَيْنَ شَطْرَيْهَا، وما تَنتَهِي بِهِ مِن قَافِيَةٍ، أو رَوِي. في هذه البِنيَةِ بالذَّاتِ، تَكْمُنُ غِنَائِيَةُ القَصِيدَة، ويَكْمُنُ الصَّوْتُ المُنشِدُ النَّاطِقُ المُفْرَد المُتَلَفِّظُ التنّاطِقُ؛ لا تَعَدُّدَ ولا تَدَاخُل بَيْنَ الأصْواتِ والضَّمَائِر، كَمَا أنَّ التَّفَكُّكَ، هُوَ أَحَد سِمَاتِهَا، وشُرُوط بِنَائِها، رَغْمَ ما قَدْ يَحْدُثُ مِن تَرابُطٍ فِي التَّرْكِيبِ بَيْن البَيْتِ السَّابِقِ ومَا يَلِيهِ، على المُسْتَوَى النَّحْوِيّ والدَّلالِيّ. هَذَا مَا يَنأَى بِهذا المُقْتَرَح الشِّعْرِيّ القَدِيمِ، عن قَبُولِ دُخُولِ غَيْرِهِ مِنَ الخِطَاباتِ الأُخْرَى فِي بِنائِهِ. فالسَّرْدُ والحِوَار، حِينَ يَحْضُرانِ فِي قَصِيدَةٍ مَا، كَما عِندَ امْرِئ القَيْس، أو عِندَ عُمَر بن أبِي رَبِيعَة، فَهُو يَكُونُ داخِلًا فِي طَبِيعَةِ البِنيَةِ الشَّفَاهِيَة، يُعَضِّدُها، ولا يُعَدِّدُ أصْواتَ الخِطَاب، بِما يَعْنِيهِ ذَلِكَ مِن وُجُودِ خِطَابَاتٍ أُخْرَى، تُوَسِّعُ القَصِيدَة، أو تُعَدِّدُ ألْسِنَتَها. فالقَصِيدَة، ذَات هُوِيَة أجْناسِيَة واضِحَة، وهِيَ هُوِيَة مُتَعالِيَة مُسْبَقَة، ومُحَدَّدَة بِمعَايير، كَان ابْنُ خَلْدُون قَدْ لَخَّصَ تَعْرِيفَهَا، مُسْتَفِيدًا مِنَ الشَّاعِرِيِّين الَّذِين سَبَقُوهُ، مِثْل ابنُ رَشِيق، في كِتابِه «العُمْدَة»، ومُكَثِّفًا قَانُون «القَصِيدَة»، وما بِهِ تَكُونُ مَعْزُولَةً عَن غَيْرِها، بِمَا فِي ذَلِكَ «الرَّجَز» الَّذِي اعْتُبِرَ خارِجًا عَنِ القَصِيدَة، أو لَيْسَ مِثَالًا لَهَا، حَتَّى عِند الشُّعراء أَنفُسِهم، مثل أبِي العَلاء المَعَرِّي[6].

بَاتَ التَّلَقِّي الأجْنَاسِي للقَصِيدَة، وَفْقَ هَذا التَّعْرِيفِ، أحَد مُتَعالِيَاتِهَا الأجْنَاسِيَة، ما جَعَل الشِّعْرَ فِي تَنَوُّعِهِ وكَثْرَتِه، خُصُوصًا في مرْحَلَة ما بَعْدَ «الشِّعْرِ الحُر»، لا يَظْهَرُ للقَارِئ فِي مِرْآةِ ما يَجْرِي مِن مَاءٍ فِي نَهْرِ الشِّعْرِ الدَّافِقِ الَّذِي لا يَقْبَل غَيْرَ الصَّيْرُورَة كَشَرْطٍ لِوُجُودِهِ، ولِمَا فِيهِ مِن شَمْسٍ وَمَاءٍ وَهَوَاء.

فالتَّلَقِّي الأجْنَاسِيّ لِلْقَصِيدَةِ، فِي سِيَاقِ هَذِه الشُّرُوط، لَمْ يَعُدْ يَسْمَحُ بِرُؤْيَةِ ما يَحْدُثُ مِن مُتَغَيِّرَاتٍ، وما قَدْ يَجْرِي مِن اخْتِرَاقَاتٍ فِي الشِّعْرِ؛ أو أَنَّنا نَنظُرُ إلَى هَذِه الاخْتِرَاقَاتِ، باعْتِبَارِها خَارِجَ الشِّعْرِ، ولا تَنتَمِي إلَيْهِ، كَمَا حَدَثَ مَع قَصِيدَة عَبِيد بْنِ الأبْرَص، فِي مُجَمْهَرَتِه الشَّهِيرَة، الَّتِي اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الشَّاعِرِيِّين غَيْر ذَات صِلَةٍ بالشِّعْر، عُمُومًا، وثَمَّةَ مَن أَلْحَقَها بالخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهَا شَوَّشَتْ عَلَى النَّوْعِ، كَمَا شَوَّشَتْ عَلَى القَانُون، وخَرَجَتْ عَن سِياقِه[7].

(4)

فالنَّظَر فِي تَجْرِبَةِ رِفْعَتْ سَلّام، مِن خِلالِ المَقُولاتِ الأجْنَاسِيَةِ، الَّتِي حَدَّدَ الشَّاعِرِيُون القُدَامَى مَعايِيرَها، وَما تَمْتَازُ بِهِ مِن خَوَاص بِنيَوِيَة، هُوَ مُجَازَفَةٌ بِإِسْقَاطِ مَاضِي القَصِيدَةِ عَلَى رَاهِنِ الشِّعْر. فلَسْنَا – فِي تَجْرِبَة سَلّام – أَمَامَ خِطَابٍ، بَل نَحنُ أَمَامَ نَص، ونَسجٍ، كَمَا كَانَت أَرَتْشَن، الخَبِيرَةُ بالغَزْلِ، تُطَرِّزُ بالإبْرَةِ أثْوابَهَا، وَتَحُوكُها بِمَا فِيها مِن اشْتِبَاكَاتٍ وتَوالُجَاتٍ. او إذَا شِئْنَا الدِّقَّةَ أَكْثَر، فَنَحْنُ أَمَامَ عَمَلٍ شِعْرِيٍّ، أَمَامَ «الكِتَاب» بالمَعْنَى الرَّامْبَوِي أو المَالارْمَوِيّ[8]. وهُوَ الكِتَابُ المَفْتُوحُ عَلَى الوُجُودِ، عَلَى الحَيَاةِ، وعَلَى الخَلْقِ والإبْداعِ والابْتِكَار، لا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَكْلٍ، أو عَلَى هُوِيَة أجْنَاسِيَة مُغْلَقَة، ودَوَالُّهُ تَمْتازُ بِطَابَعِهَا الدِّينَامِيِّ المَفْتُوحِ، الَّذِي هُو صَيْرُورَة دَائِمَةٌ، لا تَهْدَأُ، وَلا تَرْسُخُ أو تَتَجَمَّد؛أوْ كَمَا يَقُولُ الفِيزْيَائِيّ بُورْ، فَعَالَم المَعْرِفَة (الإبْدَاعِ والخَيَال)، عالَمٌ فِيه حَرَكَة دَائِمَةٌ، عَالَم قَلِقٌ، مُتَوَتِّرٌ، بِدُونِ راحَةٍ، ولا اطْمِئْنانٍ، وهُوَ مَا كَانَ الشَّاعِر الرَّاحِل محمود دَرْويش عَبَّر عَنهُ، في أحَدَ تَصْرِيحَاتِهِ الصَّحَافِيَة، عَن الشِّعْر كَضَرُورَة[9] «عِندَما نُحاوِلُ أن نَتَعرَّفَ علَى ماهِيَةِ الشَّعْر سَيَكُونُ ذَلِك مِن خِلالِ كِتابَتِه وَمُمَارَسَتِه، ولَيْسَ مِن خِلالِ تَحْدِيدِ مَفْهُومٍ نَظَرِي مُسْبَق لَهُ…فَسِرُّهُ يَكْمُنُ فِي أَنَّهُ يَمُدُّنَا بِأَشْكَالٍ غَامِضَةٍ»، كَمَا يُسَمِّي دَرْوِيش هَذا الشَّكْل بِـ«الغَامِض الخَلّاق». فالشِّعْرُ، يَحْدُثُ إبَّانَ الكِتَابَةِ، فِي مُواجَهَتِها، خَارِجَ كُل المُتَعَالِيَاتِ والمُسْبَقَاتِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ قَانُونًا، بَلْ هُوَ إبْدَاعٌ يَتخَلَّق فِي النّصِّ وَبِالنَّصّ.

فِي وَضْعِ العَمَل الشِّعْرِي، أو الكِتَاب، كَمَا تُتِيحُهُ لَنا تَجْرِبَة رِفْعَتْ سَلّام الشِّعْرِيَة، نَكُونَ بَعِيدِينَ عَنِ الثَّابِتِ والمُتَعالِي والمُغْلَق المُنتَهِي، أو مَا هُوَ مُتاحٌ مِن قَبْل. اللّانِهَائِي والمَجْهُول، هُمَا ما يَسْتَهْوِيانِ الشَّاعِر الَّذِي لا يَبْقى أَسِيرَ الشَّكْل، مُقِيمًا فِيه، يَتْبَعُهُ وَيَسِيرُ خَلْفَهُ، بَلْ هُوَ مَن يَبْتَدِع الشَّكْل ويَخْلُقه، وَهُوَ نُصْبَ عَيْنَيْه. والنَّص عِندَهُ، هُوَ نَسِيجٌ، خُيُوطُهُ مَفْتُوحَةُ عَلَى كُل احْتِمَالاتِ الشِّعْر ودَهَشَاتِه الَّتِي لا تَنتَهِي، ولا تَفْتَأُ تَنسُجُ ثَوْبَها بِغِبْطَةٍ وانشِراح. فالكِتَابَةُ، أو حَدَاثَةُ الكِتَابَةِ، كَمَا أُسَمِّيهَا، هُنَا فِي هَذِه «الأعْمَال الشِّعْرِيَة»، أُنتِجَتْ، وَحَدَثَتْ خَارِجَ أُفُقِنا الشِّعْرِي والفِكْرِي، وحتَّى الإبْداعِي، أي أنَّنا لَمْ نَكُن مُهَيَّئِين، بِمَا يَكْفي لِتَقَبُّلِها؛ لأنَّ تارِيخ تَلَقِّي «القَصِيدَة» ما يَزَالُ جَاثِمًا عَلَى مَعْرِفَتِنا الشِّعْرِيَة، الَّتِي هِي مَعْرِفَةٌ بالشَّكْل المُسْبَقِ المُتَعالِي. ولَمْ نَبْلُغ، بَعْدُ وَعْيَ المَعْرِفَة والإبْداع، باعْتِبَارِهِما عَالَمًا، تَتوَقَّفُ قِيمَتُه علَى مَا نُعْطِيهِ لَهُ مِن شَكْلٍ ومَعْنًى[10] وَمَا نُحْدِثُه فِي الكِتَابَةِ مِن مُقْتَرَحاتٍ، لَيْسَت هِيَ ما كَانَ بالضَّرُورَة.

تَنتَمِي تَجْرِبَةُ رفعت سلّام، إذَن، إلَى هَذَا الأُفُق الشِّعرِي الَّذِي يَتَّسِمُ بالانشِراحِ، وبانفِتَاحِ الشَّكْل الشِّعْرِيّ، أو انفِتاح العَمَل الوَاحِدِ علَى نُصُوصٍ وأجْناسٍ، تتجاوَبُ وتتصَادَى في ما بَيَنها شِعْرِيًّا، وتَنتَسِبُ إلى الشِّعْرِ، في مَعْناهُ الجَمَالِي، الَّذِي هُوَ المَجَاز، و«النَّظْم»، أو البِناء اللُّغَوِي الَّذِي يَصعُبُ مَعَهُ فَصلُ العِبارَةِ عَن سِياقِها التَّرْكِيبِي، من جِهَةٍ، أو العَوْدَة بِها إلى «النَّثْر»، أو البِناء النَّثْرِي للعبارَةِ، التي تَصِيرُ شِعرًا، في سِيَاقِ العَمَلِ الشِّعْرِي، تتَلَبَّسُهُ، كَمَا يَتَلَبَّسُها، يَذُوبَانِ في بَعْضِهِما، مِثْلَمَا يَذُوبُ اللَّيْلُ فِي النَّهَارِ، ويَذُوبُ النَّهَارُ في اللَّيْلِ، وَكُلُّ واحِدٍ، مِنهُما، يَخْرُجُ مِنَ الآخَر، فِيمَا هُوَ يَلِجُ فِيهِ، ويَلْبِسُهُ.

تُراوِحُ الصَّفْحَةُ في أعْمَالِ رِفْعَت سلّام، بَيْنَ المَلْءِ والإفْراغِ، وهِيَ صَفْحَةٌ تُضاعِفُ فَضَاءَاتِها، وتُوَسِّعُهَا، كَمَا أنَّهَا تُكَسِّرُ قَاعِدَةَ التَّوْزِيعِ الشِّعْرِيّ بالأسْطُر، أو مِن خِلالِ التَّوْزِيعِ العَمُودِي، الَّذِي كَانَ مَا يَزَالُ فِي تَجَارِبِ «الرُّواد»، يَرَى في السَّطْرِ «بَيْتًا»، ويَحْرِصُ عَلَى تَبَنِّي مَفَاهِيمَ «القَصِيدَةِ»، كامِلَةً، بِمَا فِيهَا مَفْهُومُ البَيْت نَفْسه. ولَعَلَّ فِي خَلْخَلَةِ بِنَاءَ النَّصّ، وفِي بُرُوزِ البَيَاضِ أو الفَراغِ، كَدال إلى جَانِبِ السَّوادِ، والرَّسْم والتَّصْوِيرِ، ما يُضَاعِفُ مِن انتِفَاءِ مَفاهِيمَ البِناءِ فِي «القَصيدَةِ»، ويُصْبِحُ البَيْتَ غَيْرَ ذِي جَدْوى فِي الكِتابَةِ؛ لأنَّهُ انحَلَّ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَذَابَ فِي مَاءِ النَّص، وتَلاشَى.

في الأعْمَالِ الشِّعْرِيَة، بِجُزْأَيْهَا، مَعَ اسْتِثْناءاتٍ قَلِيلَةٍ، كَمَا نَجِدُ، مَثلًا، فِي دِيوَان «وَرْدَة الفَوْضَى الجَمِيلَة» وَفِي دِيوَان «إنَّها تُومِئ لِي» تَنتَفِي هَذِه القَاعِدَة، ومَفْهُومُ البَيْتِ يَتَلاشَى مِن تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ لأنَّهُ مَفْهُومٌ لا يُسَايِرُ صَيْرُورَةَ الكِتابَةَ، أو أنَّ الكِتَابَةَ تتجاوَزُهُ، أو تُفَتِّتُهُ، وتُذِيبُهُ فِي النَّصِّ، دُونَ أن تَتْرُكَ لَهُ أثَرًا. فالكِتَابَةُ، هِي طَمْسٌ لآثَارِ الشَّفَاهَةِ والصَّوْت، وَحَد مِن هَيْمَنَتِهِما، ولِكُلِّ ما ابْتَنَتْ بِهِ الشِّعْرِيَةُ العَرَبِيَة القَدِيمَةُ وُجُودَهَا، أو بِهِ تَسَمَّتْ.

يَنسَجِمُ هَذَا مَعَ وَضْع التَّعْتِيمِ الأجْنَاسِيّ، كَما تَذْهَبُ إلِيْهِ الكِتابَةُ، الَّتِي لا تُطِيعُ جِنسًا بِعَيْنِهِ، أو تَذُوبُ فِيهِ، بَلْ تَرَى فِي التَّصَادِي بَيْنَ الأجْناسِ والأنواعِ والكِتَاباتِ، بِما فِيها «القَصِيدَة»، كَمُقْتَرَحٍ شِعْرِي جَمَالِي، أو فِي الشَّفَاهَةِ، مَاء يَشْرَبُ مَاء، ويَجْرِي فِيهِ بانسِيابٍ وطَلاقَةٍ. هذا الانسِيَابُ، هُو الَّذِي لَمْ يَسْتَطِع اليُونَان، كَما يَقُول نُورتْرُوب فْرايْ تَسْمِيَتَهُ؛ فَهُم أَعْطَوْنَا «ثَلاثَةَ أسْمَاءٍ مِن أَنوَاعِنَا الأدَبِيَة: وَلَمْ يُعْطُونَا كَلِمَةً تُسَمِّي النَّوْعَ الَّذِي يُخَاطِبُ القَارِئ مِن خِلالِ كِتَابٍ، وَلَمْ نَبْتَكِرْ نَحْنُ كَلِمَةً مِن عِندِنَا بِطَبِيعَةِ الحَالِ»[11]. ففْرَايْ أدْرَكَ ما تَقْتَضِيهِ الكِتابَةُ، بِما جَرَى فِيهَا مِن مَاءٍ، مِن تَغْييرٍ فِي التَّسْمِيَةِ، حتَّى وإِن بَدَا لَهُ أنَّ الأمْرَ مُشْكِل، أو مُسْتَعْصٍ، رُبَّمَا، ولَمْ يُدْرِك، أنَّ التَّسْمِيَة تَمَلُّك، وَمَن يُسَمِّي، هُوَ مَن يَمْلك، كَما يَقُول هَايدِغَر.

صَفْحَةُ بِأَكْثَرَ مِن مَكانٍ. لا حَدَّ يَفْصِلُ بَيْنَ الأَبْيَض والأسْوَدِ، لَيْلٌ يَلِجُ النَّهَارَ، كَمَا النَّهَارُ يَلِجُ اللَّيْلَ، لا فَرْقَ، وشِعْرِيَةُ النَّصّ هِي شِعْرِيَةُ الكُلّ الشِّعْرِيّ، حَيْتِ لا نَثْرَ ولا نَظْمَ، بل اللُّغَةُ، وَهِيَ تُعِيدُ بِناءَ دَوَالِّها، وتُعِيدُ كِتابَةَ ما كَان سَمَّاهُ مالارْمِيه بـ«الكِتَاب المُطْلَق»، أي الكِتَاب الَّذِي يَحْمِلُ كُل الأسْماء، ولا اسْمَ لَهُ؛ لِأنَّهُ كِتَابٌ ما إن نَفْتَحَهُ، حَتَّى يَتَعَذَّر عَلَيْنَا إغْلاقُهُ، أو إنهاؤُهُ. فهُوَ مُسْتَمِرٌّ، ومَفْتُوحٌ دُونَ نِهَاياتٍ. لا نَعْرِفُ مَتَى بَدَأَ، وَلا نَعْرِف مَتَى انتَهَى؛ لأَنَّهُ لَمْ يَنتَهِ، فَهُوَ مَفْتُوحٌ، لَيْسَ عَلَى طَرِيقٍ، بَل عَلَى طُرُق.

(5)

مَن يَقْرَأْ تَجْرِبَة رِفْعَتْ سَلّام، فَهُوَ يَجِدُ أَن العَمَلَ الشِّعْرِيَ فِيهَا كِتَابٌ مَفْتُوحٌ، وكُلُّ عَمَلٍ يُسْلِمُكَ إلَى الآخَر، ويأْخُذُكَ إلَيْهِ، مِن خِلالِ هَذَا التَّجاسُرُ اللانِهَائِي، أو التَّوَالُج الَّذِي مِن سِمَاتِ حَدَاثَةِ الكِتَابَة، وخَواصِّهَا، ما يَجْعَلُ مِن أعْمَالِهِ كِتَابَةً لا شَكْلَ لَهَا، أو هِيَ تَجْرِي، بالأَحْرَى، خارِجَ الشَّكْلِ؛ لأنَّها هِيَ مَن تَقْتَرِحُ شَكْلَها، وبالتَّالِي، تَقْتَرِحُ بِنَاءَهَا، تُشَوِّشُ المَفاهِيمَ وتُرْبِكُها، كَما تُرْبِكُ التَّصَوُّرات، وما هُوَ مُعْطًى من فَهْمٍ قَدِيمٍ للشِّعْر، باخْتِزالِه في «القَصِيدَةِ»، كَنَمُوذَج أَعْلَى.

وَأوَدُّ هُنَا، أن أعُودَ إلَى ما سَمَّيْتُ بِهِ الشَّكْلَ فِي “حَدَاثَةِ الكِتَابَةِ”، وأعْنِي الشَّكْلَ الدِّينَامِيَ المَفْتُوحَ؛ وهُوَ شَكْلٌ لا يَقْبَلُ الانغِلاقَ والانتِهاءَ؛ لِأنَّهُ يَتوسَّعُ باسْتِمْرارٍ، ويُوَسِّعُ دَوالَّهُ، ولا يَبْقَى أسِيرَ الوزْنِ، أو الإيقاع، كـ«دَالٍّ أكْبَر»، كما ذَهَبَ إلَى ذَلِك هَنرِي مِيشُونِيك، وتَبِعَهُ بَعْضُ العَرَبِ، دُونَ الانتِبَاهِ إلَى أنَّ الإيقاعَ، بِهَذَا المَعْنَى المُهَيْمِن فِي تعْرِيفِ الشِّعْرِ، ما هُوَ إلّا عَوْدَة إلى هَيْمَنَةِ الوَزْنِ، كدالٍّ بِهِ عرَّفَ القُدَماء الشِّعْرِ، وتَبِعَتْهُم نازِك المَلائِكَة فِي ذَلِكَ[12].

لا عَمَل، فِي أعْمَال رِفْعَتْ سَلّام، يَسْتَعِيدُ الآخَرَ، أو يُعِيدُ اسْتِرْجاعَهُ؛ كُلّ عَمَلٍ هُوَ تَوْقِيع شَخْصِي، سَواء فِي الشَّكْلِ، أو فِي البِناءِ، رَغْمَ ما فِي الدَّلالَة مِن تَجاوُبٍ، فِيهِ تَظْهَرُ الذَّاتُ خَالِقَةً، هِي مَن تَنفُخُ الحَيَاةَ فِي طِينِها كَـ«إلَهٍ صَغِيرٍ»، وتَحْيَا بِحَيَاتِهَا، لا بِمَا تَنتَظِرُه مِن حَياةٍ خارِجَة عَنها، آتِيَة مِن سَماءٍ نائِيَةٍ، كَمَا يَتَبَدَّى فِي سِيرَةِ الشَّاعِر، فِي عَمَلِه «إِلَى النَّهَارِ المَاضِي». كلُّ شَيء ابْتِدَاء واخْتِراع، ولا شَيْءَ كَانَ سَابِقًا، أو مَوْجُودًا قَبْلَ الشِّعْر. وعَطْفًا عَلَى ما سَبَقَ، فالشَّاعِر مَن يُسَمِّي، ولَيْس غَيْره، أو كَمَا يَقُول الشَّاعِر:

لِي أَن أَخْتَرِعَ التَّارِيخَ

وَلَهُ أن يُذْعِنَ لِي“.

بالذَّاتَ «لِي» يَبْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ، وبِهَا يَكُونُ وُجُودُه.

إنَّنَا، فِي حَداثَةِ الكِتَابَةِ، أمَام فِعْلِ ابْتِداءٍ وشُرُوعٍ، وأمَامَ شِعْرِيَةٍ لا تَتَحدَّدَ بِدالٍّ مُسْتَقِرٍّ ثَابِتٍ، لا يُغَيِّرُ إلا لِبَاسَهُ. فالكِتَابَةُ، بالمَعْنَى الَّذِي نَجِدُهُ فِي أعْمَال رِفْعَت سَلّام، هِي «نسَق سِيمْيُولُوجِي، بَصَرِي ومَكَانِي»[13] ولَيْسَتْ مُجرَّدَ تَوْزِيعٍ خَطِّيٍّ إمْلائِي، أو هِيَ رَسْمٌ للشَّفَاهَةِ واللِّسَانِ عَلَى الوَرَق، وهَذَا ما لَم يَعِهِ مَن انتَصَرُوا للوَزْنِ، أو الإيَقاع في تَسْمِيَة الشِّعْر، دُون خَيَالٍ. بلْ إنَّهَا كِتَابَةٌ، تَعِي دَوْرَ وَوَظِيفَةَ الإيقَاعِ، كَمَا تَسْتَوْفِي شَرْطَ وُجُودِهِ فِي ما تَذْهَبُ إلَيْهِ، لَكِنَّهَا لا تَبْقَى أسِيرَةَ هَذَا الدَّال. فهُوَ عِندَهَا وَاحِدٌ مِن دَوالِّ النَّصّ؛ لأَنَّ ثَمَّةَ دَوَالّ أُخْرَى، فِي تَوالُجِهَا، وما يَجْرِي فِي مَائِهَا مِن مَاءٍ، ما يَجْعَل العَمَل الشِّعْرِيَّ يَصِيرُ مُرَكَّبًا، مُتَشَابِكًا، بِلَّوْرِيًا، مُتَعَدِّدَ الأوْجُهِ والأضْلاعِ، تتَقَاطَعُ فِيهِ أجْنَاسٌ وأنوَاعٌ كِتَابِيَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وتَشْرَبُ بَعْضَهَا، مثْلَما يَشْرَبُ المَاءُ المَاءَ، ما يُعْطِيهِ سِمَةَ التَّعْقِيدِ والغُمُوض، أو إرْبَاك المُتَلَقِّي الَّذِي لَمْ يَخْرُج من حُدُود الجِنس والنَّوْع، كما حَدَّدَهُما النَّقْدُ العَربِيّ القَدِيم، مع قُدامَة، وابنِ رَشِيق، فيما بَعْد، في الوزن والقافية، كَشَرْطَيْنِ للشِّعْرِ، وللشِّعْرِيَةِ، وبِما سَيَجُرَّانِهِ وَرَاءَهُما مِن تَبِعاتٍ في «عَمُودِ الشِّعْرِ العَرَبِي»، عند الآمِدِيّ والقَاضِي الجُرْجَانِيّ.

(6)

إذَا كَانتْ أعْمَال رِفْعَتْ سَلّام، بِهَذَا المَعْنَى، فِي مُجْمَلِهَا، وَهِيَ خَرْقٌ لِشِعْرِيَة النَّمَط، ولِشِعْرِيَة المِعْيَار، كَمَا يُمْكِن أن نَلْمَسَ ذَلِكَ فِي أعْمالِه الشِّعْرِيَة بِجُزْأَيْهَا[14]،  فإنَّنَا سَنَكْتَفِي فِي التَّمْثِيل لِلتَّجْرِبَة، وفِي اخْتِلاقَاتِها الكِتَابِيَة، بِشَكْلٍ خاص، بِدِيوان «حَجَرٌ يَطْفُو عَلَى المَاء»، الَّذِي هُوَ مِرْآةُ أُفُق تَجْرِبَة الشَّاعِر، وما يَسْعَى لِإِحْداثِهِ مِن ابْتِداعٍ، فِي الشَّكْلِ، كَمَا فِي المَضْمُونِ، أو فِي الدَّال، كَمَا فِي المَدْلُولِ. فالدَّوال فِي حَداثَة الكِتابَة، وفِي الكِتابِ الشِّعْرِي، بَاتَتْ هِيَ المَداخِل السِّيمْيَائِيَة لوُلُوج النَّص، ولبُلُوغِ بَعْضِ ما يَخْتَزِنُهُ مِن شِعْرِيَة جمالِيَة، تَفْتَحُ النَّصّ على ما يُمْكِنُ أن يَقُولَه الشَّاعِر، بالتَّعْبِير السَّائِد الَّذِي باتَ، هُوَ ما نَذْهَبُ إلَيْهِ في الشِّعْر، دُونَ وَعْيِ الدَّوالّ، ما لَها مِن سُلْطَةٍ عَلَى النَّص.

فِي هذا العَمَل، يَظْهَر الوَعْيُ، أو الأُفُق الكِتَابِيّ، واضِحًا عِند رِفْعَت سلّام، بَل إِنَّ الصَّفْحَةَ تَكْشِفُ عَن تَعَدُّد دَوالِّهَا، بِما يَحْدُثُ فِيها مِن تَوَسُّعٍ، لَيْسَ فَقَط، بالاعْتِمَادِ على الكِتَابَةِ والبَيَاضِ، أو مَضَاعَفَةَ الكِتَابَة في الصَّفْحَةِ الوَاحِدَةِ، بالانتِقَالِ مَن وَضْعِ النَّصّ الواحِد، إلى النُّصُوص الكَثِيرَةِ المُتَجاوِرَة، والمُتَجاوِبَة، فِيما بَيْنَها، فِي الصَّفْحَةِ نفسها، ناهِيكَ عَن الرّسُومِ، والتَّصَاوِير الَّتِي لَيْسَتْ تَزْيِينًا، بل كَوْنها خارِجَة مِن رَحِمِ النَّصّ، وَهِيَ دَالٌّ آخَر، يَنضَافُ إلَى بَاقِي الدَّوَالّ، التي تَحْرِصُ حَدَاثَة الكِتَابَة عَلَى تَكْثِيرِها، في العَمَل الشِّعْرِي.

ولَعَلَّ وَضْع الصَّفْحَة المُزْدَوِجَة، الَّذِي كَان مَلارْمِيه، تَحَدَّثَ عَنه، وَنَفَّذَهُ فِي نَصِّه «ضَرْبَةُ نَرْد»، يَجِدُ مَكَانَهُ فِي هَذَا العَمَل، رَغْمَ أنَّ تِقْنِيَة الطِّبَاعَة، الَّتِي تتجاوَزُ يَدَ الشَّاعِر، لا تَسْمَحُ بِهذِه الإمْكَانِيَةِ، كَما تَصوَّرَها الشَّاعِر، رُبَّمَا.

يُمْكِنُ، اسْتِشْفَافُ، هَذِهِ التَّفْضِيَةِ، وهَذَا التَّعَدُّد، والتَّوَسُّع فِي دَوالِّ الكِتَابَةِ، مِن خِلالِ النَّماذِجِ الآتِيَة:

النَّمُوذَج (1)

النَّمُوذَج (2)

النَّمُوذَج (3)

تَكْشِفُ النَّماذِج المُقْتَرَحَة، هُنا، عَن تَداخُل الدَّوَالِ وتوالُجِها. فهِيَ مُتَجاوِبَة، وبَعْضُها يُضِيءُ الأخَر، ويَتَعالَق مَعَهُ، لَيْسَ فِي مَسْتَوَى المَدْلُول، بَل فِي مُسْتَوَى الدَّوال. للِعَيْنِ مَكانٌ فِي النَّص، كَمَا أنَّ الصَّوْت، أو الشَّفَاهَة، لا مَكان لَها هُنَا، أوْ هِيَ حاضِرَةٌ ضِمْنَ ما يُتِيحُه الصَّوْت، باعْتِبارِهِ مُكَوِّنًا، بَيْنَ غَيْرِهِ مِن مُكَوِّناتِ النَّصّ، ولَيْسَ عُنصُرًا مُهَيْمِنًا، أو باعْتِبارِه البِنيَة الأُمّ، كما فِي «القَصِيدَةِ»، الَّتِي تَحْضُرُ فِيها العِبَارَة، باعْتِبارِها صَوْتًا، ، لا لُغَةً مَكْتُوبَةً، أو هِي، فقَط، إمْلاءً، حامِل صَوْتٍ، لا غَيْر.

مَا نَحْنُ أَمَامَهُ لَيسَ «قَصِيدَة»، بالمَعْنى الَّذِي بِهِ يَتَعَيَّنُ هذا المَفْهُوم القَدِيمُ ويَتَسَمَّى، كَما كَان حَدَّدَ سِيَاقَه اللُّغَوِيّ ابن منظور في «لسان العَرب»، الَّذِي حَصَر العَرَبِيَة، في زَمَنٍ دُون غَيْرِهِ، كَمَا حَصَرَ الشِّعْرَ في «القَصِيدَة»، الَّتِي هي التَّشْطِير، لا الكِتابَة والتَّسْطِير. انَّنا أمام الشِّعْر في بُعْدِهِ الكِتَابِي، وفِي بُعْدِهِ البَصَرِيْ، السَّوادُ والبَيَاضُ. الرَّسْم والكلمَةُ. الصَّوْتُ والحَرْف. المَتْن والهامِش، العَيْنُ واليَد.. في تَصَادِياتِها، وفِي توالُجاتِها الَّتِي لا يُمْكِن النَّظَر إلى بَعْضِها بِمَعْزِل عن بَعْض، أو قِراءة السواد دون بَيَاضٍ، أو العِبارَة دون صَوْتٍ. هذا هو ما كُنتُ سَمَّيْتُه، في أكْثَر مِن مَكانٍ بـ”الكُلّ الشِّعْرِي“، وهذا ما يُصَعِّبُ مُهِمَّةَ القَارئ الَّذِي اكْتَفَى بِقراءةِ السَّوَاد، أو النَّظَر فِيهِ باعْتِبارِه صَوْتًا، الأذُنُ هِي مَن تَتَسَمَّعُه، أو تَذْهَبُ إلَيْهِ؛ لأنَّه في طبيعته، هُو إنشَادٌ وإِلْقاءٌ، ووَعْيٌ شَفاهِي.

شِعْرِيَة المُغَايَرَةِ، هِيَ نَفْسُها شِعْرِيَة الاخْتِلاف، وشِعْرِيَةُ الكُلّ. شعْرِيَةٌ، فِي وَحْدَثِها كَثْرَتُها وتَعَدُّدُها، وبِقَدْرِ ما تُوهِمُ بالمُتَواصِل، فَهِيَ تَحْرِصُ عَلَى المُتَقَطِّع والمُتَشَظِّي. شعْرِيَةٌ تُفَتِّتُ الدَّوالّ، تَنثُرُها فِي الصَّفْحَةِ بِطَرِيقَةٍ فيها تَمْوِيهِ، وتَشْوِيشٌ على هذا المُتَواصِل، وإرْبَاكٌ للقِراءَة الخَيْطِيَةِ الخَطِّيَةِ. لا بِداَيَة للنَّصّ، ولا نِهَايَة لَهُ. النَّصّ، فِي كُلِّيَتِه، هُوَ النَّقْطَة الَّتِي عِندَها يَحْدُثُ الشِّعْرُ ويَكُون. فحِينَ نَسْعَى لإِجْراء مَفَاهِيمِ «البَيْت» و«الوَزْن» و«القَافِيَة»، و«الصَّدْر» و«العَجُز» وغَيْرِها، مِمَّا هُوَ ماضِي جَمالِيَة القَصِيدَة، فَإنَّنا سَننفِي الشِّعْر والشِّعْرِيَة عن أعْمال رِفْعَت سَلّام، وعَن أعمال قاسم حدَّاد، وسليم بركات، وعبد المنعم رمضان، وغيرها مِنَ الأعمال التي هي، اليوم، أَعْمال كِتَابِيَة، بامْتِياز، أو هِي كِتَابٌ، بالمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إَلْيْهِ مَالارْمِيه.

في النَّمَاذِج الثَّلاثَة السَّابِقَة، كَمَا فِي كُلّ صَفَحاتِ الكِتاب، التَّفْضِيَة، رَغْمَ ما يَبْدُو فيها مِن مَلْءٍ، فَهِيَ إفْراغٌ. النَّصّ يَسْتَحْضِرُ المِعْمار، كما يَسْتَحْضِر مَفْهُوم البِناء. وفِي المِعْمار، القَصْدُ مِنَ المَلءِ، هُوَ إحْداثُ الفَراغَاتِ، والشُّقُوق، والتَّصَدُعاتِ، وهذَا هُو ما يُبْعِد عَنِ النَّص مفهومَ البِناء، بمعنى الإقامَةِ؛ بل إنَّ البِناء، هُنا، هُوَ بِناء، بِمَعْنَى التَّرَحُل، والانتِقال، أيْ بالمَعْنَى التْرُوبَادُورِيّ، الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الأرْضُ كامِلَةً، هِيَ لِبَاسُ المُتَرَحِّل، لا جُغْرافِيَةَ، ولا حُدُودَ؛ تُخُومٌ بِلا مَدًى، بِلا نِهَايَة.

(7)

مَن يَقْرَأ النَّصّ، بالوَعْيِ الكِتابِيّ، أي بشِعْرِيَة الفَضَاء، حَتْما سَيُدْرِكُ أَنَّ هذا العَمَل، هُو «جَامِع نَصّ»، أو مُنعَقَد نُصُوصٍ وكِتاباتٍ، لَيْسَ بِمَعْنَى التَّناصّ، كَمَا ألِفْنا أن نَقْرَأَهُ فِي الشِّعْر، عَلَى شَكْل نُتُوءٍ بَارِزٍ، يُحِيلُ عَلَى الأصْل، أو الأصْل يَطْفُو عَلَيْهِ، بِما لا يُفِيدَ النَّصَّ، بل بِمَعْنَى الامْتِصاصِ، الَّذِي يَصِيرُ في هذا العَمَل، نَوْعًا مِن البَارُودْيا، أو التَّوْظيف المَقْلُوب للمَعْنَى، وحتَّى للتَّرْكِيب، إمَّا بالزِّيادَة، أو بالحَذْفِ، أو بالقَلْبِ، أو بالتَّضَادِ، والتَّنَافُر، أو بالسِّياق الَّذِي تَصِيرُ فيه العِبارة، أو الجملة، غير ما جاءَتْ مِنه مِن مَكانٍ، أو مَا كَانَتْ تَرْسُو فِيه مِن مَعْنى.

فالنُّصُوص المُقَدَّسَة، وعلى رأْسِها النَّصّ القُرْآنِي، يَحْظَى بِنَصِيبِ الأسَدِ، كَما يُقال. لكِنَّ هَذَا النَّصّ، يَفْقِد دَلالَتَه الدِّينَيَةَ، أو أنَّ الشَّاعِر يُنزِلُهُ مِنَ السَّماءِ إلَى الأرْضِ، يَجْعَلُهُ نَصًّا يَقُولُ مُعانَاةِ الذَّات الشَّاعِرَةِ، يَقُولُ سِيرَتَها المُثْخَنَةَ بالآلامِ والجِراحِ، ويَفْضَحُ ما تُقَدِّمُه السَّماء للأرْضِ مِن مُبَرِّراتٍ لِيَقْتُلَ إنسَانٌ إنسَانًا باسْم السَّماء، أو لِيَسْرِقَهُ، ويُنهِكَ قُواهُ، ويَشْرَبُ دَمَهُ وعَرَقَهُ، دُون وَجْهِ حَقّ، أو باسْمِ الدِّينِ أو السُّلْطَان، حَيْثُ «لَا يُوجَدُ فِي الأرْضِ إلّا الأَنِين»، ويَصِير «البَحْثُ عَن قِبْلَةٍ» يَرْضَاهَا الشَّاعِر «سُدًى»، أو هو مَحْضُ سَرابٍ، أو كَما فِي النَّص، «سَرابٌ (هِيَ) حَتَّى مَطْلَع الفَجْر“.

يَدْخُل الحَدِيثُ، أيضًا، فِي هذا المَعْنَى، لَكِن لَيْسَ بِما يُفِيدُهُ مَعْنَى الحَدِيث، بلْ بِما يُفِيدُه سِياق النَّص، وما تُفِيدُ البارُودْيا، والسُّخْرِيَة السَّوْداء، التي قَصَدَ الشَّاعِر أن يَسْتَعْمِلَها، مِن بَاب النَّقْد، والفَضْح؛ خُصُوصًا أنَّ الإحالاتِ بلا ظُفْرَيْنِ، أو مُزْدَوِجَتَيْن، تُؤَكِّد أنَّ صِلَتَها، لَيْسَ بما سَبَق، بل بِهذا النَّصّ، أو العَمَل ذَاته، مثل النَّاسُ نِيَامٌ فإذَا مَاتُوا انتَبَهُوا. فهَذِه العِبَارَة:

  • إمَّا أنَّها اسْتُعْمِلَتْ كبَارُودْيا.
  • أو أنَّهااسْتُعْمِلتْ لِتُشِيرَ إلَى ما تَحْمِلُه مِن تَعْبِيرٍ شِعْرِي سُرْيَالِي، يَجْعَل مِنَ المَوْتِ حياةً، وَمِنَ الحَيَاةِ نَوْمًا، وهُوَ ما يَسِيرُ فِي نَفْسِ تَوَجُّه تَجْرِبَة الشَّاعِر نَفْسِه، في ما يُضْفِيهِ على اللُّغَةِ من مَجازاتٍ بَعِيدَة، وتُعِيدُ كِتابَةَ اللُّغَة شِعْرِيًّا عَلَى الأرْض.

للشِّعْرِ مَكانٌ فِي هذا السِّياق. فمِثْلَما نَجِد المُتَنَبِّي، نَجِد شَوْقِي، وَنَجِد جَبْران. فالمُتَنَبِّي، مَثلًا، يَحْضُر بِصَفَتِهِ عانَى فِي مِصْر ما عَاناه. وهُوَ، فِي الحَقِيقَة، صَدًى لِصَوْتِ الشَّاعِر، الَّذِي وَجَدَ في بَيْتِ المُتَنَبِّي ما يَخْتَزِلُ كُلّ شَيْءٍ، وكَأنَّ الزَّمَنَ هُوَ نَفْسُه، لَمْ يَجْرِ ماءٌ تَحْتَ جُسُورِه. يقول المُتَنَبِّي:

وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَاء

أمَّا حُضُور جَبْران، فَهُو حُضُورٌ بالخَرْقِ، وبالابْتِداعِ، و«بِقَوْلِ المُحال» أو «ما لَيْسَ فِي كَلامِ العَربِ»، كما قِيلَ عَن أبِي تَمَّام. يقُول الشَّاعِر: «وقَطِيعُ نِسَاءٍ يَتَحمَّمُ حَتَّى الفَجْر». الشَّاهِدُ، هُنا، في عِبارة «يَتَحَمَّمُ»، الَّتِي كانتْ سَبَبَ اتِّهامِ جَبْران بجَهْل اللغة العرَبِيَة، حين اسْتَعْمَل العِبَارَةنَفْسَها في قَولِه: «وَتَحَمَّمْتُ بِعِطْر»، فَكان جَوابُهُ لهؤلاء: «لَكُمْ لُغَتُكُم ولِي لُغَتِي».

هَلْ رِفْعَت، بهذا النُّزُوعِ البَّارُودِي السَّاخِر، سَعَى لِقَوْل ما قَالَهُ جَبْران نَفْسه؟ !

لَن أسْتَمِرَّ فِي عَرْضِ مُخْتَلَف التَّقَاطُعاتِ الَّتِي يُحْدِثُها النَّص مَع غَيْرِهِ من النُّصُوص؛ فَهَذا، يَكْفِي؛ لأنَّه يُسَاعِدُنا فِي إدْراكِ طَبيعَة حداثة الكِتابَة في الشِّعْر العربيّ المُعاصِر، وفِي ما تَقْتَرَحُه مِن مَعْرِفَة شِعرِيَة، هِي غير ما تَعوَّدْنا عَلَيْهِ في الثَّقافَة العربية، التي هِي ثَقافَة نَمَطٍ، وتِكْرار واجْتِرار، وليْسَت ثَقافَة أُفُق وخَلْق وابْتِكار.

(8)

لا أَحَدَ، وَهُو يَقْرَأُ دِيوانَ «إلى النَّهَار المَاضِي»، سَيَشُكُّ فِي أنَّهُ سِيرَةً شِعْرِيَةً، بِما تُفِيدُهُ مِن تَوَاريخ وأمْكِنَة، وحضُور ذَوات لَهَا صِلَة بِدَمِ الشَّاعِر، وبِتِلْكَ الطُّفُولَةُ الآتِيَة مِن عَدمٍ، أو مِن طِينٍ، رُوحُهُ مِنهُ تَحدَّرَتْ، لا مِن غَيْبٍ أمَرَ بِوُجُودِ الكَوْنِ فَكَانَ. وإذَا كَانَ هَذَا العَدَم، هُوَ أصْلُ وُجُود الشَّاعِر، فَهُوَ، فِي «حَجَرٌ يَطْفُو عَلَى المَاء»، أصْلُ البَلاءِ، وما نَشَأَ مِن شَرٍّ في الكَوْنِ، وفِي الطَّبِيعَةِ، وفِي الإنسَان. فالآتِي مِن عَدَمٍ، أومِن لَحْمِ الأرْضِ ومِن دَمِها، هُوَ مَن بَاتَ يُعانِي ما فِي الأرْضِ مِن فَسَادٍ، إلى الدَّرَجَةِ الَّتِي اسْتَعانَ فِيها بمُتُون أسْلافِهِ الفَراعِنَة، ليَبْحَثَ عَن الأرْضِ «الفَاضِلَة» بالتَّعْبِير الأفْلاطُونِيّ، أو عَن «أرْضِ الخَيالِ السَّماوِيَة»، بِتَعْبِير ابْن عربي:

فَلْتُقِم العَدْلَ إذَن مِن أجْلِ سَيِّدِ العَدَالَة.

