“الوضوء” اللازم قبل القراءة.. (أوالذهنية العربية وإشكالية الحياد)

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عزيز زرنارة

عندما نباشر قراءة أي نص كان: مقالا أو كتابا، فإننا نادرا ما نقبل عليه بدون خلفية مكتسبة وربما أحكام مسبقة تمليها عدة اعتبارات منها موضوع المقال أو اسم وجنس وجنسية الكاتب. بل حتى من توفر لديه منا مثل هذا النوع من "الحياد الإيجابي" قبل القراءة فإنه سرعان ما يسارع أثناءها إلى تصنيف الكاتب أو المقال ضمن إحدى الخانات الجاهزة لدينا لمختلف الاتجاهات الفكرية أو السياسية أو غيرها. 

هذه الظاهرة رغم شموليتها إلا أنها تعد إحدى السمات الأساسية للذهنية العربية المهووسة بتصنيف كل الأفكار والآراء والأشخاص ضمن الخانات التي ابتدعتها لنفسها. والغريب أن قائمة الخانات تختلف من مجتمع عربي إلى آخر، مما يفسر عدم وجود ما يمكن الاصطلاح على تسميته ب”الرأي العام العربي”. وتتمدد هذه الظاهرة لتغطي إلى جانب القراءة مجالات أخرى من تفاعلنا مع أحداث اجتماعية وسياسية ودينية. لا نستطيع الحياد ونحن نقرأ ولا حين نشاهد شريطا أو نسمع موسيقى، بينما الحياد هو شرط أساسي في المعرفة الحقيقية الصرفة.

كنت دائما عندما أشاهد مباراة لكرة القدم بين فريقين لا أعرفهما أجد نفسي مرغما على البحث عما يجعلني أناصر أحدهما ضد الآخر. أبحث إن كان أحدهما من بلد عربي أو إسلامي أو لدى أحدهما لاعب عربي أو غير ذلك. المهم أن لا أبقى على الحياد.وغالبا ما تكون مبررات التصنيف لا علاقة لها أبدا بالمضمون أي كرة القدم. ونفس الشيء قد ينطبق على أغلب قراءاتنا. إذ يكفي التعرف أحيانا على أسم الكاتب أو جنسيته لننطلق في القراءة بأفكار مسبقة قد تعيق متعة القراءة المجردة كما تقتضي ذلك ماهيتها.

هل يجب أن “نتوضأ” قبل كل قراءة؟

الوضوء هنا ليس بمعنى غسل الأطراف الذي نقوم به قبل كل صلاة. بل هو “وضوء” من نوع آخر اكتشفه الامام أبو الحسن الشاذلي أثناء رحلته الطويلة للبحث عن “شيخه”قبل إطلاق طريقته التي عرفت باسمه. ولهذا “الوضوء” قصة من المفيد التعرف عليها:

الإمام أبو الحسن الذي لم يكن يعرف بالشاذلي من قبل، ولد ونشأ بمنطقة “اغمارة” بشمال المغرب وكان اسمه آنذاك علي بن عبدالله بن عبد الجبار بن يوسف، ظهرت ميوله الصوفية خلال تلقيه مبادئ العلوم الدينية، فقرر السفر إلى المشرق للبحث عن “شيخه” أو “قطبه” كما هي حالة كل “المريدين” الذين يلجون عالم التصوف. ويحكي أبو الحسن بنفسه عن هذه الفترة فيقول: “لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبي الفتح الواسطي فما رأيت بالعراق مثله، وكنت أطلب القطب، فقال لي: “أتطلب القطب بالعراق وهو في بلادك. ارجع إلى بلادك تجده”. ورجعت إلى المغرب إلى أن اجتمعت بأستاذي الولي العارف أبي محمد عبدالسلام بن مشيش. ومع هذا اللقاء حدثت قصة “الوضوء” الذي ذكرت سابقا. فعندما وصل أبو الحسن إلى خلوة الشيخ عبدالسلام بن مشيش على قمة جبل يعرف ب”جبل العلم” قرب مدينة الشاون وتعرف أيضا بشفشاون، عرفه الشيخ وناداه باسمه كما يحكي أبو الحسن، وطلب منه أن ينزل إلى سفح الجبل لكي يغتسل ويتوضأ. ولما صعد أبو الحسن إلى خلوة الشيخ بعد وضوءه، قال له الشيخ: “انزل وتوضأ”. فنزل أبو الحسن مرة أخرى وأعاد الوضوء ثم صعد إلى الخلوة، فكرر الشيخ له الطلب بأن ينزل ويتوضأ. تكرر الأمر ثلاثة مرات مما دفع أبو الحسن إلى استفسار بعض مريدي الشيخ عما يرمي إليه، فشرحوا له بأن “الوضوء” الذي يعني الشيخ ليس هو فقط غسل الأطراف مما يكون قد علق بها من أوساخ، بل عليه أن يقبل على الشيخ بذهن خالية من أي إحساس بالمعرفة والعلم، وبأن يغسل باله من أي أفكار مسبقة لكي لا تؤثر فيما سيتلقاه من الشيخ. ولما دخل أبوالحسن على الشيخ بذهن صافية كورقة بيضاء تحتمل التلقي والتعلم، أدرك مولاي عبدالسلام بن مشيش أن تلميذه مستعد لتلقي المعرفة. ولبث عنده مدة كافية لتلقي العلوم الربانية.

وقد أخبره الشيخ بعد ذلك بضرورة أن يسافر إلى افريقية (تونس) ثم المشرق (مصر) حيث سيكون مثواه. وفعلا حل أبو الحسن ب”شاذلة” بتونس ومنها أخذ لقبه “الشاذلي” وبعدها انطلق إلى مصر حيث نشر طريقته الصوفية المعروفة ب”الشاذلية”.

هذا “الوضوء” الذهني هو الذي يلزم الكثير منا قبل مباشرة أية قراءة لكي يستطيع سبر أغوارها دون قنوات تأويلية تحدد مسار أفكاره حسب أهواء سابقة ومعروفة. أن نقرأ بحياد إيجابي يعني أننا لن نظلم أبدا من لا يشاطرنا نفس المواقف والأفكار، بل تزيد معرفتنا بنفسنا التي هي أساس أية معرفة بالآخر.

………….

عجمان في 20 ديسمبر 2016

 

 

مقالات من نفس القسم