لينة كريدية في روايتها «خان زاده» وتفكيك الذاكرة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

أظنني مثل كثيرين أصابتهم الدهشة حينما قرأوا رواية «خان زاده» للناشرة والروائية اللبنانية لينة كريدية, الصادرة حديثا عن دار الآداب (بيروت), ليس فقط للزخم الذي يحويه عالم الرواية, ولكن لكون الرواية هي الأولى للكاتبة التي أظهرت نضجا في التعامل مع هذا الفن الصعب, ولعل لينة كريدية أدركت مسبقا أن الكتابة مغامرة ليست سهلة؛ لذا فضَّلت الاشتغال على نصها سنوات بدلا من النشر السريع الذي ربما لن يحقق لصاحبه النجاح.

تروى أحداث الرواية في «خان زاده» من خلال وجهة نظر الراوية ورؤيتها للعالم، وهو ما جعل منها رواية مونولوجية بامتياز, حيث تقوم الراوية، وهي في الوقت نفسه إحدى شخصيات الرواية الرئيسة, باستحضار الماضي كله في جلسة واحدة, لاسترجاعه، لأن المستحضر لا يكتفي بتذكر شيء أو شخص من الماضي، ولكنه يحاول إيهام نفسه–وإيهامنا بطبيعة الحال- بمثول ذلك الشيء أو الكائن بين يديه وبمعاصرته, وكأننا أمام شريط سينمائي طويل, تستعيد الراوية مشاهده وأحداثه في أماكن متعددة.

ويمكننا أن نلاحظ أن التذكر- ولعله يحمل في طياته رغبة في النسيان – يتم عن طريق التداعي.وتنبغي الإشارة إلى أن منطق التداعي هو الذي يحكم الكثير من الأحداث في الرواية، فيحل بصورة رئيسة محل الترتيب الزمني والسببية على مستوى الذاكرة التي تولد النص، إذ ينتقل الذهن من ذكرى إلى ما بعدها بحسب ما تمليه علاقات التداعي، مثل علاقة التقابل والمنطق والتخيل, وهي علاقة معقدة ذات اتجاهات متعددة ومتغيرة باستمرار.

واللافت للانتباه أن التذكر يتم في لحظة حاسمة من لحظات الذات التي تلجأ إليه من أجل التحرر من ثقل اللحظة الراهنة التي تتسم بالقسوة وبالتوتر. فالراوية امرأة في الخمسين من عمرها تعيش وحيدة في بيت بسوق الغرب بعد أن غادرت مدينتها بيروت. تتعذب بخيبات الجسد الذي شاخ في غفلة منها, لا يشاركها وحدتها تلك سوى كلبها الهرم وعلبة السجائر وزجاجات الخمور, وذاكرة تبدو ثقيلة الوطء –لا نجاة منها- تسكنها أشباح لشخصيات متعددة، وما يؤكد شبحية تلك الشخصيات هو اقتران حضورها بالليل, تحاول الراوية أن ترسم لها صورا من الذاكرة من أجل إسقاطها في قبضتها, أو ربما لتتعرف ملامحها الحقيقية:

«وأخيرا أعود إلى المنزل حيث ينتظرني كلبي العجوز وزجاجة من النبيذ. اثنان يؤنسان وحدتي التي اعتدتها مع مرور الأيام. الطقوس المتكررة يوميا للسيناريو المعتاد. أتكور في مقعدي الذي تأقلم مع منحنياتي، وأطمئن لوجود علبة الدخان والولاعة والمنفضة, وأطمئن لوجود علبة الدخان في المكان المخصص للكروزات» .(خان زاده ص5).

تتذكر الراوية صديقتيها جيهان وروعة وهما شخصيتان تحتلان بوجودهما مساحة كبيرة داخل السرد بالرواية, تتأمل حال جيهان التي بدأت حياتها مناضلة وثورية في الجامعة وانتهى بها المطاف بعد علاقة عاطفية طويلة دمرتها-مع زميلها بالجامعة سمير الذي تخلى عنها وتزوج بأخرى – إلى التعصب والمذهبية في كل شيء, فانغلقت على نفسها, وسجنت وعيها في أزمنة ماضية لا تكف عن الحديث عنها, ، فاكتفت بسماع أغانٍ قديمة لمحمد عبد المطلب وأم كلثوم وناظم الغزالي وبالسخرية من كل ما يدور حولها، أما صديقتها روعة, التي تنتمي لعائلة متسلطة لا تهتم سوى بالمظاهر, فقد اكتفت بالزواج من شخص بائس اختاروه لها, وظلت تعيش معه حياة تعيسة لا طعم لها ولا رائحة.

نحن هنا أمام راوية تبحث عن أشباه لها فيمن حولها وتؤرخ لانكساراتهم الشخصية ومصائرهم المؤلمة.

 ومن هذه الشخصيات، أيضا، شخصية العم أسامة، تراه الراوية شبيها لها من وجهة نظرها, ربما لأنه عاش عمره كله, ضاربا عرض الحائط بكل التقاليد والعادات, مغردا خارج السرب, تتأمل حياته المتمردة وتراه أيقونة الحرية والتمرد. غادر منزل العائلة في بيروت ليعيش حياته- كما أرادها – تماما كما اختارت هي العيش وحيدة في سوق الغرب وتمسكت بحريتها الفردية واستقلالها- حيث لا طقوس دينية ولا ارتباط بفكرة الحلال والحرام. متنقلا بين مغامراته الجنسية المتعددة.

أما شخصية «خان زاده» التي جعلتها عنوانا لروايتها فلعلها دفعت القارئ لأن يظن لوهلة أنها الراوية أو إحدى الشخصيات الرئيسة التي تتمحور حولها الأحداث, فيما هي واحدة من شخصيات نسائية كثيرة مهمشة تحكي عنها الرواية وتبدي تعاطفا تجاهها، فهي عمة الراوية, ولعلها أحد الوجوه المتعددة للراوية، والتي ربما تحرص على إخفائه بعيدا، أو إنكاره- إذا جاز التعبير:

«ومن قال إنّ لي وجها واحدا ؟!

أنا المتعددة الوجوه، المتعددة الأقنعة؟

لم يكن لخان زاده, حبيبتك وعمتك ومربيتك، سوى وجه واحد».(خان زاده, ص 60).

 فخان زاده – من وجهة نظرالراوية والتي تفشل في التصالح مع نفسها- هي القديسة التي أعطت للجميع كل شيء ولم تأخذ شيئا أبدا, وهي رمز لكل النساء اللائي وهبن حياتهن من أجل إسعاد الآخرين، ولربما أرادت الكاتبة باختيارها لهذه الشخصية عنوانا للرواية إعادة الاعتبار لها ولكل المهمشات من النساء اللائي لا تخفي الراوية تعاطفها معهن:

«أحملها في قلبي ولا أشبهها، وأنا مثلها في كل شيء, سأرحل كما رحلت، هي القديسة، وسأطوي قصتي كملايين النساء كل منهن تطوي قصتها، كلهن خان زاده، رحلن دون أثر يذكر».(خان زاده ص59).

لكن أليست الراوية واحدة من أولئك النساء المعذبات, هي التي عاشت إخفاقاتها العاطفية المتتالية مع الرجال الذين منحتهم الحب، ودفعت سنوات من عمرها ثمنا للتضحية من أجل تلك المشاعر.واكتوت بنار الأنانية الذكورية التي دمرت حياتها عبر علاقتين متواليتين: الأولي كانت مع نضال, الرجل ذي العلاقات النسائية المتعددة, المصاب بداء ملاحقة القتيات صغيرات السن, الذي احتملت نزقه- دون جدوى- لأكثر من سبع سنوات، على أمل أن يشفى من هذا الداء المزمن، وليس أدل على حجم المعاناة الهائلة التي لاقتها في هذه العلاقة من تصوير الراوية لها بأنها تشبه العيش في بيروت،، حياة تتسم بالرعب والخوف, حياة تمضي تحت القذائف وأزير الرصاص، والترقب لما ستأتي به الحروب الأهلية.

أما العلاقة الثانية للراوية, فكانت مع رامي, الشاب ذي الطلعة الهوليودية الذي رغب في السيطرة عليها مدفوعا بمشاعر الذكورة التي تتطاحن مع عصريته، وشرقيته المستوطنة في لا وعيه ويتزوج في النهاية بامرأة أخرى.

نلاحظ كذلك أن المكان الذي تستدعيه الراوية-هونفسه مسقط رأسها-, وهو مدينة بيروت والتي دمرتها الحرب الأهلية «الطائفية» اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي، نجدها تتأمل حالها وكأنها تتأمل صورتها في المرآة. تكتب عنها بعصب عارٍ وبرغبة محمومة في فضح كل المسكوت عنه حين يتم الحديث عن تلك المدينة ذات الوجوه المتعددة, المثيرة للتأمل والدهشة معا. فتسخر

الراوية مثلا من الفكرة الشائعة عن بيروت بأنها مدينة مفتوحة، لأن أهلها هم الأكثر انغلاقا على أنفسهم. وتدلل على ذلك بعادات كثير من البيارتة, الذين لا يحبون التزوج إلا من محيطهم, ولا يرحبون بالوافدين إليها:

«أهل هذه المدينة غير أهل بقية المدن، لا يرحبون بالقادمين إليها, بل يعتبرونهم عبئا عليها». (خان زاده، ص 11).

ويمكنني أن أقول- باطمئنان شديد – إن فعل التذكر الذي تقوم به الذات الراوية على امتداد الرواية كلها ليس مبعثه الحنين أبدا, إذ إنها لا تنظر إلى الماضي باعتباره فردوسا مفقودا، بل هو في الحقيقة – كما أتصور- مصدر كل ألم تتعذب به. وهو ما يبرر لجوء الراوية إلى ما يمكن تسميته بـ»تفكيك الذاكرة» أو استعراضها – إن جاز التوصيف -ولعله أحد رهانات العلاج المستخدمة بالتحليل النفسي بغية أن تنطلق القدرة على التذكر انطلاقا جديدا.

 

مقالات من نفس القسم