إنَّكَ أنتَ القَلَمُ والقِرْطَاسُ البَرْدِيّ واللَّوْحُ،

أَنتَ تَحُوت، فَتَجَنَّب اقْتِرافَ الشَّرّ

مَن تَحُوتُ هَذا، اليَوْم، أو هُنا والآن؟ هَلْ هُوَ رَمْزُ العَدالَةِ والحَقّ والمُساواة والجمال، أم أنَّهُ ذَلِكَ الَّذِي كَان، ولَن يَعُودُ، أي الفِرْدَوْس المَفُقُود، الضَّائِع، المُتلاشِي فِي غَمْرَةِ «الشَّرِ» المُسْتَشْرِي فِي الأرْضِ؟

التَّلْمِيحُ والإشارَةُ والتَّكْثِيف، هِيَ مِن خَواصِّ الشِّعْر. والشَّاعِرُ لَيْسَ بِقَوْلِ الشَّيْء كَما نراهُ ونَعْرِفُه، فَهُو يُعِيدُ خَلْقَهُ، بِوَضْعِه فِي سِياقِ الرَّمْزِ، لِيَصِيرَ ما لايَنقَالُ مَقُولًا، لَكِن بِصِيغَةٍ شِعْرِيَة جَمَالِيَة، تتفَادَى المُبَاشرَةَ والتَّصْرِيح. طبيعَةُ الشِّعْر هَكذَا؛ لأنَّ فِي الرَّمْزِ والمَجازِ، ما لا يَسْتَطِيع الوَاقِعُ قَوْلَه. فلنَتأمَّل كِتابَات الصُّوفِيَة، وكِتاباتِ السُّرْيالِيِّين، وأصْحاب مَسْرَح العَبَث، مَثلًا.

(9)

لا تَنتَهِي السِّيرَةُ في النَّصّ المَقْصُودِ بالسِّيرَةِ، بَلْ تتناسَلُ فِي كُل أعْمَال الشَّاعِر؛ لأنَّها لَيْسَتْ سِيرَةً بالمَعْنَى الاسْتِعْراضِي. انَّها سِيرَة جُرْحٍ عَمِيق، مُتَخَتِّرٍ في ذَاتِ الشَّاعِر، وفي قَاعِها الغَوِيطِ، الَّذِي لَيْسَ جُرح «شَخْص» بل جُرْح «ذَاتٍ»[15] لا تَفْتَأُ تُوَسِّعُ جُرْحَها، أو تَعْتَبِرُهُ قَدَرَها الَّذِي لا مَفَرّ مِنهُ، ومَا يَجْرِي مِن قَهْرٍ وشَرٍّ فِي الأرْضِ، هُو أعْتَى وأَقْوَى مِمَّا كَان:

لا أسًى، لا عَزَاءَ

مَا سَيَجِئ جَاءَ“.

كُلُّ شَيْءِ اسْتُبِيحَ، وَصَارَ كَابُوسًا وَنامُوسًا:

آسِنَةٌ هِيَ البِلادُ والعِبَادُ والغِنَاءُ والثُّغَاءُ والصَّهِيلُ والهَدِيلُوالضَّجِيجُ والعَجِيجُ والكَلامُ والأحْلامُ والهُراءُ والبُكَاءُ والحَنِينُوالأنِينُ والشَّهِيقُ والنَّهِيقُ والكَابُوسُ والنَّامُوسُ والنِّسْيَانُوالأوَانُ“.

لُغَةً، هَذِهِ المُفْردَاتُ بَيْنها مَسَافَةٌ دَلالِيَة، لا مَعْنَى يَصُبُّ فِي الآخَرِ، أو يُحِيلُ عَلَيْهِ، ما يَعْنِي أنَّ اسْتِعْمال النَّص لِهَذا التَّنافُر المُعْجَمِي، الَّذِي لا يَجْمَعُهُ الحَقْل نفسه، وبِنَوْعٍ مِن الاسْتِرْسَالِ الخَطِّيّ، الَّذِي لا يَسْتَعْمِل عَلاماتِ التَّنقِيط، لَيْسَ فَقَط، تَوْظِيفًا إيقاعيًّا، لإحْدَى مُمْكِناتِ البَدِيعِ، وهَذِه مِنَ السِّمات الَّتِي تُمَيِّز تَجْرِبَة رِفْعَت سَلام، بَلْ هُو جَمْعٌ بَينَ النَّقِيضَيْن، بين ما لا يَنجَمِع، وهذا لا يَحْدُثُ، إلَّا حِينَ يَصِيرُ الشَّيْءُ نَقِيضَهُ، أيْ حِين يَصِيرُ البُكاء هُراءً، ويَصِيرُ الهُراءُ بِكاءً، أو الشَّهِيقُ نَهِيقًا، والنَّهِيقُ شَهِيقًا. لغَةٌ تَتَعَرَّى مِن مَعانِيها، تَصِيرُ شَفَّافَةً، وتَصِيرُ قابِلَة لِكُلِّ المَعانِي، مِثْلَما صَار النَّوْمُ حياةً في الحدِيث السَّابِق.

(10)

مِنَ الدَّوَالّ التي يَسْتَعْمِلُهاالشَّاعِر في عَمَلِهِ هَذَا، التَّشْطِيبُ علَى كَلِماتٍ، وتَرْكُها مَقْرُوءَة، مَعَ ما يَقْتَرِحُ النَّصّ مِن بَدِيل يَلِيهَا. هذه التَّشْطِيباتُ، باعْتِبارِها دَوَال، لَهَا أهَمِّيَتُها، فِي ما يُمْكِنُ اعْتِبارُهُ مِحْوَر اخْتِيار دَلالِي. في حَقِيقَةِ الأَمْر، فالشَّاعِرُ يَفْرِضُ عَلَيْنا الاخْتِيارَيْن مَعًا، ولا يَضَعُنا، فقط، أَمَام اخْتِيارٍ واحِدٍ، وإلّا كَان تَرَك ما بَدَا لَهُ صَالِحًا، أو ما ارْتَضاه كاختيارٍ يُوافِقَ النّص، أو الجملة.

لِماذَا العِبَارَةُ تَصِيرُ:

أنتَ الآنَ نَدِيمِي جَلّادِي

بَعْدَ أن كَانتْ:

أنتَ الآنَ نَدِيمِي وَرَئِيسُ الخَدَمِ

الاخْتِيارُ لَيْس نَفْسه، والدَّلالَةُ تتغَيَّرُ إلَى النَّقِيضِ، تَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ السِّياقِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ؟ !

هذا النَّوْع مِن الدَّوَال، هُوَ أحَد خَواص الكِتابَة، لا الشَّفَاهَة؛ لأنَّ في الشَّفَاهَةِ، لا وُجُود لِلتَّشْطِيبِ. في الكِتابَةِ، نَسْتَطِيع أن نَكْتُبَ ونَمْحُو، والمَحْوُ فِي الكِتابَةِ هُو تَعْبِيرٌ عَن مُعاناةِ الكِتابَةِ، مِن جِهَة، وتَعْبِير عَن إخْفَاء الأثَر، وطَمْسِه. هُنا، الإخْفاء إظْهارٌ، والمَحْوُ تَثْبِيتٌ، وهذا فِيهِ ما فيهِ، كما في قَوْلِ الشَّيْخِ الأكْبَر، فلنتَأَمَّلْهُ.

(11)

مَا يُثيرُ الانتِباه، أيضًا، في تَجْرِبَة رفعت سلام، هُو المَنحَى الأسْطُورِيّ العَجائِبي. فبِقَدْر ما يبْدُو أنَّ هذا مُناقِض لِطَبِيعَة المَعْنَى الثَّاوِي في قَرَارَة النَّص، وَهُو ذَلِك الجُرْح الكَبِير الذي يَأْكُل نَفْسَه ويَعْتَرِيها، أي باعْتِباره أحَد سِمَات الواقِع، بِقَدْرِ ما يَكُون العَجِيبُ والغَرِيبُ هُو الواقِعُ بِعَيْنِه؛ لَكِنَّه واقِعٌ أشَد مَرَارَةً ومأسَاوِيَةً مِنَ الواقِع نَفْسِه؛ لأَنَّهُ يُضَاعِف هَذَا الوَاقِع، ويَضَعُهُ أمَامَ مَرايَا مَشْرُوخَة، مَلِيئَةٍ بالكُسُورِ والتَّشَقُّقَاتِ، كُلُّ شَيْءٍ فِيها كَثِيرٌ، يَفِيضُ عَنِ الوَاحِد.

لا يَسْتَعْمِل رفعت مُكَوِّنات الأسْطُورَة، كقِناع، وهو ما كان عِندَ شُعراء حداثة القَصِيدَة[16] يَعْنِي الاخْتِفاء وَراء ما تَحْمِلُه بَعْض الأسَاطِير الإغْريقِيَة مِن إيحاءَاتٍ ورُمُوز ودَلالاتٍ. فهُوَ اسْتَعْمَلَها فِي سِياقِ البِناءِ، وجاءَتْ كَسَرْدٍ، مِن اخْتِلاقِ الشَّاعِر. هَذَا السَّرْد الَّذِي أضْفَى علَى النَّصّ شِعْرِيَة مُضَاعَفَةً، عِلْمًا أَنَّ هَذِه السُّرُود، لَمْ تَكُن فِي صُلْبِ المَتْن، بَل جَاءَتْ فِي بَعْضِ هَوامِشِه، لَكِنَّ هَذِهِ الهَوامِشِ نابِعَة مِن ثَنايَا المَتْن نَفْسِه؛ لأَنَّها مِثْل الجَدْوَل، أو المَجْرَى المُتَفَرِّع مِن العَيْنِ نفسها. متْنٌ، وَهَوامِش، ونَهْرٌ، وَجَدَاوِل.

