توظيف التراث في إنتاج الدلالة.. قراءة في قصيدة (سفر أيوب) للشاعر بدر شاكر السياب

في خلود السياب وأنشودة المطر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. جمال فودة

يعد التراث في شتى فروعه، وبكل قيمه الفكرية والروحية نبعاً فياضاً يستقى منه الشعراء على اختلاف مشاربهم، وإن كان ” بدر شاكر السياب” أحد الشعراء المعاصرين الذين نهلوا من هذا الفيض الدافق، إلا أنه تميز بقدرته على الصياغة التعبيرية التي تسم أسلوبه بسمات جمالية دلالية وفنية، تضفي على التجربة عمقاً وتأصيلاً.

 وقد تنوع استلهام التراث في شعر (السياب)، وإن كان التراث الديني أكثر ظهوراً في شعره، وجاء تعامل (السياب) مع التراث الديني بأشكال متعددة؛ كاستلهام التعابير الدينية ما بين قرآنية ونبوية، لكن الظاهرة الاستدعائية التي نقف عندها هنا هي استدعاء القصص القرآني؛ إذ يأتي استدعاء النص القرآني متنوعاً ما بين الاتكاء على البعد الدلالي وحده، أو البعد الصياغي الخالص المهم في ذلك أن الخطاب الشعري كان يمتص الخطاب القرآني في إطار من القداسة التي تكسب الخطاب الشعري نوعاً من التعالي والسمو، وتمنحه قدرات إضافية ليمارس فاعليته في التعامل مع الواقع.

 هذا، وقد جاء توظيف القصص القرآني في شعر السياب وغرسه في البناء الشعري باعتباره أحد لبناته، وإن كان ذلك لا يحول دون المتلقي ورد الصياغة إلى مصدرها الأصلي عن طريق تداعي المعاني، وإن ظهرت هذه القصة (قصة أيوب عليه السلام) في حلة جديدة، فإن طاقاتها الإيحائية تعمل في أعماق اللاشعور حتى تصل إلى استثارة مخزونها النفسي / الدلالي في وعي المتلقي، وهذا ما ظهر في قصيدة السياب “سفر أيوب ” حيث يقول :

لكَ الحـَمدُ مهما استطالَ البـــلاء
ومهمــا استبدَّ الألـم
لكَ الحمدُ إنَّ الرزايـا عطـــاء
وإنَّ المَصيبــات بعض الكـَـــرَم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجـِـــراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح
لك الحمد، ان الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدر ِ باقتــها
هداياكَ في خافقي لا تَغيــب
هاتها… هداياكَ مقبولــةُ
أشد جراحي وأهتف
بالعائديــن
ألا فانظروا واحسدونــي
فهذى هدايا حبيبي
وإن مسّت النار حرّ الجبين
توهّمتُها قُبلة منك مجبولة من لهيب.
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتبـاً بعد ذاكَ الشفـــاء

 حيث يتجلى ـ للقراءة الأولى ـ من عنوان القصيدة أن القصة قد اتخذت في نفس الشاعر مساراً نفسياً خاصاً، وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته الراهنة.

 ومن ثمَّ كان تعامل الشاعر مع قصة سيدنا أيوب عليه السلام بهدف إبراز المفارقة التصويرية التي تكشف ملامحها أبعاد رؤيته الشعرية، الأمر الذي يثري ظاهرة التناص من خلال اتساع المدى التأثيري بتدخل أكثر من مرجع في إنتاج دلالة النص الشعري، حيث تتشابه الرؤى والمواقف التي تمتد في نسيج التجربة، وتتداخل مع اقتباساته لتلتحم ببنية الدلالة الكلية، فتفجر طاقاتها الإيحائية والنفسية، وتشد النص إلى دائرتها وتحركه في إطارها.

لقد لجأ الشاعر في المقطع الأول إلى تجسيد المجرد، (فالألم عطاء)، و(الرزايا ندى)، و(الجرح هدايا الحبيب)، إن التشبيه البليغ هنا يعكس حالة من الرضا الذي يبديه الحبيب عما يفعل محبوبه، وثمة لمحة صوفية يعنيها (السياب) (فالحبيب رمز للذات الإلهية).

ويتجاوز السياب مرحلة (الرضا) إلى مرحلة (الشكر):

لكَ الحـَمدُ مهما استطالَ البـــلاء

لكَ الحمدُ إن ٌ الرزايـا عطـــاء

لك الحمد، ان الرزايا ندى

 لك الحمد يا رامياً بالقدر

والملاحظ اعتماد (السياب) على ظاهرة التكرار، واستخدامه كبنية أسلوبية تلعب دوراً بارزاً في كشف إبداعية النص الشعري، إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتري المبدع، ويهدف بصورة عامة إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي، إذ ينزع إلى إبراز إيقاع درامي سيكولوجي.

واللفظ المكرر (لك الحمد) يمثل بؤرة أو نقطة ساطعة في جسم القصيدة تجذب نحوها الوسائل الفنية الأخرى لتتحد كلها وتسهم في كشف وإزالة الأغلفة التي تحمل في طياتها المعنى الحقيقي، فضلاً عن دوره في إثراء موسيقية النص من خلال الإيحاء بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره.

 إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي، وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.

 ومن خلال عملية انتخاب واعية لوحدة خطابية بعينها، تقيم مسافة فارقة بينها وبين مجمل الخطاب، وتقارب في الوقت نفسه بينها وبين السياق الذي ترد فيه يأتي استخدام الاستفهام؛ إذ يرى (السياب) في كل ما حوله من مظاهر مريرة لواقع غريب مواضع استفهام وتساؤل، ينبض بهما وجدانه فينعكسان على لغته وأسلوبه، والشاعر يعمد في كل هذا إلى توظيف السؤال في خلق المفارقة، وفي توليد المعاني التي تتفجر بها تجربته.

ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟

 إن الاستفهام أداة لتحويل الرؤيا من وجود ” بالقوة ” إلى وجود ” بالفعل ” ليس كمتحقق ولكن كوجود نصي شعري تتضايف فيه جميع العناصر في سباق يمنحها انسجامها على المستوى العميق، فالشاعر يوظف الاستفهام لأداء معنى غير قابل للتأطير تحت تحديدات بعينها، بل ربما كان غير قابل للتحديد إطلاقاً محتمياً بما يفتتحه تشكيله اللغوي من دوائر إيحائية رحبة.

 يستخدم الشاعر الاستفهام لإثراء تجربته وتجديد حيويتها وإكسابها دلالات نفسية تجعل قضاياه أكثر إعمالاً في نفس المتلقي مما لو ألقيت هذه المعاني خالية من أسلوب الاستفهام، إذ يزداد اقتناعه وتأثره بها لأنه شارك المبدع في تجربته ليصل بنفسه إلى مضمونها، ويستنبط الجواب دون أن يُملى عليه، واعياً أبعاده الدلالية والنفسية، ليصل إلى حقيقة مؤداها (الرضا بالقضاء والقدر في حالة العسر واليسر).

وكم كان ” السياب ” واعياً لفاعلية الاستفهام في تجسيم هذا المونولوج الداخلي:

هداياكَ في خافقي لا تَغيــب
هاتها… هداياكَ مقبولــةُ
أشد جراحي وأهتف
بالعائديــن
ألا فانظروا واحسدونــي
فهذى هدايا حبيبي

 إن ( السياب) بهذا الفعل يدل على عمق يقينه وإيمانه بالله، وأنّ المصاب مهما كان عظيماً فهو هدية من الحبيب، فالشاعر يؤكد حبّه لربه، ويرى أنّ الابتلاء كلما اشتد، دّل على عِظم محبة الله عز وجل لعبده، فأشد الناس بلاءً الأنبياء فالأمثل فالأمثل، فهو راضٍ صابر محتسب، وقد جاء استعمال حرف التنبيه (ألا) ليلفت انتباه القارئ، ويطالب الآخرين بأن يحسدوه على ما يعانيه من أمراض وأوجاع، فهي عطايا وهدايا تميزه عن غيره فهو يرى أنها علامة قرب من الله.

ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر

يرتبط الليل في العمل الشعري بدلالة النص حيث يبلور الشاعر من خلاله لحظة خاصة تضرب بجذورها في أعماقه، ومن ثم يكتسب مغزاه من خلال ارتباطه بالخبرة الإنسانية، أي بصفته معنى داخلياً وصيغة للتأمل، وتأتي صورة الليل في شعر (السياب) حاملة دلالات اليأس، والهم، والحزن، والأسى، والقهر، والظلم، والظلمة التي ترتبط بغياب النور / الأمل الذي يبدد عتمة الروح.

 وها هو الشاعر في غياهب الألم تسري روحه في أبعاد الفضاء باحثة عن الأمل الذي يخلصه من أسر أوجاعه، لكن هيهات فالليل / الألم مدركه وإن خال عنه المنتأى واسعاً!

يلجأ الشاعر في هذه الصورة إلى التشخيص إيماناً منه أن جميع مظاهر الكون الحسية والمعنوية إنما تجمع بينها الوحدة العميقة والعلاقات الوثيقة، والأشياء التي حولنا لها حياة خفية وكيان يشبه كياننا!

ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر

 فالشاعر جعل الليل رمزاً للمعاناة، وفي هذا الصمت الرهيب لا يمر الليل بل يمتد ويمتد، ويقذف الشاعر بوابل من الطلقات المتتابعة من الهموم والأحزان التي تنثال عبر المشاهد المؤلمة، إذ يصف لنا آلامه وعلاقته بالليل، فهو في الليل دائم السهر، وكأنّه نابغي يرعى النجوم، وإسناد الفعل (تغيب) لغير فاعله ـ فالشمس هي التي تغيب لا النجوم ـ يعكس الأزمة الشديدة التي يعيشها، والتي يحاول أن يتعايش معها؛إذ يصف الأرق والليل بالجمال، في محاولة منه لتخفيف وطأة آلامه وإن كان الأمر عكس ذلك؛فكأن الشاعر وصل به الحال إلى ائتلاف الأضداد؛ لدرجة إعجابه بصوت أبواق السيارات، وأصداء البوم، وآهات المرضى، مما يعني أنه اعتاد هذه الأصوات التي تلازمه ليل نهار.

 وتزداد الصورة الرمزية هنا ثراءً وإيحاءً لاعتماد الشاعر في بنائها على الروابط النفسية والشعورية العميقة، ففي الصورة التشبيهية (غابات ليل السهاد) يرتبط الطرفان برابط نفسي عميق، فكلاهما مؤلم؛ الليل بهمومه وأحزانه التي تخترق القلب، والسهاد بهواجسه التي تبدد الروح وترهق الجسد.

إن استلهام الشاعر للأعلام يأتي كأصوات إضافية تحمل إسقاطات دلالية على الواقع المعيش، حيث يلتحم سياق الماضي بالحاضر ليوحي بأبعاد المفارقة.

وهكذا تكتسب تجربة الشاعرـ باستدعاء هذه الشخصيات التراثية ـ غنى وأصالة وشمولاً في الوقت ذاته، فهي تغنى بانفتاحها على هذه الينابيع الدائمة التدفق بإمكانات الإيحاء ووسائل التأثير، وتكتسب أصالة وعراقة باكتسابها هذا البعد التراثي الديني، وأخيراً تكتسب شمولاً وكلية بتحررها من إطار الجزئية والآنية إلى الاندماج في الكلي والمطلق.

 ومن ثم، فإنه على قدر وعى الشاعر بملابسات الواقع الذي يعايشه، وإدراكه لأبعاد العلاقات بين أفراده، يتضح موقفه الفكري إزاء، وتتحدد رؤيته له، ويتجسد تعبيره عنه.

والمتابع لشعر (السياب) يدرك أن أظهر خواصه أنه خطاب مفتوح مهيأ لاستقبال أصوات إضافية تجعل من وعيه الفردي وعياً متعدداً، وتجعل من صوته المفرد أصواتاً متعددة، حيث يمثل الاستدعاء ـ على كافة مستوياته ـ ركيزة أساسية في إنتاج المعنى في شعره.

مقالات من نفس القسم