قراءة في قصيدة «قيس الجديد» لفتحي عبد السميع

قراءة في قصيدة «قيس الجديد» لفتحي عبد السميع
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نجح (فتحي عبد السميع) عبر رؤيته الابداعية، في نحت صورة مغايرة خاصة به؛ فما إن تقرأ أيا من قصائده حتى تستطيع أن تتعرف على أسلوبه الفني، الأسلوب الذي خطه الأساسي الصورة المفرطة جداً في الدهشة، وفي التعبير الدقيق عن قراءة الواقع، تحديداً قراءة الشاعر للواقع، وربما كانت هذه السمة الخاصة هي سبب أساسي في اغفال العديد من النقاد لجوانب أخرى طالتها يد التغيير عند الشاعر، وأهم سمة بجانب صورته الخاصة به - في اعتقادي- هي توجيه وعي القارئ إلى النتيجة التي يريد الشاعر أن يسلم قارئه به، وكأن كل قصيدة هي حالة من حالات المساجلة الرؤيوية حيث يرغب الشاعر في أن يسحب من قارئه الرؤية العادية تلقاء الأمور التي يمر بها، ليضع بدلا منها رؤيته الشعرية، ورغم أن هذا هو الهدف الأساسي من كل الأعمال الأدبية في اعتقادي، إلا أن حرفية التقنية الفنية هي المسار الذي نبحث فيه ونحلله دائما، وفي محاولة قراءتي لقصيدة «ليلى ومحاولات قيس الجديد» من ديوان «خازنة الماء» الصادر عن المجلس الأعلى للثقافية عام 2002م لـ(فتحي عبد السميع)، سأحاول استقراء إلى أي ناحية أثرت الصورة على بناء الوعي، وبناء الادراك لدى القارئ لهذه القصيدة.

تبدأ أولى محاولات الضغط على الوعي الادراكي من العنوان نفسه: «ليلى ومحاولات قيس الجديد»، فالعنونة تضع عدة افتراضات مستعينة بإسقاطات تاريخية تستحضر من الموروث العربي قصة «قيس وليلى» المشهورة، والتي قد تختلف نظرة البعض لها أيضا، فبجانب كونها تعبر عن تأثير الحب على المحبين، إلا أن النتيجة الحتمية التي وصل لها «قيس» هي تعبير دائم عن الاخفاق، أو لا يصبح الحب مسارا للحكي إلا عندما تحدث حالة الاخفاق، فحب قيس وليلى حب نعلم جميعا مقدار صدقه واخلاصه، وفي الوقت نفسه نشهد جميعا على أنه حب أخفق صاحباه في التواصل وفي الاجتماع معا لظروف مجتمعية ولظروف ليس محل ذكرها هنا، لكن عليا التأكيد على التيمة التي ننطلق منها في الولوج للقصيدة.

من ناحية أخرى، تأتي «محاولات قيس جديد» الجملة الباقية من العنوان، ولعلنا نلاحظ أن الشاعر أبدل التواتر في «قيس وليلى»؛ ليبدأ بـ«ليلى»، مرجئا النظرة لقيس على أنه قيس جديد، وهو لا يزال يحاول، وكأن التبديل والتغيير لم يطل «ليلى»، وإنما المحور المهتم به الشاعر هنا هو «قيس» بعكس الصورة التي قد توحي للقارئ أن الشاعر يحاول التخلص من طغيان ذكوري يقدم الذكر على الأنثى، إلا أن الحقيقة أن الشاعر يُبقى الأنثى على صورتها التراثية التقليدية – فكل ما سيتم عرضه عنها هو من تخيلات قيس عنها، ويصب جام تجريبه وجام الاخفاق الممتد منذ اللحظة التاريخية حتى الحاضر على «قيس»، فها هو «قيس» لا يزال يحاول أن يصل لليلى، لكن قيس المهتم به الشاعر هنا هو «قيس» جديد، «قيس» أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات من القرن الماضي وقت كتابة النص، فكيف حال هذا القيس الجديد.

يقول عبد السميع:

… حاولت أن أخطف النخل

من جبة الريح

لكنني ما وجدت يدا.

وحاولت غسل الرمال

ولكنني ما وجدت دما.

وحاولت نصب الخيام

على شاطئ الحلم

كانت

ولكن على حافة المقصلة.

بأي شكل نفهم النقاط الثلاثة التي استهل بها الشاعر نصه، لعلنا لم نصل بعد لمرحلة استقراء كامل للتعبيرات السيميائية للتشكيل الكتابي للنص، لكن الاستعانة بعلامة ترقيم تشير لشيء محذوف أو مضمر سابق عن القصيدة تفتح الباب أم وضع جميع الافتراضات التي يريدنا الشاعر أن ندخل بها لعالم قصيدته، ما بين الاستحضار التاريخي لقصة قيس وليلى، وفي الوقت نفسه الاستحضار لمشكلات الواقع، ولإخفاقات الحب في أرض الواقع المعاصر، كل هذا وارد استحضاره بهذه النقاط الثلاث.

لقد انطلق الشاعر مباشرة إلى صلب ما يحيل إليه العنوان، إلى المحاولات التي يقوم بها قيس الجديد الذي نفترض مسبقاً أنه يعشق «ليلى» معينة، وأولى هذه المحاولات هي «خطف النخل»، ما القيمة الدلالية لخطف النخل؟ لعل من سمات قصيدة النثر بعامة أن الصورة لا يمكن لها أن تكتمل إلا بشكلها الاجمالي، فلن نفهم خطف النخل إلا بما يليها، أنه يريد أن يحمي نخيله من هجوم الريح، هل يخشى الشاعر على النخل ألا يصمد في وجه الريح، وهو الرمز التقليدي للثبات والرسوخ؟ طوال النص نحن أمام محاولة إعادة ازالة المفاهيم التقليدية للتيمات التراثية لغرس أخرى بدلا منها، فالنخل لم يعد تلك القوة التي نخالها في وجه الريح، ويحتاج لتدخل ما حتى لا يحني جبهته، والشاعر في مواجهة ذلك محاولته الوحيدة هي القسر، الاخفاء بالخطف، لا يستطيع أن يقدم للنخل شيئاً سوى محاولة الخطف، وهي محاولة محكوم عليها بالفشل منذ طرحها، هنا يتداخل المنطق مع اللامنطق.

لقد تقاعست الأيدي عن نصرة الشاعر، خطف النخل هو أمر وارد وممكن طبقا لمنطق النص، لكنه يحتاج فقط لأيادي تساعد الشاعر، فيحاول التوجه لأمر أخف حدة، محاولة غسل الرمال، وهو أمر أكثر منطقية من خطف النخل، لكن الشرط الذي يضعه الشاعر لتحقق هذا الغًسل، واحداث حالة التطهر التي يريدها يحتاج لأن تتوافر دماء كافية للغسل، الشيء الوحيد الذي تحقق للشاعر هو قدرته على نصب خيامه، ولكنها خيام تقربه من المقصلة، تقربه من الموت بالإعدام، وكل الاسقاطات السياسية هنا واردة.

لعلنا هنا نلاحظ مفارقة البدء بـ«ليلى» في العنوان، ثم يحدث النقيض في نص القصيدة، ليبدأ بـ«قيس»، لكن سرعان ما تعود «ليلى» للظهور، يقول الشاعر:

ينام الجحيم على حجر ليلى

وليلى

حقول من التين تثمر في شفتيه

ولؤلؤة من دموع يرجرجها الانتظار

كرجرجة النهد عند انفجار القميص

ينام الجحيم على حجر ليلى

ويشبك في قرطها إصبعيه

ويجذبه كزناد المسدس

ينفلت الانفجار

ويفرك في راحتيه النهار.

تتبدى لنا خصوصية فتحي عبد السميع في كيفية رسم الصورة المغايرة بإقدامه نحو مخالفة التوقع دائما، فبينما ننتظر منه وصفا في مفاتن ليلى، وفي حسن ليلى، نجد حالة من حالات خلط ما هو كوني، وما هو رومانسي وما هو مفرط في الدلالة على الاستحالة لحدوث الوصل على «ليلى»، فبينما يحلم دائما أي رجل بالتواصل مع محبوبته من منطقة حجرها، بكل ما تحمله الكلمة من دلالة عاطفية أو جنسية، إذا بنا نفاجئ بأن هناك جحيم نائم في هذا المكان الذي هو مكمن الحلم والرغبة، كيف لا يزال العاشق يحافظ على عشقه لمحبوبته وهو يراها بهذه الصورة المرعبة؟ والأمر المفرط في غرائبية الصورة كيف أنسن الشاعر الجحيم وحوله لكائن يداعب ليلى نفسها، ويضع اصبعه في قرطها، باستثناء بعضا من صورة ليلى التي يحلم الشاعر بتقبيلها لأنها تمثل حقول التين المثمرة على شفتيه، فإن حالة الرعب المتولدة من الخوف من السقوط في الجحيم النائم، والذي يداعب محبوبة لا نعرف عنها إن كانت قاسية، اأو إن كانت قد استحضرت هذا الجحيم عن قصد أم هي مرغمة على تحمل عبثه بها؟ فقط نعرف أنها لديها دموع من اللؤلؤ تنتظر محبوبا عليه أن يهزم هذا الجحيم لكي يصل إليها، وهو يقف متفرجا على محبوبته ونهديها يترجرجان وقميصها على وشك الانفجار، وفي الوقت نفسه يمسخ الجحيم المحبوبة ليلى ليحولها إلى أداة قتل، فقرطها قد تحول لمسدس، بمجرد أن ضغط الجحيم عليه، حدث انفجار ضخم، انفجار جعل النهار ينطوي، وينسحب مفروكا كأي شيء ذابل يتم فركه في راحة اليد.

سنقفز على بعض الأبيات التي تصور حال المحب/الشاعر بعدما حدث هذا الانفجار الميتافيزيقي الخيالي المختلط فيه الجحيم بالبشر بالحياة، لنصل لذاتية من نوع خاص، ذاتية تقدم نفسها في صورة المعذَب، الذي يصبح صاحبها لا هو حي يعيش بين الأحياء، ولا هو ميت مرتاح من ألمه، وإنما المستمر دائما في حالة «الاحتضار»، يقول الشاعر:

أوزع لوني على كل بيت

وأنثر حلمي على كل كرم

وأجلس في ظل نجم من التوق

أحصي سنين احتضاري.

يتماهى الشاعر ويذوب، لكنه حريص في هذا الذوبان أن ينقل معاناته وألمه لكل منزل، وأن يغرس حلمه في كل حقل، ورغم هذا الفعل الذي يدل على النضوب والانتهاء، لا يزال الشاعر يعيش معاناته الأبدية كبرومثيوس المحكوم عليه دائما في الاستمرار في المعاناة يحصي ويعد سنين الاحتضار، تلك السنين التي يبدو أنها ستطول.

تجيء الطيور

التي صغتها في الفؤاد

وسرحتها من جبيني

تنبئني

أن ليلى على حافة الموت عارية

تغزل اسمي خيوطا

وتنسج منها نداء

لعلنا نلاحظ حالة السيمترية بين استحضار «قيس»، ثم الذهاب لـ«ليلى»، ثم الذهاب لـ «قيس»، ثم الذهاب لـ«ليلى» وهكذا، وكأننا في محاولة توازن، رغم أحادية الرؤية التي لا يتم فيها السماح أبدا لـ«ليلى» بالتكلم عن نفسها، فقط «قيس»هو من يروي لنا، حتى ما يرويه عن «ليلى» ينوبه الشك والارتياب كون الطيور التي حملت له الأخبار هي من صنعه، هل هذا ما يتخيله «قيس»عن حال «ليلى» التي يجب أن تتحمل مسئوليتها تجاه عدم القدرة على التواصل وعلى اتمام الحب فتصبح على حافة الموت، وتصبح مترقبة؟ أم هو حقيقة؟ لا شيء يقيني عند (فتحي عبد السميع).

يختتم الشاعر قصيدته على النحو التالي:

يدوي الصدى في دمي

ويبذر في القلب حب التوهج

ألبس جلدي

وأقفز من فوق غصن الثمالة والانطواء

ألملمني من مرايا الجنون

ومن فوق عشب الفصول

وأدخل في البحر

أخطط فوق الهدير اشتهائي

وأرسم خارطة اللقاء.

طوال الوقت نجد محاولات أنسنة الموجودات، وكوننة العناصر الانسانية، فالدم يتحول لكون، له صدى، وهذا الصدى في الدم يسمعه الشاعر، والقلب يصبح أرضا، تنبت توهجا، والجلد يصبح قميصا ورداء، ولعل صورة «ألبس جلدي» هي من الصور التي في اعتقادي لم تضف شيئا للرؤية المقدمة، وربما لو كانت «ألملم جلدي» أو «أبحث عن جلدي» لكانت أفضل، فاللامنطقية التي عودنا الشاعر عليها طوال القصيدة تتنافي مع الصورة المنطقية في ارتداء الجلد الذي هو أمر حتمي.

على أية حال لعل الشاعر تدارك هذا في «ألملمني من مرايا الجنون»، فهذا التشظي والتحول لذات موزعة على عدة مرايا، ثم وصف المرايا بأنها مرايا الجنون، مستحضرا السياق الشعبي الذي يربط جنون المرء بكثرة النظر في المرآة، راسما الشاعر صورة النهاية لقصيدته بذلك الانسان الذي يدخل البحر – هل يدخله للانتحار؟ هل يدخله للاسترخاء؟ أبدا لا اجابة يقينية، فقط الأمل المنتظر هو رسم خريطة للقاء.

إن القراءة التي قدمتها هنا حاولت بقدر الامكان استقراء المضمر في قصيدة «ليلى ومحاولات قيس الجديدة» بشكل يسمح لنا بكشف الدلالات الكامنة، ولعلها تمخضت عن كشف عمق تكوين الصورة، وعمق توظيف هذه الصورة في توجيه وغرس الوعي الراغب الشاعر في تكوينه لدى القارئ، فبينما سنجد التناص التراثي، وتناص الأساطير اليونانية، وكأننا بإزاء رسم صورة تحويل الشخصيات العادية إلى هالة من الاساطير، لنصل لحالة من حالات نصف الآلهة ونصف البشر، لكن هذا الرسم لهذه الصورة ليس لتحقيق الانجازات، وهذه القدرة الممنوحة للبشر باختلاطهم بصفات آلهة الاساطير هي صفات فقط لإعطائهم القدرة على تحمل العذاب وتحمل الحزن الشديد، فـ«ليلى» قد تملكتها القدرة على تحمل الجحيم على حجرها، وتحول قرطها لمسدس، ونهدها لقنبلة قابلة للانفجار، ولديها القدرة على نسج الكلام في خيوط وبناء القباب فوق السحاب، أما قيس الذي بدأ القصيدة به عاجزاً تحول لصانع طيور، وقادر على اعطائها الأوامر لتأتي له بأخبار ليلى، وبينما عجز عن نصب الخيام على شاطئ الحلم، استطاع أن يوزع اللون على كل بيت، وأن ينثر الحلم على كل حقل، منهيا قصيدته بتصوير بصري يستحضر مغامرات سندباد ومغامرات هركليز في اقتحام البحر، لا للموت، ولا للانتحار، وإن كنا نعلم منطقيا أن هذه هي النتيجة الحتمية لهذا الفعل، وإنما بالنسبة له من أجل رسم خارطة اللقاء، الشيء الوحيد الثابت بين «قيس»التراث، و«قيس» (فتحي عبد السميع) هو الرغبة في اللقاء، والاستعداد لصنع المستحيل من أجل حدوث هذا اللقاء، واليقين من عدم تحققه في الوقت نفسه، لكن التفاصيل اختلفت كثيراً، الرؤية المتشظية للذات وللبشرية، ولانهيار الحلم وللحزن الذي يحتاج لبشر بقدرة تحمل متألهة هي سمات العصر الحديث الذي ينطلق (فتحي عبد السميع) من موقعه للتعبير عنه.

 

مقالات من نفس القسم