الأُسْطُورَةُ، اليَوْم، لَمْ تَعُد، إذَن، تَمْثيلًا، وتَعْبِيرًا بالرُّموزِ والأَقْنِعَة، عَن واقِعٍ ما، بالإيهامِ بِهِ، بِطَرِيقَةٍ مُضَلِّلَةٍ؛ بَلْ إنَّها، فِي حَدَاثَة الكِتابَةِ، صَارَتْ عُنصُر بِناءٍ، وتَوْظِيفًا للسَّرْدِ، أو الحَكْيِ، فِي سِياقٍ شِعْرِي، الحِكايَةُ فِيهِ، هِي امْتِدَادٌ للفِكْرَةِ والمَعْنَي، بل هِي تَوْسِيع لِهَذَا المَعْنَى، خَلْقًا، لا تَمْثِيلًا. وهَذَهإحَدى سِمَاتِ البِناء في الشِّعْرِيَة الدِّينامِيَة المَفْتُوحَةِ، الَّتِي يَكُونُ فِيها الشَّكْل تَخَلُّقًا فِي لَحْظَةِ الكِتَابَةِ، مِن دَاخِلِها، ولَيْسَ سَابِقًا عَلَيْها، بَل يَكُونُ هُوَ مَسْكَنُ الذَّات وإقَامَتُها[17]، وَهِيَ إقَامَةٌ في التَّرَحُّل، فِي دَاخِلِ هَذَا البِناءِ نَفْسِه، بِتَغْييرِ المِعْمارِ، وخَلْق فَضَاءَات دَاخِل الفَضَاء نفسه.

(12)

ثَمَّةَ الكَثِير مِمَّا يُمْكِنُ الوُقُوف عِندَهُ فِي تَجْرِبَة رفعت سَلّام، وفِي التَّجارِب القَلِيلَة الَّتِي دَخَلَتْ هَذا المَجْرَى الشِّعْرِي المُتَغَيِّر، لَكِنَّ مُقارَبَتَنا، اكْتَفَتْ بِالكَشْفِ عَن بَعْضِ الدَّوالّ الشِّعْرِيَة فِي الكِتَابَةِ، فِي عَلاقَتِها بالصَّفْحَة الواحِدَةِ، أو الصَّفْحَةِ المُزْدَوِجَةِ، أي بالتَّفْضِيَةِ، والتَّوْزِيعاتِ الخَطِّيَةِ، الَّتِي لَم تَكْتَفِ باللُّغَةِ المَكْتوبِةِ، بَلْ أَتاحَتْ للبَيَاضِ والفَراغِ مِساحَةً لِبِناء الشَّكْل، ولِبِناء شِعْرِيَة النَّصّ، بِتَوْسِعِ دَوالِّها، الَّتِي هِيَ، بالضَّرُورَة، الطَّرِيق نَحْوَ المَعْنَى. فالمَعْنَى، فِي حَدَاثَةِ الكِتابَةِ، لَمْ يَعُد مَطْرُوحًا في الطَّرِيقِ، بتعْبِير البَيَانِيِّين العَرب، المَعْنَى يَتأسَّس، ويُبْنَى، بِما فِي النَّصّ مِن دَوَال، لا مِن خِلال دَال واحِد، كَما تَوَهَّمِتِ الشِّعْرِية المُعاصِرَة، عِند مِيشُونِيك نفسه، أو مَن تَبِعُوه في هذا الطَّرِيق.

اكْتَفَيْتُ بالكَشْفِ عن الوَعْيِ الكِتابِيّ، في هذه التَّجْرِبَة، لأُثِيرَ الانتِباه إلى ما سَمَّيْتُه بـالكُلّ الشِّعْرِي، فلا يُمْكِنُ لِعُنصْرٍ أَن يَنُوب عَن آخَر، في بِناء الشِّعْرِيَةِ، ولا فِي بِناء العَمَل الشِّعْرِي؛ لأنَّ العَمَل الشِّعْرِي هُوَ كِتابٌ، ولَيْسَ نُصُوصًا مُتَفَرِّقَة يَجْمَعُها كِتاب. النَّفَسُ الشِّعْرِي في الكِتاب هُوَ نَفَسٌ مُتواصِل، وفِي دَاخِل هذا المُتَواصِل، يُمْكِن، أن تَحْدُثَ تَقَطُّعات وشُقُوقٌ وتَصَدّعاتٌ، هِيَ فِي جَوْهَرِها، طَرَفٌ فِي البِناء.

حَداثَة الكِتابَة، إذَن، هِي انفِصَالٌ عَنِ السَّائِدِ والعام، وَهِي مُمَارَسَةٌ كِتَابِيَةٌ، تَقْطَعُ مَعَ مَفاهِيم «القَصِيدَة»، ومَعَ الوَعْيِ الشَّفَاهِي المُسْتَحْكِم فِيها، لِتَجْعَل مِن كُل الحَوَاسّ تَتَصَادَى، وتتَوالَج فِي قِراءَة العَمَل الشِّعْرِي، لا حَاسَّةَ تَعْلُو على الأُخْرَى، أو تَهُيْمِنُ عَلَى بَاقِي الحَواسّ. كمَا أنَّ العَيْنَ واليَدَ، مَعًا، في حداثَة الكِتابَة، يَكْتُبَانِ، ويَخُوضان، في علاقَةٍ بارْتِعاشاتِ الجِسْم كاملًا، مُغَامَرَةَ البِناء، خارِجَ المِعْيَار والقَانُون، وخَارِجَ ما هُو سَابِقٌ عَلَى وُجود النَّص.

اللُّغَةُ، بِدَوْرِها، عَادَتْ إِلَى مَجْرَاهَا الطَّبِيعِي، فَلا هِيَ شِعْر، ولا هِيَ نَثْر؛ هِي مَاءٌ واحِدٌ، بِنَفْسِ اللَّوْنِ ونَفْسِ الطَّعْمِ، ونَفْسِ الشَّفَافَةِ والصَّفَاء. هِي مَن تأْخُذُ لَوْنَ الأشْياء، وتُضْفِي عَلَى هَذِهِ الأشْياء اللَّوْنَ والطَّعْم والشَّفَافَةَ والصَّفَاء. لا عِبَارَةَ، ولا لَفْظَةَ فِيها هِي نَثْرٌ أو شِعْر، في ذاتِها؛ النَّثْرِيَة، والشِّعْرِيَةُ، هِيَ تَخَلُّقٌ، فِي سِياقِ العَمَل، ولَيْسَ فِي ما يَسْبِقُه، ويَكُونُ قَبْلَة، مُعْجَمًا وتَرْكِيبًا.

هَذَا ما نَتعلَّمُهُ مِن حَداثَةِ الكِتابَةِ، وَمِنَ الشِّعْر الَّذِي لَمْ يَكُن هِو القَصِيدَة، ولا هُوَ جَمْعُها، فالقَصِيدَةُ هِي إحْدَى تَعْبِيراتِ الشِّعْر، ولَيْسَتْ هِي كُلّ الشِّعْر. الشِّعْرُ، هُو، اليَوْمَ، حَداثَةٌ تَفِيضُ عَنِ الحَداثَةِ، تُضِيفُ إلَى الحَداثَةِ، وَتُوَسِّع أُفُقَها. وهذا هو مَعْنَى الحَدَاثَةِ، فِي سِياقِها الشِّعْرِي الَّذِي هُوَ الكِتَاب، وهُوَ حَداثَة الكتابة.

……………………..

[1] كَانَ دَمُ «جِلْجَامِش» مَزِيجًا من الآلِهَةِ والبَشَر. فبِقَدْرِ مَا فِيهِ من هَشَاشَةِ الإنسانِ وانفِراطِهِ، فِيهِ مِن صَلابَةِ الإلَهِ وخُلُودِهِ. فَهُوَ ابْنُ «نِنسُونَ» البَقَرَةِ الوَحْشِيَةِ المُقَدَّسَةَ، لَكِنَّ هذا لَمْ يَشْفَعْ لَهُ بالأبَدِ الَّذِي سَعَى وراءَهُ، بل إنَّه اكْتَشَفَ أنَّ نِصْفَهُ البَشَرِيَّ، كَان هُو الصَّدْعُ الَّذِي مِنهُ دَخَلَهُ المَوْتُ، أو هُوَ آتٍ، لا مَحَالَةَ.

[2] أُشِيرُ، بِصُورَةٍ خاصَّةٍ إلى «بَيَان الكِتابَة» لأدونيس؛ فهو نظَّر لمَفْهُومِ الكِتَابَةِ، ولَمْ يَخْرُج من الشَّفَاهَةِ والإنشادِ، خُصوصًا في عمله الكَبِير «الكِتَاب ـ أمْس المَكَان ـ الآن». فالصَّفْحَة، بما فيها من تَوْزِيعٍ خَطِّي وتَفْضِيَةٍ، بَقِيَت سَطْحًا، وَلَمْ تَخْرُج إلى ما سَمَّيْتُه في «حداثة الكِتابَة» بـ «الوعي الكِتابِي». وهذا راجِع إلى طَبِيعَة البِنيَة الشَّفاهِيَة، الَّتِي لَمْ يَسْتَطع أدونيس، وَدَرْوِيش، أيضًا، أن يُغادِرَاها.

[3] يمكن العودة إلى الأعمال النظرية لجان ماري شايفر، فيما يتعلَّق بالأجناس الأدبية، خصوصًا عمله بالفرنسيةQu’est ce que un genre littéraire? Ed Seuil. Paris 1989.

[4] حِينَ أرْبِطُ الخِطَابَ بـ «القصِيدَةِ»، فأنَا أسْعَى إلَى تَخْصِيصِ الكِتَابَة بـ«النَّصّ». مفْهُومان لا يُمْكِنُ إطْلاقُهُما على القَصِيدَة وعلى الكِتابَةِ، بل لا بُدَّ مِن مُراقَبَةِ هذه المفَاهِيمِ، واسْتِعْمالِها في ما تَصْلُحُ لَهُ مِن أرْضٍ. الخِطاب، حتَّى في التعْبِير الفَرَنسِيّ «Discours» هو تَلَفُّظٌ، وكَلامٌ يُلْقَى فِي مُواجَهَةِ المُخاطَب، لِذَلِكَ، فهُوَ يَرْتَبِطُ باللِّسانِ وبالشَّفَاهَةِ، أمَّا النَّصّ، فَهُو الظُّهُورُ والبُرُوز، كَما تَذْهَبُ إلى ذَلِكَ المَعاجِم العَرَبِيَة، وهُوَ، في التَّعْبِير اللاتِينِي «Texte» مُتَحَدِّرٌ مِنَ النَّسْجِ والعَمَل اليَدَوِيّ، ووَهُوَ تَعْبِيرٌ عَن مادِّيَةِ الإنجاز، بِعَكْسِ الصَّوْتِ.

[5] أصَرَّ الشَّاعِرِيُونَ العَرب، عَلَى فَصْل «لُغَةِ الشِّعْرِ» عَن «لُغَةِ النَّثْر»، ولا مَجالَ لِلِقَاءِ لُغَةٍ بالأُخْرَى، أو وُجُود النَّثْرِيّ في سِياقِ الشِّعْرِيّ، بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ. ما جَعَل المَسَافَة بَيْن الاثْنَيْن تَبْقَى قَائِمَةً إلى اليَوْم، دُون وَعْيِ اللُّغَةِ باعْتِبارِها، لا هِيَ شِعْر ولا هِيَ نَثْر، في ذَاتِها، فَهَذِهِ كُلُّها تَصْنِيفَاتٌ لاَحِقَةٌ، والشَّاعِر، هُوَ مَن يَسْتَطِيعُ تَحْوِيل اللُّغَةِ، ووَضْعِها في السِّياق الجَمالِي الذِي يُرِيدُهُ. فالقُرآن، مثلًا، صَعُبَ وَضْعُهُ في النَّثْر، كما صَعُبَ وَضْعُه في الشِّعْر، وَبَقِيَ خِطابًا لا يَتَسَمَّى بِجِنسٍ أو بِنَوْع. ولَعَلَّ التَّوْحِيدِيّ، فِي كِتابِهِ «المُقَابَسَات»، هُوَ مَن ذَوَّبَ فَرْقَ الهَوادِ بَيْن لُغَةِ الشِّعْر، ولُغَةِ النَّثْر، وجَعَل كُلًّا مِنهُما فِي الآخَر، كُلُّ واحِد مِنهُما لِبَاسٌ للآخَر.

[6] يُمْكن العَوْدَة إلَى كِتابِ «المُقَدِّمَة»، فِي ما خَصَّصَهُ ابْنُ خَلْدُون للشِّعْر، وهُوَ فِيهِ يُعِيدُ، بِتَرْكِيز، وَضْعَ حُدُودٍ لِتَعْرِيفِ القَصِيدَةِ، فِي مَا يَنسبُ التَّعْرِيفَ إِلَى الشِّعْر كَامِلًا، وهَذَا خَللُ القُدَمَاء، والحَدِيثُون سَارُوا فِي طَرِيقِهِم، دُونَ تَذْكِيرِ النِّسْيَانِ، بتَعْبِير فُوكُو.

[7] انظُر كِتَاب «جمْهَرَة أشْعَار العَرَب في الجاهِلِيَة والإسْلام»، لأبي زَيْدٍ محمَّد بن أبي الخَطَّاب القُرَشِي، تحقِيق وضبط، محمد علي البجاوي، فِيما يَتعَلَّقُ بِمُجَمْهَرَة عَبِيد بن الأبْرَص، الَّتِي كَانتْ خُروجًا عَن مأْلُوفِ الشِّعر، والقَصِيدَة في نِظامِها وقانُونِها.

[8] كَانَ «الكِتَابُ»، بِهَذَا المَعْنَى حُلُمًا لشُعَرَاء ورِوائِيِّين، فَغُوتَه رَغِبَ فِي كِتَابَةِ «رِوَايَة عَنِ الكَوْن»، وَنُوفَالِيسْ وَضَعَ لِنَفْسِهِ مَهَمَّةَ كِتَابَةِ «الكِتَاب النِّهَائِي». أمَّا مَالارْمِيه، فَكَانتْ رَغْبَتُهُ أَن يَكْتُبَ ما سَمَّاهُ بِـ «الكِتَاب المُطْلَق». فلوبِيرْ قالَ، فِي هَذَا السِّيَاقِ: «مَا أَرْغَبُ فِي كِتَابَتِهِ هُوَ كِتَابُ العَدَمِ». أمَّا رَامْبُو فَكَان الكِتَابُ الَّذِي رَغِبَ فِي كِتَابَتِه، هُوَ «كِتَابُ الزِّنجِي». وهذا يَكْشِفُ عَن الرَّغْبَة الَّتِي تَسْتَبِدُّ بِالكَاتِبِ فِي الخُرُوجِ مِنَ المَعايير والقَوانِين، والهُويَاتِ الأجْنَاسِيَة المُغْلَقَة، إلَى ما هُوَ أَوْسَع وأرْحَبْ في قَوْلِ الوُجُودِ، وَقَوْلِ اللانِهائِيّ، وحَتَّى قَوْلِ العَدَم.

[9] عن جَرِيدَة «الصباح» المغربية، السنة الأولى، العدد 68 سنة 2000

[10] انظُر، Jaspers. K. Neitsche. coll Gallimard. Paris. 1979. pp 95. 96

[11] انظُر كِتابَهُ، تَشْرِيح النَّقْد، مُحاوَلات أرْبَع، ت، د. محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية، عمان. الأردن، 1991.

[12] يمْكن العَوْدَة إلى، H. Meschonnic. Pour la poétique;Tome II; collection le chemin; NRF; Ed Gallimard 1973

وCritique du rythme; anthropologie historique du language; de Verdier1982؛ وأطروحة محمد بنيس، الشِّعر العربي الحديث، إبدالاته وبنياتها، في أجزائه الأربعة، فهو يَسِير في نفس اتِّجاه ميشونيك، دون إعادة مراجعة المفاهيم، ولا النَّظَر في مفهوم القصيدة ذاته، ناهِيكَ، عن تَبَنِّيهِ للإيقَاع، كَدَالٍّ أكْبَر في الشِّعْر العَرَبِي المُعاصِر. وقَدْ انتَقَدْنا هَذِه الأطْرُوحَة، في كِتابِنا:

صلاح بوسريف، حداثة الكتابة في الشِّعْرِ العربيالمُعاصِر، الصَّادِر عن دار إفريقيا الشَّرق، في طبعته الأولَى، سنة2012وصدرتْ طبعته الثانية، عن دار فضاءات بالأردن، 2018.

[13]O. Ducrot. T. Todorov; Dictionnaire encyclopédique des sciences du language; de; de seuil; 1972; P 242

[14] صَدَرَتْ هَذِه الأعْمَال عَنِ الهَيْئَة المِصْرِيَة العَامَّة للكِتَاب، ضمن سِلْسِلَة دِيوَان الشِّعْر العَرَبِي، صدر الجزء الأول، سنة 2013 والجزء الثَّانِي، صَدَر سَنَة 2014.

[15] انظر، H. Meschonnic. Politique du rythme. Politique du sujet. Ed. Verdier.  Lagrasse.  1995.  Pفي الفَرْقِ بَينَ «الشَّخْص» و «الذَّات» الَّتِي هِي ذَاتُ النَّصّ الشِّعْرِي، أو الذَّات الشَّاعِرَة [ص 52 و 123].

[16] انظر، حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر، في طَبْعَتَيْه، [2012 ـ 2018]،  م. س. فَـ«حَدَاثَة القَصِيدَة»، هِي التَّسْمِيَة الَّتِي ارْتَأَيْتُها لِشُعَراء ما سُمِّيَ بِـ «الشُّعْر الحُرّ»، هؤلاء الَّذِين انتَمَوا، بالضَّرُورَة إلى الحَدَاثَة، لَكِنَّها حداثَةُ انتِهاكاتٍ اكْتَفَتْ بِمُساوَمَةِ القَصِيدَة، أي بالحِفَاظِ عَلَى أَهَمّ خَواصِّها، مِثْل الوزن والقَافِيَة، ولَمْ يَخْرُجُوا من الشَّفَاهَةِ، التي بَقِيَتْ غالِبَة عَلَي شِعْر هذه المَرْحَلَة، وَما سَيَلِيها، إلَى اليَوْم. لَمْ يَكُن الوَعْي الكِتَابِيّ حاضِرًا، كَما نَجِدُه، اليَوْم، عِند بَعْض الشُّعراء المُعاصِرِين، مثل رفعت سلام.

[17]Politique du rythme. op. cit. p 65

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم