أن تصدمك نكتة قديمة

نوال السعداوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

أظهر العديد من الكتّاب و”المثقفون” صدمتهم تجاه ردود أفعال أعضاء جروبات القراءة على فيسبوك بعد موت نوال السعداوي.. هي صدمة مضحكة بالفعل لأن جروبات القراءة لم تكن في يوم ما “معسكرات تنوير” وإنما ساحات مراقبة وعقاب تقليدية، ولم يكن أعضاؤها “خلايا نائمة” وإنما كانوا دائمًا حشودًا نشطة، كما لم يكن هؤلاء القراء مخفيين أبدًا بل على العكس كانوا في غاية الوضوح ويعلنون عن أنفسهم طوال الوقت.. كانت معسكرات تنوير، وخلايا نائمة وفي حالة خفاء فقط بالنسبة لهؤلاء الكتّاب و”المثقفين” الذين شعروا بالصدمة.

كل ما في الأمر أن هؤلاء القطعان من القراء قد أثبتوا مجددًا وبصورة ناصعة كل ما سبق أن كتبته عن طبيعة وجودهم في كتابي “نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل” 2019:

نحن أمام قراء يتحدثون ـ صدقًا ـ باسم جماعات ترتقي لأن تكون شعوبًا مهيمنة، وتتشارك بصيّغ عديدة في أنماط وجماليات لها من التطابق والتقارب ما يُغري بالنظر إليها كتيارات وظواهر قرائية تمتلك انسجامها وخضوعها الخاص لذاكرة أو بالأحرى لجذور تكاد أن تكوّن فيما بينها ملامحًا أزلية لكاتب أصلي يواصل إنتاج نسخ لا حصر لها من ذاته.. هؤلاء القراء يتحدثون باسم جماعات اندماجية تم تكوين الأطر الفكرية لها (تاريخ القراءة كأحد أنماط الوعي) من خلال إخضاع معطيات المعرفة (الكتابة كأثر يسهل رصد درجة انسجامه أو عدائيته للواقع الفردي بوصفه ابنًا للمقدس) لما يمكن تسميته بـ (غريزة التحريم) بمستوياتها وأشكالها المتعددة.. هذا يعني ضرورة المقاومة الأخلاقية ـ كاحتياج يجب إشباعه، وكما تحددها الطبيعة المراوغة للتآلف والجدل والرفض بين الذات ولحظة الحقيقة التي صارت إليها المراكمة الثقافية ـ لتحويل تجربة الحاضر (قراءة عمل أدبي مضاد للانحيازات القيمية والجمالية) إلى مبرر لتغيير خبرة الماضي (محاكمة القيم والجماليات).. تقف هذه الجماعات ـ بما تواصل الاحتماء به واستهلاكه بلذة روتينية من التكدس المتواصل للقوانين (حيث تحضرالمؤسساتية بكامل هيمنتها عبر شبكات الأنساق والأدوار التفاعلية للقراء) التي تتخذ صيغًا متنوعة قابلة للتبدل ـ ضد انتهاك العلاقة بين الفضاء التمثيلي (اللغة)، واليقين الذي يجسّده (التأويل المحكوم بما يُعتبر المبادئ الكلية للثقافة كما أقرتها عمليات الترويض).. بين العالم كما يبدو من خلال الكلمات (البراهين والحجج)، والقرار المتخذ سلفًا بشأن ماهيته (الإخصاء الاستباقي للفكر).. بين الواقع (حيث لا يوجد ما يمنع من حدوث أي شيء)، والعقل (حيث لا يجب الشك في المقدس مهما حدث أي شيء)”.

وكذلك ما تناولته عن الأصول التاريخية التي تقود ممارساتهم في نوفيلا “مقتل نجمك المفضل”:

ارتباك الجالسين في حضرة الدكتور الموبّخ.. الإله الذي يؤدب الأنبياء وهم في طريقهم للألوهة.. (ما أعنيه بالتشوهات والانحرافات هنا هو الوصف التفصيلي المقزز لممارسات مريضة وشاذة).. الرمز، صاحب السلطة التطهيرية للمثقف المقاوِم لما سيطلق عليه بمجانية مرتعدة “ركاكة ـ ابتذال ـ انحطاط ـ سطحية ـ سوقية ـ شذوذ ـ باطل” في مقابل مقاييس فرض الوصايا والرقابة البلاغية على الكتابة ومحاكمتها “القواعد ـ المفاهيم ـ التقاليد ـ الأعراف ـ الشرعية ـ التنوير ـ الحقيقي”.. (واستخدام المصطلحات العامية شديدة الفجاجة و البذاءة).. من أجل تبرير إقصاء الكاتب وتهميشه وتحجيم دوره في انتهاك القيم والمحرمات.. في تحدي المكرّس والمتأصل والهش في الوقت نفسه.. (والتشويه البشع لصورة الأب و الأم).. تماسك المرويات الرسمية وآلهتها الذين يلقب كل منهم بـ “الظاهرة”، في حين أن من يلقبون هؤلاء الكتّاب، أو يعتبرونهم كذلك فائضون بالفراغ والتزمت والعجز، الذين لا يدركون أن ما يصنع “الظاهرة” تاريخ من العوامل السلطوية الثقافية والاجتماعية “ليست السياسية المباشرة فقط كما يتصوّر السذج” التي تفاضل وتصنّف وتفرز، لا الكتابة نفسها.. (مع هوس مفرط بالجنس يصل لدرجة الاستشهاد بنجمات البورن مع ذكر أهم مواقعهن وأفلامهن و مشاهدهن!).. الالتزام.. إهمال وتجاهل من هم خارج المجمّع المقدس.. (يمكنني التدليل على ما أقصد بذكر أي اقتباس مما يذخر به هذا الجزء من الرواية، لكنني بدلًا من ذلك – ولعدم رغبتي في الإسهام في نشر هذا الفحش وتلك البذاءة – سألجأ للاقتباس مما ذكره الكاتب على لسان الشخصية التي تمثله في الرواية – وهو ما لن يخلو من بعض الألفاظ الخارجة التي لن يمكن اقتطاعها من السياق للأسف).. الأصالة.. (يبقى تعليق أخير لي عما أراه إيجابيًا بشأن هذه الرواية، وهو أنه لم يقرأها أحد… تقريبًا!).. الأدباء والنقاد والمفكرون والمثقفون والقرّاء كتائب أمنية ودينية لفرض الامتثال القانوني والأخلاقي للكتابة.. لهذا ينعم الكتّاب اللاعبون في المضمون، والذين لا يتحدون السائد، ولا يجابهون أي سلطة بمزايا المهادنة الجماعية.. (فالرواية الصادرة من شهر إبريل الماضي ليس لها إلا تقييم واحد بخلافي على موقع الجودريدز وهو ما أراه مؤشرًا مطمئنًا إلى حد ما).. محاكمة الدكتور التي برأته كانت سببًا في محاكمة وعقاب لاحقين له، ذلك لأن الدكتور نفسه لم يحاول قتل فكرة الرقابة من الأساس ـ التي يستمتع بممارستها شخصيًا ـ والجزاءات الناجمة عنها ومن ضمنها المحاكمات القضائية.. (فكما انتقدت من قبل أذواق القراء الذين يرفعون من أسهم روايات أراها لا تستحق إلى عنان السماء).. “عميد الأدب العربي” الذي يحدد ويفصل ما هو الأدب وما هي اللغة الأدبية، من هو الكاتب ومن ليس كاتبًا، وبالتالي ما يجب أن يكون موضع الاهتمام القرائي والاحتفاء النقدي ومن يجب أن يُنبذ ويُعاقب.. كان الدكتور نفسه جزءً من الادعاء بما قام به بعد المحاكمة وما لم يقم به.. استغل عدم تجريمه في ممارسه دوره القضائي على الكتابة والفكر الذي يدعم السلطة الرقابية بمعناها الواسع، ويتضمن كل سبل الردع والعقاب الثقافي.. (أرى واجبًا الإشادة بإعراضهم عن مثل هذا الغثاء الذي قرأته بدافع الفضول البحت!).. العنجهية الجوفاء المريضة التي ترشد وتطوّع وتكافئ وتعاقب”.

كل ما في الأمر أن هؤلاء الكتّاب و”المثقفين” المصدومين كانوا ـ ومازالوا ـ يستمتعون بخمولهم الغافل أمام الريفيوهات التي يكتبها هؤلاء القرّاء، والتي تبدو أليفة بالنسبة لهم في حين أنها فاضحة لما يُكوّنهم وما يمثلونه، ولما هم على استعداد للوصول إليه في تلك التدوينات.. لم يكن لدى هؤلاء الكتّاب و”المثقفون” حاجة للتوقف أمام تلك المراجعات وتحليلها وتقويض ما تستند إليه طالما أنهم يستفيدون من إشاداتها أحيانًا بأعمالهم، وبل وتمجيدها لهم لأسباب لا ترجع كلها إلى كتبهم نفسها.. هذه سطور أخرى من “نقد استجابة القارئ العربي”:

لا تتعلق هذه الخلاصات بكتابة معينة، بل تبدو عند تتبعها كأنها أصل غريزي، تطغى هيمنته بأشكال متعددة على المراجعات العربية؛ فمن السائد على سبيل المثال احتفاء القرّاء ـ حتى داخل الأعمال التي تبدو معقدة ـ بالجوانب التي تعطي انطباعًا ـ مهما كان خادعًا ـ بالبساطة، أو سهولة الفهم، أي التي لا تستلزم بذل جهد في استيعابها. كأن النص يقوم بمهمة التلقين مثلما يجب على أي مصدر معرفة أن يفعل امتثالًا لما يفرضه المصدر الكلي الأكبر للمعرفة، وهو المقدس.

ليس هذا فحسب، بل تحاول هذه التدوينات أيضًا إخضاع ما ليس مفهومًا إلى الشروط العفوية للإدراك المباشر، أو النطاقات غير المجهِدة، التي لا تستفز أو تجادل الثوابت المضمونة. كأنها تسحب هذه المتون “العسيرة” بعيدًا عن إبهامها الشائك، الذي ربما يناوش محظورًا ما، أو يقترح تساؤلات لا يجدر طرحها إلى حالة من التجريد القسري الذي ينقّيها من الخصائص “الصعبة”، ويمنحها الطبيعة المسالمة، أي البسيطة والمفهومة الأقرب إلى درس أو عظة أو رسالة قيمية ينبغي الاستفادة منها”.

كأن هؤلاء الكتًاب و”المثقفين” كانوا ينتظرون ردود أفعال هؤلا القراء بعد موت نوال السعداوي حتي يعرفوا “حقيقتهم غير البريئة”.. ليس هذا فحسب بل كأنهم كانوا ينتظرون ردود أفعال هؤلاء القراء بعد موت نوال السعداوي حتى يكتشفوا الكتّاب و”المثقفين” الآخرين الذين يدعمون الرؤى (الظلامية) والأفكار (الداعشية) التي يعتنقها هؤلاء القراء.. أعود ثانية إلى “نقد استجابة القارئ العربي”:

“هذه السطور لم يكتبها أحد القراء في مراجعة له على موقع جودريدز، وإنما كتبها (الناقد الكبير الدكتور) صلاح فضل في مقاله عن رواية (الحريم) لحمدي الجزار في جريدة (المصري اليوم)، وتحديدًا في 18 أغسطس 2014. لكنها بالفعل تبدو سطورًا يمكن أن يكتبها أي قارئ. أي قارئ (أبوي) لا ينظر إلى الجنس سوى بعين الاختزال التقليدي، وبصرف النظر عن أن هذا الاختزال في حد ذاته لا ينبغي تحريمه أو تجريمه فإن علينا الانتباه إلى هذا الوعي العام بجذوره الثقافية الصلبة، والذي لا يُفرّق بين الشخص الذي يتم اعتباره ـ بحسب التصنيف السائد ـ قارئًا عاديًا، وبين الناقد الأكاديمي القدير، أو عالِم اللغة المخضرم.

(هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين “الناقد”، ومن يسمى بـ “القارئ العادي”.. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق “السيد أبو العلا البشري”، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه “قارئًا عاديًا”، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على “جودريدز” أو “أبجد” أن يسمي نفسه “ناقدًا”، رغم أنه يبحث أيضًا في كل رواية عن “الحكاية”، وعن “المغزى النبيل”، ويرفض “البذاءة”)”.

لكن يبقى الأمر مرتبطًا ـ مثلما كتبت من قبل ـ لا بما يكتبه هؤلاء القرّاء وإنما بما يتكفّل دائمًا بتحويل ما يكتبونه إلى سلطة.. بالآليات الانتهازية التي تدفع كل قارئ لتجاوز فرديته نحو المشاركة في الامتلاك الأبوي لحقيقة مطلقة أو يقين الحياة والموت، الخير والشر، الجنة والنار.. وبالطبع لا يمكن التحدث عن هذه الآليات دون استدعاء قوّاد الكتب الأشهر “جودريدز”.. هذا تذكير متجدد من “نقد استجابة القارئ العربي”:

“إن (البلاهة) التي وصف بها (إيكو) مستخدمي الإنترنت لا تتعلق بالبشر أنفسهم، وإنما تكمن أولا وأخيرًا في السياقات المتعسفة التي يُدفعون إليها.. الآليات الناجمة عن الانتهاز الرأسمالي حيث (القارئ الذي يطالع كتابًا) هو (بضاعة تستخدم بضاعة)، وينبغي تسيير هذه العلاقة في خط انتاجها المادي الحديث أي آلة الاستهلاك التي تعطي النتيجة بالنجوم تحت إغراء أن يكون القارئ وصيًا على السلعة / الرواية، مشاركًا في قدرها، وهذا على حساب (صيرورة) الرواية أي حركتها المستمرة، وبالتالي على حساب تحولات هذا القارئ الشخصية داخل هذه الصيرورة.. إن القارئ في وضعيته الأبوية يتحوّل من شخص يمكنه الاستجابة في لحظة غير متوقعة للجدل مع منظور خاص، ولإمكانية التغيير الفردي، ولإعادة ترتيب عالمه بتهديد أقل إلى ذات عارفة.. ذات محصنة، منفصلة عن ذاكرة سبق حسمها، لا تخطئ، وبالتالي لا مبرر لديها للتراجع، مخدوعة بوهم القوة التي حازت عليها عبر التوحد مع الذوات العارفة للآخرين المقررين لحقيقة كتاب”.

جروبات القراءة وقنواتها، وبكل ما تحمله من أسماء استعلائية سخيفة وبائسة ليست مجرد كيانات تريد لأنفسها تميزًا مجانيًا مسالمًا داخل “عالم القراءة” المفتوح على فرص لانهائية للاستغلال واكتساب القيمة، وإنما هي ممارسات فرض قوة تحمي نفسها استباقيًا بواسطة تلك الأسماء الجوفاء التي توهم بالتفوق أو “بعدم العادية” سواء كان القارئ الذي ينتسب إليها “محترفًا” أو “أصليًا”، حتى يكون لنتائج ما تؤديه تأثير يشمل الكتابة ونقدها وتداولها، ليس كرد فعل وحسب، وإنما كرادع قيمي وجمالي يتقدم على حدوثها.. إن القارئ الذي يفوز دائمًا بـ “تحديات القراءة”، ويعيش كآلة كتابة ريفيوهات الصواب والخطأ، ولا يفوته حفل توقيع، ولا يغيب وجهه عن صورة لمناقشة كتاب ما، ويقصده الكتّاب ودور النشر لترويج إصداراتهم كموظف مثالي؛ هذا القارئ ليس مجرد نجم أو تاجر صنعته السوشيال ميديا الثقافية منذ سنوات طويلة، وإنما هو شخص يؤمن ببساطة أنه الأجدر من أي “قارئ” آخر بتحديد مصير نوال السعداوي.

 

مقالات من نفس القسم