فيلم لأمي

صفاء النجار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تشحذ أمي موس الحلاقة، أقلدها، أجرب الموس الحاد على طرف إبهامي.

تمسك بزوجة أبي، تقيدها إلى الكرسي المرتفع حيث مسقط الضوء والأزهار الصفراء التي تميل مع الشمس، أقترب منها، خطواتي بطيئة مدربة، أمسك برأسها أضمها إلى صدري، يرتجف شعرها الأسود تحت ذقني، بالموس الحاد أشطر عينها اليسرى، تلمع عينا أمي، تزيحها وتجلس على الكرسي، تزداد لمعة العينين ويتجمع في بؤبؤهما الحكاية التي تريني إياها كل صباح: تقيد زوجة الأب الولد الصغير، تذبحه .ترمش عينا أمي: يعود الأب من الصيد وتقدم له الزوجة العشاء.

ترمش عينا أمي: يمصمص الأب عظام الصغير ويرميها بجوار الحائط وينهض لينام.

ترمش عينا أمي: تتسحب أخت الولد، تجمع عظامه، تربت عليها، تتحول إلى ديك أخضر. ترمش عينا أمي: يقف الديك الأخضر فوق سطح الدار ويصيح ككوكو.. ككوكو…

تفتح أمي عينيها ولا تغلقهما، تتنهد، أجلس تحت قدمها، تربت على شعري وتردد:

مسكين لا أخت لك تجمع ما يتبقى منك.

تحتضن الطفل الرضيع، تعطيه ثديها، يمتص دموعا وحزنا، يعتصر الجوع أمعاءه، تهدهده:

نام نام.. سأكتب اليوم القصة وغدا أنت تخرجها.

“شابة جميلة تنتظر عودة حبيبها من الحرب.”

تمر السنوات، تصفر الورقة، تذبل، تقع، تغيرها

“شابة تنتظر عودة والد طفلها من الخليج.”

تمر السنوات، تصفر الورقة، تتكرمش، تقع، تغيرها

“أم مريضة تنتظر ابنها.”

أوزع الأدوار:

– هذا الدور تمثله ممثلة عجوز. تمثله زوجة أبي.

بحسرة تردد:

– أبوك معه حق.

ثم تبتسم وهي تفتش ملابسي الداخلية.

هل تجلس معها؟ وحدكما؟

تقهقه وهي تسحب الصورة العارية من تحت مخدتي

– تحتاج إلى حضن شاب قوي مثلك، أبوك عجز.

تأتي بها للمنزل، تستدرجها، تقبلني في فمي تلحس بلسانها الدافئ طرف حافة شاربي النابت، يزحف لساني.. فجأة تبعدني عنها:

– يمكنني أن أقوم بهذا الدور.

تغمز لي بطرف عينها الأيمن.أتجمد في مكاني ولا أتبعها.

 تتولد مرارة صفراء في فمها، وقبل أن تخرج تدهس بقدميها الصورة الصغيرة المشطورة إلى جوار الكرسي المرتفع حيث مسقط الضوء والأزهار الصفراء التي تميل مع الشمس.

**

أصعد سلالم مستشفي القصر العيني الجديد، الجو بارد والضباب يغلف المكان،

على السلالم تتدافع كل مشاهدها القديمة، كجندي قوقازي يضرب بسيفه تدفعني للخلف، أتعثر.. تنزلق عربة الطفل الصغير، تسقط على السلالم الرخامية الباردة.. طق، طق، طق 

أندفع مجذوبا لعالمها مشدودا لمدارها الذي خلقته وبقي لي رحما دافئا، خيوطا حريرية، شرنقة. مستسلما لإغوائها تنمو رغباتي.. أوهامي. يتخلق عالمي في صالتنا ذات الإضاءة الخافتة استعدادا دائما لعرض جديد، لنقطة ضوء تسقط على الشريط السلوليد، فتتحرك أمي ضوءا وظلالا وعندما تموت غادة الكاميليا ويبدأ الولد في االنحيب، تتقدم مني “مارلين ديتريتش”  ناعمة شهية وهي تغني:

 احذروا النساء الشقراوات

فأنا مخلوقة للحب

من الرأس إلى أخمص القدم

أتناوم فتضيء شمعة بجوار المرآة وتنظر إلى وجهها تتفحصه، تقترب.. تقترب وقد ملأ وجهها المرآة، وبانت ثغوره، أغمض عيني رعبا…، تبتعد، ويعود الكرسي إلى موضعه. أفتح عيني، يتلون وجهها بحزن بنفسجي، تنظر إلى وتطفئ الشمعة.

من يفكر في الخروج من الجنة وشريط العرض لدائم!!

– أمي مع من سنتناول الغداء اليوم ؟

يدخل “كلارك جيبل” بشاربه الرفيع.

– مع من سنتناول العشاء اليوم يا أمي؟

يدخل “جيمس دين”.على دراجته النارية يرفع البيريه ويهديها أزهار الجلاديولس  

والدتك غريبة الأطوار.

 هكذا يردد أصدقائي، لكنني لن أصدقهم. فقط سأردد بحزن ما يقولون، لتحرمني تلك الليلة من العشاء. أنطوي وحدي في السرير، تناولني الدادة كوب لبن، أتجرعه على مضض، بينما ضحكاتها تجلجل وهي تستمع إلى نكات “مارلون براندو” بصوته الأجش.

 – أعتذر يا أمي.

 لا ترفع عينيها عن الفضيات التي بيدها، تصيح:

– اختفت سكينة وشوكتان..ياربي!! حتى الخدم يسرقونني.

 عند الظهيرة تخرج “فردوس محمد” من البوابة وهي تردد: 

رزق الغلابة على الله.

تعاقب الجميع

هل انتهيت من واجباتك اليوم؟

شاهدت فيلمي “كلب أندلسي” و”المدرعة بوتميكين”

لن تنام قبل أن تشاهد “عيادة كاليجارو”.

قدمي ثقيلتان والصعود شاق. أخوض تجربتي الأولى، تحوم ظلالها على جلسة توزيع الأدوار.

– سأمول هذا الفيلم بكل ما أملك.

أختار زوجة أبي لدور المرأة العجوز، سترى أمي غريمتها شاحبة، مريضة، وبجوارها رجل يشبهني عدا شعره الأبيض وابتسامته الساخرة. 

فما الذي أغضبها؟! 

تلهث ساعتي الداخلية، تدور خلاياي في أفلاكها بسرعة الضوء بينما جسدي ساكن مربوط بين أمرها:

– كن مخرجا 

وصرختي:

– ستوب

***

الممر الطويل البارد على جانبيه لافتات تحدد الاتجاهات.. قسطرة القلب، الإدارة، قسم السكتة الدماغية، وحدة الكبد في نهاية الطرقة التي تبدو دون نهاية. يتلوى الممر الطويل، يأخذ شكل الذبذبات قمم وقيعان، من أحد الانتفاخات يخرج أحدهم، يقترب منك، تسأله عن الحالة، يجيب من تحت نظارته:

– تليف كامل بالكبد، استسقاء، فشل في وظائف الكلى، التهاب في الحالب، سكر، ضغط …

 تستوثق منه: أمي أنا ؟!

يعطيك ظهره ويمضي.

تنفجر القمم في الجدار الملتوي عن أنابيب مطاطية رفيعة تصب سائلا أصفر في زجاجات بلاستيكية. يبدل ممرض الزجاجات المليئة بأخرى فارغة، تستحلفه ألا يلقي بهذه الزجاجات في التواليت وأن تحتفظ بها .

تعرف رائحة هذا السائل.. يشبه رائحتك. لو عصروك في المعصرة “البراون” سيكون عصيرك بنفس الكثافة.

يسحبك سائلك الأصفر، تدفع الباب رقم 5،  تهمس لك الممرضة:

– نجري لها عملية بزل، للتخلص من السائل الذي يضغط على الأحشاء.

تتساقط قطرات “الألبومين” – الدواء الوحيد الذي ستحتفظ باسمه-  في أنبوب وحيد يمتد إلى وريد سيدة لا تعرفها، سيدة تشبه جدتك تماما.

تستريح خلاياك:

– الحمد لله ،أمي بخير.

يصيح المساعد:

 – أستاذ المدام جاهزة.

 تستند إلى كرسيك:

– سكوت، أكشن. 

الملاءة البيضاء تغطي وجهها، تقترب من السرير، على الكومدينو سرنجة مستكينة بها بعضا من دمي، صندوق صدفي به ملاعق فضية، قصاصات من إعلانات مبوبة في جريدة الأهرام عن حاجة لسائق يشبه “مارلين براندو”،.. وأسفله رقم هاتف لم يتغير، فقط زادت أرقامه، عدد قديم من مجلة الكواكب،على غلافه نجمة تستعرض حسيتها بين ذراعي مكتشفها..

مثلت النجمة الشابة دور صديقة البطلة في فيلمين، ومثلت دور البطولة في فيلم وفشلت فشلا ذريعا. فالموهبة الجديدة  لم تكن تجيد غير تمثيل نفسها، لم تستطع أن تخرج من جلدها، كانا ملتصقين وكانت بحاجة إلى جراحة لفصلهما، لكنها كانت تخاف الدماء والمخاطرة.

بجوارها مرآة مشروخة، أرى فيها وجهي. 

 تقبل رأسها دون أن تكتشف عن وجهها، تتركه في وحدته الأبدية.

 حين تفرد الأمهات أجنحتهن وتزوي أخر نقطة ضوء منهن يغافلن الجميع ويحتفظن بمسرات صغارهن في جيوبهن ويمضين خفيفات دون إحساس بالذنب.

تدرك جيدا عبث الأمهات فتشدد على الحانوتي أن يصنع كفنا دون جيوب، تعاندك أمك تغافلك وتصنع لنفسها جيوبا تحت خطوط جلدها، تمتلئ بهناءتك الصغيرة وحتى بوصلة اتجاهاتك، لذا لن ترى أبدا تجعيدات أمك وستمضي عمرك دون أن تعرفها بما يجعلك تمنح دورها لامرأة أخرى، تحنو عليك بعيون منتفخة

– استرح قليلا، أنت مجهد.

 عند طرف السرير كان أصبع قدمها الكبير ظاهرا، لونه أصفر وظفره مطلي بلون أرجواني، انحنيت على قدمها لمسته بأصابعي كان جافا متخشبا، قربت وجهي تشممته، رائحة عرق وعطن، بلساني تحسسته، باطنه خشن، وظاهره ناعم، بارد، أدخلته في فمي ولم أستطع أن أفلته وبقيت أمصه.

تعود الممرضة، تلمس كتفك، تبتسم:

ما رأيك يا أستاذ هل أديت دوري جيدا.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال