رحلة البحث عن الله في “قواعد العشق الأربعون”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم عادل

"إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك" .. ... ..

 

هل نعرف الله حقًا؟! من أي الطرق سلكنا إليه؟! كيف تعرفنا عليه ..منذ البداية؟! كيف أخذونا إليه؟ أعن طريق “الحب” أم “الخوف” و”الرهبة”؟!! إنها أحد الأسئلة العميقة التي لا أعتقد أنها تتكشف للناس إلا بعد فترةٍ من اكتمال وعيهم، أذكر الآن صديقًا لي كان يقول لي: (هل أصلي لله لأني أخاف من عقاب الله، أم أصلي لأني أرجو رحمته؟!) من الذي أخبرهم أن معرفة الله تتم من خلال الأوامر والترهيب بدلاً عن “الترغيب” والعقوبات.

أعرف أطفالاً كثر يحفظون القرآن، لا يتجاوز حناجرهم! وأعرف كثيرين كانوا يساقون إلى “المساجد” فلا ذلك قربهم من “الله” ولا ذلك جعلهم أكثر إيمانًا!! من الذي جعل كل اهتمامنا بالدين ومعرفتنا بالله منصبة على “المظهر” دون سواه، فهذا يطلق لحيته ليقال عنه (شيخ) وتلك تتحجب ليعرف الناس مقدار “التزامها”؟! من الذي قال لهم أن “الدعوة إلى الله” أو ترغيب الناس في شرعه تكون بالخطب الزاعقة التي تنفِّر الناس لمجرد “طريقة كلامهم” بغض النظر عمَّا يحمله مضمونها من سخف وغباء وقسوة! ألم يقرؤوا قول الله لنبيه الكريم (ولو كنت فظًا غليظ القول لانفضوا من حولك) ؟!! من هؤلاء الذين تسلطوا علينا باسم الدين، فكرهوا الناس في الدين وفي حياتهم كلها!! لا أعتقد قطعًا أنه يجب أن نكون جميعًا “متصوفين”، وليس بإمكاننا أن نكون كذلك، حتى نمتلك تلك الخصوصية في العلاقة بالله، ولكني أعتقد أنه يكفينا جدًا أن نكف عن كوننا أوصياء على الآخرين فيما يفعلونه، لاسيما في علاقتهم بالله! لقد حدد الله علاقتنا به وأكَّد أن (لا إكراه في الدين) وقال لنبيه (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين؟!) .. واهتم “الإسلام” دومًا بتربية علاقات الناس بعضهم ببعض، فقال الرسول أن (الدين المعاملة)، وذكر في الحديث الشريف (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة .. وكان كل ما ميزه عن صحابة الرسول أنه (لا يحمل غلاً لأحد..(

ربما أكثر ما يميز هذه الرواية (بعد القواعد الأربعين) هو “وضوح الرؤية” لدى الكاتبة تمامًا، فهي لا تدع شيئًا للتأويل أو اختلاف وجهات النظر، فمثلاً عندما تعرض لسيرة “البغي” و”السكران” و”الشحاذ” لا تتوقف عند لقاءهم ب”شمس” وتدع الأمر بعد ذلك للقارئ، بل تضع فصلاً خاصًا على لسان “شمس” يوضح فيه رؤيته لهذه النماذج وكيف يراهم أشخاصًا قد لا يلاحظهم العامة ولا يلفتون انتباه الناس ولكن على “الصوفي” أن يراقبهم ويهتم لأمرهم، بل ويكون دليلهم في الطريق إلى الله، وبالمثل عندما تتناول (ومنذ بداية الرواية( تلك العلاقة الخاصة التي ستربط بين “الرومي” و”شمس” تجعل ابن الرومي “سلطان ولد” يحلل تلك العلاقة فيشير إلى ما كان في التراث الإسلامي من علاقة بين نبي الله “موسى” و”الخضر”، حتى إذا انتقلنا إلى المقابلة التي ربما تدور في ذهن القارئ بين قصة “إيلا” و”عزيز” والعلاقة العاطفية التي تنشأ بينهما وبين “شمس” و”الرومي”، لتأتي الكاتبة في الفصول الأخيرة موضحة على لسان “عزيز” الذي يطلب من “إيلا” أن تكون له كمان كان “شمس” “للرومي”، وعلى هذا ـ والأمثلة كثيرة ـ فإن الرواية تؤسس مفاهيمها بشكل واضح، وتشعر القارئ بأنها في الوقت الذي تبثه النصائح أو التوجيهات إلا أنها تناجيه وتكمل ما يفكر فيه . من جهة أخرى جاء البناء المحكم ورسم الشخصيات بدقة عامل هام وأساسي من عوامل جاذبية الرواية، فلم تغفل الكاتبة أي شخصية أوردتها في الرواية، وبالرغم من كثرتهم فإن “البناء المحكم” والإلمام بالتفاصيل يجعل تلك الشخصيات أمام القارئ كأنها من “لحم” و”دم” مهما بدت شخصيات ثانوية .. قد لا تزعم الكاتبة ـ قطعًا ـ أنها تقدِّم لنا حلولاً سهلة أو رؤية جاهزة للتعامل في الحياة المعقدة، وإن كان ذلك يتسرَّب من بين يديها بشكل واضح، بل بطريقة تنحو بالرواية إلى كتب (التنمية البشرية) ـ كما علَّق أحد الأصدقاء ـ ولكن ذلك لا ينفي كونها “رواية أدبية” تقدم شخوصها باقتدار بالغ، وتلعب بين التاريخ والسير الذاتية لأصحابها ببراعة! ترتبط حياة “المتصوفة” عادة وسيرهم بالطبقات الدنيا من المجتمع، وهو ما يصرِّح به “التبريزي” قبيل لقائه بـ”الرومي” في الرواية، ويعتقد أن علاقة “الرومي” بهؤلاء يتكون معيار الصدق بالنسبة له في شخصية من سيلقاه (أود أن أشير إلى أن التبريزي في أول الرواية يبدو متصوفًا عاديًا وتلميذَا يأتمر بأمر سيد “بابا زمان” وينتظر عامًا كاملاً قبل أن يأذن له بالسفر، إلا أنه وبمجرد انطلاقه في “الرحلة” يبدو وقد تقمص شخصية “الأستاذ” أو المتصوف الخبير، وهو ما سيتجلى تمامًا بعد وصوله للشيخ “الرومي” وتأثيره البالغ فيه.. ).

يقول شمس الدين (تذكرت الأشخاص الذين التقيت بهم: الشحاذ والمومس والسكران. أناسٌ عاديون يعانون من مرض مشترك هو الانفصال عن الواحد الأحد، هذا النوع من الناس لا يراهم العلماء، الذين يجلسون في أبراجهم العاجية، وتساءلت هل يختلف “الرومي” عنهم؟ وقلت لنفسي إنه إذا لم يكن مختلفًا فيجب أن أكون الواسطة بينه وبين قاع المجتمع) قابل “شمس” النماذج الثلاثة هذه وتحدث معهم، وعرفنا عنهم أنهم ليسوا تلك النماذج “الضالة” أو “البعيدة” تمامًا عن الله، ولكنهم يبحثون بطريقتهم، وإن رآهم الناس طوال الوقت الأشد بعدًا بل ونفروا منهم كما فعلوا مع الشحاذ (المجذوم) الذي وصفته الكاتبة ببراعة .. إلا أن “شمس” وبطبيعة الصوفي لم يتوقف عند مظاهرهم الخارجية، بل دل كل واحدٍ منهم على طريقة يرى بها داخله، ويواصل سعيه إلى الله .. وهو ما حدث فورًا مع “البغي” حيث ذهبت لحضور درس “الرومي” .. وهذا ما يؤكده في القاعدة الثامنة عشر: “إن كل إنسان عبارة عن كتاب مفتوح, وكل واحد منا قرآن متنقل. إن البحث عن الله متأصل في قلوب الجميع, سواء أكان وليا أم قديساً أم مومساً. فالحب يقبع في داخل كل منا منذ اللحظة التي نولد فيها, وينتظر الفرصة التي يظهر فيها منذ تلك اللحظة

يبقى أن أشير إلى أن هذه مجرد خواطر حول الرواية بعد قراءة ثانية .. قد تختلف وتتضاعف بعد قراءات أخرى، بل ومن خلال قراءات الأصدقاء المتفقين والمختلفين على الدوام، وهذا شأن الأدب الجيد، والكتابة الوافية المخلصة على الدوام.. شكرًا للكاتبة الجميلة إليف شافاق وفي انتظار روايتها القادمة

مقالات من نفس القسم