البصراط

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

في البصراط كان مندوب الشئون الاجتماعية ينادي على الأهالي:

_  على السادة المهجرين الوقوف بانتظام أمام مجمع المدارس.

  أمي تحمل بقجة كبيرة فوق رأسها وكذلك شقيقتي فاطمة والباتعة هي الأخرى، تضع الطست النحاس فوق رأسها وبداخله الأوعية البلاستيكية والنحاس، أم اللول تزعق على العم عابدين فيأتي وقد رمي بالعزال.

 سرير وبقايا دولاب، كنبة وحيدة وبعض المفارش والملاءات ما بين نظيفة ومتسخة، سايح ينظر الأهالي في تنمر وريبة وأنا الجالس على أرضية البلاط البارد.

 في القرية، سكنّا قريبًا من دورة المياة العمومية، بعيدًا عن المصرف المركزي، صار الفاصل بين كل أسرة وأخرى جدار من ورق الكرتون أو البطاطين الصوف الممزقة بثقوب صغيرة وأخرى كبيرة متسعة، مرقّعة ببعض قطع القماش السكروتة، عم عابدين ينقل حاجياتنا، ينصب الأسرّة، أمي تعقص شعرها تحت قماط وردي معقود فوق إيشارب غزاوي مطعّم بالترتر وفصوص الياشب ليلوح كردان الذهب ضاويًا يطوّق العنق المرمر.

 تسرح بجسدها الفتيّ المنتصب في سماء مجمع المدارس الحبلى بالأزرق، في ثوبها الأسود اللاميه المقصب، أرقب سايح وقد مشى على مهل يرقب العابرات من النسوة قاصدات دورة المياة العمومية، صار لكل أسرة ركنة أو زاوية لنصب الأسرّة، الفصل الدراسي الواحد يجمع عشرة أسر، تم تسكين أكثر من عشرة أسرّة من الحديد، تكوّمت بجانبهم بعض الديسكات الخشبية المتهالكة.

 تدلف الصديقة، تقصد دورة المياة لينظرها العم عابدين في خجل وتأدب، زياط ومرح يختلط ببكاء العجائز، مؤشرات الترانزيستور تدور في مدى شبه منير، أبي لم يأت بعد.

لم يصل حسانين!

  أمي تعلق ملابس البنات فوق مشجب خشبي متهالك أخرجته من شنطة كبيرة مصنوعة من الكتان الأصفر كانت موضوعة فوق دولابي الصغير في غرفة المسافرين هناك، في بيتنا القديم.

 _ أين بيتنا القديم؟

 أسأل نفسي وأنا المستسلم للنعاس، سعال متكرر يرجرج جسدي، شقيقتي فاطمة ترفع كنكة الينسون فوق موقد الغاز وقت أن هبت شرائطه متفحمة، تجلت النار وتعالى اللهب، صارت الخرق مكوّمة في الطرقات، غارقة في هباب يسبح في فضاءات السكن.

 النساء تروح وتجيء قاصدات الحمام وقد وضعت كل واحدة منهن بشكيرًا على كتفها، رأيت سايح ينزوي بعيدًا، يطلب كوب القهوة من يد أمي التي زجرته و نظرت لعم عابدين برقة ذات دلالة وهي تقول:

_ كن قريبًا من البنات ياعابدين.

 

سايح يتوارى خلسة، الصديقة تنتهي من تعليق الملابس، تفرش السرير بملاءة نظيفة من الدمور، تقصد الحمام، عيني تطوف  يصلني صوت التلفاز يعرض فيلم (شيء من الخوف)

  أجتر ما كان وجرى. كم مضى من الأيام والشهور والسنوات!

 «كم الساعة الآن؟».

    أسأل نفسي.

   الليل يزحف في بطء، لا صوت إلا وشيش المياه في الحمام العمومي، سجائر مشتعلة برؤوس حمراء ملتهبة تفر في ظلام الممرات وقرب مدخل الحمام.

  أُذّن للعشاء منذ ساعات، قصدت أمي الحمام، أشعل عابدين سيجارة في طرقة موازية لمدخل سكنتنا المحجوبة عن الخلق بثلاث ملاءات وبطانية من الصوف السميك، دقائق وكان الصراخ وجلبة النساء، الصراخ يتعالى آتيًا من ناحية الحمام العمومي، جرى عابدين ليجد أمي بشعر هائش، تتوسط النسوة في المجمع وقد قبضت بيديها على عنق سايح، تبصق في وجهه، تلعنه و ترفع شبشبها وتهوي به على رأسه، أصرخ وحدي وشقيقاتي يمسكن بي، ضربت كوب الينسون بيدي، زعقت على أبي، زعقت على الصديقة التي بان جلبابها وقد تمزقت طاقة صدره، الفتيات يضربن السايح بأقفاص الجريد وسعف النخيل، التفت عابدين بكل ما أوتي من قوة وهوى بكفه على صدغ السايح وقبض بكلوة يده على بنطاله الشركستين، طوّقه من وسطه، سحبه بعيدًا وقد لاح بشعره المنكوش ممزق الملابس، طرش الدم من فمه وأنفه وعنقه لتصرخ الصديقة مرددة:

«يا خول يا ناقص يا بن الكلاب».

  تهتُ،

 زاد خرسي.

تقيأتُ، سعلتُ،

 أغلقت عينيّ،

صرخت أنادي أبي:

  «أين أنت يا حسانين؟!».

 عابدين يربت كتفي، سار بي بعيدًا يلف جسدي ببطانية روسي وأنا أسأل القادم في الظلام عمّا حدث، أبحث عن أمي باكيًا، كاد قلبي أن يتوقف نبضه وأنا أحدّق لعبور الرجال علّني أراه، لم أر البلطي.

شقيقاتي زدن في البكاء، سمعت أمي الآتية من قبل المدخل العمومي للمجمع وقد بدت في حالة هياج، اختلط بكاؤها بنهنهة، تقول بحدّة:

 «دي أعراض ناس يابن الكلاب، يا نجس». 

ناديت أبي، اجتررتُ ماجرى.

ماذا جرى، من مزّق ملابس الصديقة، ماذا فعل سايح في الظلام

 داخل الحمام العمومي؟

 ماذا فعلت أمي؟!

 من المعتدي ومن المعتدى عليه.

الأطفال تكوّموا في الحوش الكبير يتحلّقون وسط المجمع والفيلم شغّال.

الجد يضرب فرد الحمام بعنف، عتريس الصغير يهز كتفيه، يخلخلهما، يصفعه على صدغه. تراءى لي ذلك في العتمة، عتريس الطفل، الصبي، أسيان يوشك على البكاء، يهزه الجد أو الأب، لا أذكر. يناوله بندقية، ترى يده، نحيلة، وتطير الحمامات من الدار.

الفيلم أبيض وأسود، عيون فؤادة تبرق بحدة، تسرج بالكحل، بالفارق الحاد مابين سواد وبياض الحدقات اللامعة، أنادي الصديقة، أنظر للأرض الجرداء المحروقة، المخشوشنة، الترابية، المغبرة، أنصت لشريط الصوت في شيء من الخوف فيتوقف بي الزمن، أسأل نفسي، أجتر أيامي التي كانت، بدء الرحلة والمستقر.

أمي تشبه فؤادة في عنادها وقلبها الطيب السيال بعسل مصفي، أبي غائب وأنا أجتر ماحدث في الظلام.

_ كم من الأعوام مرت؟

أسأل نفسي مشدوهًا وقد اكتست ملامحي بالبله والخرس،

 – كم عمري الآن؟!

«لو مضى بي  العمر والسنين، لو بلغت من الحكمة والتريث والجبروت والدهاء والجرأة ماهو مخزون بوفرة عند جدي، ومن الغشم القليل أو الكثير القابض على روح أبي حسانين لقتلت سايح البلطي وصرخت في أمي أسألها عما حدث».

 عم عابدين يشعل سيجارة، شاب في الثلاثين يشبهني ينطق بصوت من داخلي، يسأل عم عابدين عمّا حدث.

 لا مجيب، وشيش في رأسي، هدر و طلاسم.

  يطمئنني عابدين:

«أمك  بمئة رجل».

 يعنّفني فتدور رأسي، أستطلع خارطة المكان، ما كنّا فيه وصرنا فأصبحنا، وتلاقت أصوات هؤلاء الخمسة، القابعين بداخلي، بجسدي وروحي ونفسي، خطاب يتكرر في الشك والغضب والهواجس والمرار والقسوة تجاه الصديقة، تعتليني كل شياطين الجحيم، تضاجع أفكاري وتساؤلاتي، أمي تناديني في وهن فلا أرد.

  كانت قد انتهت من الاستحمام، عقصت شعرها بالبشكير الأزرق في أحمر، وقف عم عابدين و بيمناه عصا غليظة برأس ثعبان وباليسرى بطارية تضاء بالحجارة، سيجارته الدانهيل في فمه، زاد احمرارها في الظلام، كحارس راقب الفتيات، تتوسطهن شقيقتي، فاطمة والباتعة، أمسكن بمصابيح الكيروسين والشموع الصغيرة المشتعلة، تتقدمهن الصديقة وقد ارتدت عباءة القطيفة الزرعي، لمع بعنقها سراج  النور الذهبي  يبرز نحرها.

 

بهيّة أمي، فتية، غندورة، ممشوقة القوام، شعرها المسترسل يضيء في ليل السواد، تحت ضوء القمر الراقد في سماء الله، فوق رؤوس الغرباء المهجرين، تجر قدميها في وهن فتهتز الخلاخيل، تسير في بلاد الله خلق الله، مسكينة، قوية، غريبة الأطوار، صموته الصديقة في الغالب، أحب عينيها البارقتين البراقتين، الخضراوين، النجلاوين..

 أتذكرها وهي تهدهدني.

  أشتم رائحتها الجميلة، أريج عطر أنفاسها وهي تلقمني صدرها فأستعيد نشوة سرسوب اللبن الساقط في فم الطفل النونو وهي تقبل أناملي وتلعق أصابعي وتغني لي:

 «جب لك إيه يا صبية عبد الناصر لما مات جاب لي فسل من المنوفية اسمه أنور السادات».

 أضحك، أبكي،

  أناديها في صمت فلا تنظرني،

 منذ ساعات، منذ ليال منذ شهور، منذ سنوات.

 رأسي تدور، أردد في نفسي:

«أكره الصديقة».

  أتوه وأسأل نفسي كل حين

 «من أنا،

 من هي أمي ؟!».

 أكرر على مسمع العم عابدين:

_ متي سيأتي أبي أيتها الصديقة ؟

  من قطع جلبابك وشقّه من وسط الصدر فبانت عوراتك وسالت قطرة الدم الوحيدة من أذنك اليمنى وانفرط شعرك.

  مرَّ بي الحادث مثل كابوس وانكشف الجسد الطاهر فتهت أجترّ وأسأل نفسي من جديد:

_ لو بت فتيًّا، لوصرت في العشرين الآن لقتلت البلطي.

تخيلت نفسي وقد صرت شابًا تمزقه الهواجس والشكوك، أكلم نفسي فيرد الآخرون بداخلي. 

خمسة مختلفو الأعمار والأفكار، تداهمني الهواجس والشكوك:  

 ماذا فعلت الصديقة؟

  وماذا فعل فيها ومعها رغماً عنها.

أستعيد طلتها، ملامحها، جبروتها وقوة شكيمتها، صلابتها عندما تكشر عن أنيابها.

  دارت بي خيالاتي والفيلم لم يزل ينطق بالحوار في أرضية مغبرة داخل شاشة سوداء:

 «باطل، بااااطل».

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون